الموت كآخر مهمة لبطل أفلام مارفل
عامر الطيب
مجاز الرحيل، المقبرة التي على الجدران
تحقّق الشجرة اليابسة أحلام البذرة، يحقّق العجوز النحيل المحتضر أحلام الطفل الذي فتح عينيه على عالم غريب يراه للمرة الأولى، وهكذا تأتي لحظة الموت، لا نهائية، لإكمال كل شيء، حتى وإن كانت مبكرة، فللموت مقاسه الزمني الخاص وهو مقاس يتشكل خارج اعتباراتنا.
يموت النبي بعد انتصار نبوءته، الفنان بعد أداء دوره، على خشبة المسرح أو في الكواليس، يبدو الموت هو المشهد الذي تختتم به الرحلة، المشهد الذي يصدم المتفرجين لفرط ما يكون حقيقياً أو يوجعهم لفرط ما يصبح خللاً فنياً.
القصائد تموت متى ما اكتملت مرة، وهي تجمد على الورق ككلمات، ومرة أخرى وهي تقرأ حتى تبدو مألوفة، الموت يصنع الألفة إذن، هذا ما كنتُ ألمسهُ كلما نظرتُ إلى جسد الميت: جسد ملقى كآلة تم تعطيلها فجأةً، فم لا يبلغ الكلام وصدر مترهل، أحلام ضائعة أو محققة، حياة تُلَّمُ كلها ثم تُودَعُ داخل إغماضة عينين.
عن موت الأب
يقفُ الموت شاخصاً مثل عمود النور، لكن لا يمكن المساس به أو الاقتراب من اسمه، مع أن حكاياته تملأ الكتب والأمكنة والأرواح. إنه الحق أو الحقيقة الوحيدة، وإلا فالوجود ليس سوى وهمٍ مغرٍ وزاهٍ مثل فقاعة صغيرة. انطفاء الفقاعة الذي نعتبره موتها هو حريتها التي تجعلها تعيش مع مياه النهر إلى الأبد
وبالذهاب نحو موت أبي، فإنه ذهاب المسافر بكلماته الأثيرة العزيزة والوجيزة أيضاً، لأن الشاعر لا يرثي أحبته إلا بالكلمات التي يحبها ويحبهم بها أيضاً. واجه أبي الموت بشجاعة وإصرار على الترحال عن حياة لا تستحق أن تعاش، حياة مُوصدة بالأشرار ودناءة الأقارب وتقطع الطرق الطويلة بين الآباء وطفولتهم.
كانت صحته جيدة هو الذي ولد مزارعاً وعاش مزارعاً ومات مزارعاً، لكثير من النخيل والأولاد. وإن لم يكن سياسياً فقد عاش عهد الانقلابات والاحتلال والفوضى والطائفية والفيسبوك المتلاطم بأمواج السذاجة والجهل والسباب. “عَبَر السبعين بثلاث سنوات ومات”، يمكن أن تصير تلك العبارة حداً لحياتنا جميعاً، فمن النادر أن يعيش الأبناء حياة أطول من حياة آبائهم.
ولأن أبي لم يولد في المستشفى فقد طلب منذ البداية أن يبقى بالبيت ومهما كانت تبريراتنا ومشاعرنا اللصيقة. أفسّر ذلك على أن رسائل الموت كانت واضحة، ثمة مؤشرات تشبه صفارات الإنذار تصل الإنسان في أيامه الأخيرة، يشعر عندها أنه مستعد لأن يدخل الكتاب الضخم، كتاب الأبدية، بعد أن أكمل مقدمته القصيرة التي لا تتجاوز الستين أو السبعين عاماً على الأغلب.
مات أبي في المستشفى إذن دون أن يرى أرضه والكثير من أحبته للمرة الأخيرة، دون أن يلوّح لأحد أو يطلب من أحد شيئاً، دون أن يقتنع بأن الأدوية يمكنها أن تصنع شيئاً، دون أن يخشى الموت ورهبته ولم يدرْ على بال أحد أن تكون النهاية سريعة إلى هذا القدر من الشجن، لم نعتقد ولم نتصور أن أبانا القوي، الداعم المحب، الحريص على أبسط الأشياء، الحذر علينا أكثر من حذره على صحته، الذي يترقب مستقبلنا كما يترقب حاضره.
لم نتصور أن أبانا سيموت، لأن موته هو موت الكثير من البهجة والفرح والذكريات، ولأن الحياة خلفه لم تعد تحمل ذلك الألق، بدت خربة ومخيفة، وبدونا أشد استخفافاً لأية ملمة، فقد حدثت الفاجعة الكبرى مبكراً. يأخذ الآباء الكثير من أعمارنا حين يموتون، يكبرون بعيوننا فنشيخ ونترمل وتتلاشى الكلمات الكثيرة داخل غيمة كبيرة من الصمت، ذلك الصمت الذي تعتقدون أنه نسيان ما يلبث أن ينفجر في ساعة معتمة، على شكل قطع لاهبة من الدمع.
الموت روح خفيّة
تقترب لحظة الموت، فيبدأ المهندسون بالإسراع في تدقيق خرائطهم، الآباء المزارعون بترتيب كل شي في الحقل، الشعراء بتجميع قصائدهم، الملحنون بتلحين الكلام المتراكم، الرؤساء لا يتنحون من السلطة، إنهم استثناء طريف ومخجل مع مرارة الأسف. سنة 2013، يؤلف الكاتب تود هنري كتاباً يحقق مبيعات عالية يحمل عنواناً طريفاً “مت فارغاً”. يحاول المؤلف من خلال الفصول أن يحثنا على إنجاز كل أعمالنا قبل أن نرحل، لا فائدة من تأجيل أفكارنا وابتكاراتنا، لن يستفيد الموتى الذين سنجاورهم كما سيستفيد الأحياء الذين سيتذكروننا دائماً.
يشرح تود هنري فكرة كتابه قائلاً إنه أثناء حضوره اجتماع عمل سأل مدير أميركي الحضور: “ما هي أغنى أرض في العالم؟”، فأجابه أحدهم: “بلاد الخليج الغنية بالنفط”. وأضاف آخر: “مناجم الألماس في إفريقيا”. فعقب المدير: “بل هي المقبرة! نعم، إن المقبرة هي أغنى أرض في العالم؛ لأن ملايين البشر رحلوا إليها وهم يحملون الكثير من الأفكار التي لم تخرج للنور”.
الموت في غالب الأحيان لا يتطلب تعريفاً، الحياة هي التي ينبغي علينا أن نعرفها أولاً وأخيراً.
الهرب نحو الحياة
يهرب الإنسان من موته، يفعل كل ما يجعله يؤخر حياته قليلاً وحياة الكائنات التي تعيش معه على الأرض نفسها، الأرض التي ستموت ذات يوم هي الأخرى بعد البرودة الحتمية، وهو موت مشابه لموت الجسد البشري، بل إن النجوم ذاتها التي شاهدت موتنا منذ آلاف السنوات ستذوب لتتلاشى في نهاية الأمر، حسب تنبؤات ستيفن هوكينغ.
ولعل عجز الإنسان عن تجاوز الموت هو الذي يدفعه للعمل وللكتابة محاولاً الخلود بطريقة ما، وكما يحدث ذلك قبل الموت، يحدث قبل الرحيل المرير في قصص الحب، دائماً ثمة قبلة أو خصلة شعر أو مظروف رسالة يبقينا على تواصل مع من غابوا، يوهمنا بأنهم مازالوا هنا.
الموت على الفيسبوك
لم يعد الفيسبوك عالماً افتراضياً لفرط معاشرتنا وطوفاننا حوله لساعات طويلة، حتى أنه بدأ يستحوذ على يومياتنا، نستيقظ مرة بعد مرة على أصدقاء يموتون دون أن نتمكن من رؤية أجسادهم مسجاة على الأسرة، دون يودعوننا، نقتفي كلماتهم الأخيرة علّنا نكشف عن خيط يدلنا على أثر ما، مقبرة إلكترونية تتسع، حسابات تفرغ كبيوت مآتم، لكن كيف يتم التعامل مع صفحة الميت، ألا تبدو كجثة أو شاهدة قبر؟
شخصياً يصير الأمر مريراً بالنسبة لي، أسارع لحذف المحادثة فيما بيننا ثم إلغاء الصداقة، أن الحزن كمبعث للحياة هو الذي يدفعني لفعل ذلك، لا أود أن أرى أصدقائي موتى، أريد أن تستمر حياتهم غير مخدوشة بالذهن، ومن أجل ذلك أوصي رفاقي بحذف صداقتي إن متُّ، لأنني أحبكم بمقدار ما أهبكم مما أعرفه، أسمح لكم ألا تروني بينكم ألا حياً.
مشهد موتي
هل يمكنني أن أصف لحظة موتي؟ إنه ليس تساؤلاً مرعباً، وإن كان كذلك فينبغي التصالح معه، تخيّل نفسي ميتاً هو العمل الأقرب للشعرية بالنسبة لي، حيث المخيلة الشجاعة تستشرفُ والمتواطئة تستذكر فحسب. لكنْ ألا تلزمني اللغة بمحاولة وصف ما لم يحدث؟ ألا تكتب القصيدة نفسها بصرامة مشهد موت؟
ها أنا أروي القصة كما لو أنها شطحة، يتم نقلي إلى البيت بمرارة بعد يأس الطب من تقديم جدوى، أوزّعُ نظري حيث الجدران وما يتسرب من ضوء بعيد ورائحة أشجار، فيما يضيع الكلام الذي أسمعه من حولي. إنني أستسلمُ للحظة التي تجيء بوقتها المناسب دائماً، إنني أرحل مشبعاً بالحياة أو مكتفياً بالنزر القليل منها.
إنني أموت، لا يمكنني قول تلك العبارة لاحقاً وذلك لغز الموت اللغوي. بعد مضي سنوات طويلة سيكون ذلك الكلام قاسياً ومؤسفاً، سيكون المشهد مغايراً لما وصفتُ، لكنني أسأل عن الكلمة التي ستقتبس من أحد نصوصي لتصير شاهدة على القبر، عن النص الذي يموت معي والنص الذي يكرّر موتي فترة تلو الأخرى.
أقول أخيراً إننا نموت لنحقق أحلام الكلمات
كاتب و شاعر عراقي
نقلا عن موقع رصيف 22