أدب وفن

مفاهيم ومعايير من عالم الكتابة (2): الكِتابَة والتعبير

الدكتور وجيه فانوس

الكِتابَةُ، في جَوْهَرِ وُجُودِها، تنظيمُ لِبناءٍ فِكْريٍّ ما، وتَّرتيب لهذا البناء في عرضِ موضوعاته؛ ناهيك عن مراعاةِ دِقَّةِ البيان في العرْضِه؛ فضلاً عن حُسْنِ توصيلِ هذا المعروضِ، من مُرْسِلِهِ إلى مُسْتَقْبِلِه. يمكن أن تكون الكتابة، تالياً، على أنواع وتشكُّلات متعدِّدة؛ من أبرزها اثنين. أحدهما إعادة بناءُ معارفٍ مُعَيَّنة، موضوعيَّة، بشكلٍ خاصٍّ، والتَّأليفُ فيما بينها؛ وهذا ما يمكن أن يُسمَّى بالكِتابة التَّوليفِيَّة. أكثر ما تظهرُ هذه الكتابة في مجال وضع الأبحاث والدِّراسات والتَّقارير. وثانيهما، تقديم معارف جديدة، موضوعيَّة أو ذاتيَّة، بشكلٍ خاصٍّ، وعرضها؛ وهذا ما يمكن أن يُعْرَف بالكِتابة الإبداعيَّة. وأكثر ما تظهرُ هذه الكتابة في مجال الأدب، بما فيه من فنون الشِّعر والنَّثر وأنواعهما.

التَّعبير، هو الوضعيَّة التي تُنْقَلُ بها الكتابة من حيِّز التَّفكير الذِّهني المُجَرَّد، في بال مؤلِّفها أو مُبدعها، إلى مجال التَّشَكُّل المادي، باللَّفظِ أو الخَطِّ؛ لِتصبح مادَّةً مسموعةً أو مُشاهَدةً أو مقروءة. فالتَّعبيرُ محطَّةُ انتقالِ الكتابة، من كونها وجوداً بالقوَّة، إن جاز التَّعبير، إلى كوْنِها وجوداً بالفِعل.
تتشكَّل الكتابة، توليفيَّةً كانت أو إبداعيَّةً، عبر عدَّة تجلِيَّات، أو أدوات تعبير؛ من أبرزها الكلام الشَّفهي، فتكون «كتابة شفهيَّة»، تُلْفَظُ باللسان؛ وكذلك الكلام الخطِّي؛ فتكون «كتابة خطِيَّة»، تُدَوَّنُ بالخط. يضاف إلى هذين، ما يمكن أن يُعْرَف بالكلام التَّشكيلي؛ فتكون كتابة يُعَبَّرُ عنها بما يُعْرَف بالفنون التَّشكيليَّة، التي منها الرَّسم والنَّحت والتَّصوير والموسيقى، ناهيك بالفنون المسرحِيَّة التي تنهض على التَّعبير بالصَّوت والحركة واللَّون والإضاءة وما يشاكِلُها في مجالات السِّينما والتِّلفزيون وسواهما.
يُمكن إدراج موضوعات الكتابة ضمن ثلاث تنويعات أساس ينتظمها قطبان مركزيَّان هما الموضوعيَّة والذَّاتيَّة. تتفرَّد الموضوعيَّة في الكتابات، فتقودها إلى المنحى التَّقريري بكل ما فيه من التزام بالواقع وحرفيَّاته. وقد تتفرَّد الذَّاتيَّة في الكتابات، أيضاً، فتقودها إلى المنحى الإنشائيِّ، بكلِّ ما في الإنشائيَّة من تغليب للإحساس والرُّؤى الشَّخصيين، وكل ما قد ينتج عن هذا من ابتعادٍ عن مباشرة الواقع وتحليقٍ في مسارات الإبداع. وقد تتعانق الموضوعيَّة مع الذاتيَّة في الكتابات، فتقود إلى نسيجٍ كتابيٍّ تشترك فيه التَّقريريَّة المباشرة مع الإبداعيَّة الخلاَّقة أو الرُّؤيويَّة.

تقود الموضوعيَّة إلى تحقيق كتابة تنهضُ على نقل للواقع كما هو، بعيداً عن أي تدخُّل من قِبَلِ الكاتب. وهذه الموضوعيَّة تضفي على الكتابة طابعاً تقريريَّاً يميل به إلى الوضوح والمباشرة؛ ومن هذا النَّوعِ من الكتابة يكون ما يُعْرَف بالكتابة التَّوليفيَّة (الإخباريَّة) بأنواعها المتعدِّدة، بما في ذلك كتابة الخبر والتَّقرير والمَحْضَر والبَحْث العِلميّ.
تقود الذاتيَّة إلى تحقيق كتابة تنهض على التَّعبير عن المشاعر الخاصَّة والرُّؤى التي يشهدُ الكاتبُ، من خلالها، لموضوع كتابته؛ وهذا ما يُعْرَفُ بالكتابة الاِبداعيَّة (الإنشائيَّة)، بفنونها وأبرز معطياتها، بما في ذلك الطُّرفة والحكاية والأقصوصة والقصَّة والقصيدة والمسرحيَّة والمشهديَّة (السِّيناريو).
يعملُ تعانق الموضوعيَّة مع الذَّاتيَّة على ما يمكن أن يُعْرَف بالكتابة التَّوليفيَّة-الاِبداعيَّة (الإخباريَّة/الإنشائيَّة)، بمجالاتها المتنوِّعة، بما في ذلك المقالة والرِّسالة والإعلان وكل ما شابَهَ هذه الكتابات.
إذا ما كانت آليَّاتُ (تِقَنِيَّات) الكتابة أساساً لا بُدَّ منه في تحقيقِ الكِتابة، فإنَّ هذه الآليَّات تَظَلُّ مجرَّد قواعد وقوانين وأصول تَنْتَظِمُ العملَ الكِتابيَّ، لكنَّها لا يمكن أن تؤمِّن للعمل حضوراً يميِّزه من سواه من الأعمال الكِتابيَّة الأخرى.
يدخل، ههنا، دَوْرُ الفنِّ في مجال الكتابة؛ فالفنُّ، بهذا المعنى، هو الحضورُ الإنسانيُّ للكاتب، عَبْرَ آليَّات الكتابة؛ مُحَرِّكاً لها، ومختاراً فيما بينها، ومشكِّلاً لشخصيَّةِ وجود الكتابة عَبْرَ هذه الآليَّات.
يقومُ فنُّ الكتابة، ههنا، على أُسِّسٍ متعدِّدةٍ ومتنوِّعةٍ؛ منها ما هو من طبيعة تكوين الكاتب، إذ يرتبط بنفسيَّته ومنطقه وثقافته ومعرفته؛ ومنها ما هو من طبيعة تكوين المجتمع الذي ينطلق منه الكاتب أو يتوجَّه إليه، بما في هذا المجتمع من تقاليد وعادات وأعراف وتقاليد ومفاهيم ولغة وسوى ذلك من أمور فاعلة في الكتابة وناظمة لها في آن.

يُمكن تَعَلُّم آليَّات الكتابة عبر الدَّرس والمراجعة والمِران والتَّجربة والخطأ؛ ويمكن، كذلك، التَّعرُّف على بعض ما في شخصيَّة الكاتب وحضور المجتمع من عناصر ذاتيَّة وثقافيَّة ومعرفيَّة والسَّعي إلى تطويرها أو حسن تفعيلها لصالح الكتابة؛ لكن يبقى حيِّزٌ، غير قابل للتَّحديد العلميِّ والتقعيدي الدَّقيقين، تتحكَّمُ بهِ ظروفٌ غامضةٌ أو عواملٌ متنوِّعةٌ لا يمكن التَّحكُّم بها في تحقُّقِ الكتابة.
من هذا الحَيِّز ما يكونُ بسببٍ من آنيَّة لحظة الكتابة أو طبيعة تداعيات موضوعاتها، أو ما يكونُ بسببٍ من طبيعة تفاعل لغة الكتابة مع تَحَقُّقِ هذه الكتابة، أو ما هو بداعي أيِّ عنصرٍ من عناصر تشكُّلِ الكتابة أو عامل من عوامل قيامها.
يظلُّ التَّركيز على مسؤوليَّةِ هذا «الحيِّز»، غير الممكن تحديده بدقَّةٍ، كبيراً وأساسيَّاً في تحقيق أيِّة كتابة وفاعليَّةِ حضورها اللذان يميِّزاها من سواها.
وإلى اللقاء مع الحلقة
 الثالثة والأخيرة 
(«الكَلامُ» و«المَوْسَقَةُ» في الكِتابة)
——————————–
* دكتوراه في النَّقد الأدبي من جامعة أكسفورد
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى