استقلالٌ في لبنان؟!
الدكتور وجيه فانوس
رئيس ندوة العمل الوطني
أكوام من الأزمات تلفّ الوجودين الوطنيّ والسّياسيّ في لبنان، عشيّة اقتراب موعد الاحتفال الرّسميّ للدّولة بعيد الاستقلال الوطنيّ.
ثمّة تنامٍ متزايد لأزمات سياسيّة، تطال القضاء في جوهر فاعليّته؛ وكأنّ القضاء في لبنان مرتبط بالسّياسة، لا يتمتّع باستقلال فعليّ عنها. تتناول هذه الأزمات تحقيقات جنائيّة، شديدة الحساسيّة والأهميّة وطنيًّا، مرتبطة بقضاة، بحدّ ذاتهم، ومن دون سواهم؛ وتتعلّق، من جهة أخرى، بمفاهيم تتشابك مع مسؤوليّات معيّنة لنوّاب ووزراء، قد يكونوا عُرضة لتحقيق جنائيّ أو حتّى محاكمة قانونيّة.
ثمّة عجز متقصّد عن انعقاد مجلس الوزراء الحاليّ؛ وهو المجلس الذي طال انتظار تشكيل حكومته، أكثر من سنة، غمرتها أمواج عاتية من المآسي الماليّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وعصفت بها رياح ضارية من الهَوان السّياسي المتعاظم. ويبيّن واقع الحال، أنّ الحكومة اللبنانيّة الراهنة، قد باتت، بعد جلساتها التّمهيديّة الأولى، عاقرًا عن عقد أيّ اجتماع لها؛ وكأنّ اجتماعها الرّسميّ هذا، لا يرتبط بمفهوم مشترك للفاعليّة الوطنيّة بين أعضائها، بقدر ما هو معلّق بتحرّك سياسيّ خلافيّ بينهم. ومن النّتائج العمليَّة لهذا الوضع، ما يدفع بلبنان واللّبنانيين إلى مهاوٍ غير مسبوقة، من الخراب والتّشتّت، في تاريخهم السّياسيّ والوطنيّ على حدّ سواء.
ثمّة صراعيّة مرعبة في اتّخاذ قرار داخليّ سياديّ سياسيّ، يتعلّق بمصير وزير فرد؛ إذ، وكما يبدو، لا بدّ من انتظار، في مجالات هذا القرار، لتدخّلات ومداخلات من دول عربيّة وأخرى إقليميّة، بل وحتّى من دول أوروبيّة وأميركيّة.
ثمّة كذلك، وَهْنٌ أمنيّ يرتبط، ارتباطاً عضويّا وثيقًا، بوجود السّلطة الأمنيّة ومهابتها الوطنيّة. إذ، شهد العالَم بأسره، مؤخّرًا، صدور تسويغ رسميّ عن وزارة الداخليّة اللّبنانيّة، لمواكبة حرس مسلّح، غير لبناني، لبعض الفرق الرياضيّة الضّيفة، الوافدة إلى لبنان، بداعي حمايتها والحفاظ على أمنها؛ وكأنّ الأمن اللّبنانيّ غير قادر على تأمين هذه الحماية.
ثمّة شَلَل في مجالات عمل الإدارة العامّة، وغياب قاتل لمساقات رؤية الدّولة إلى آفاق الزّمن الوطنيّ الآتي. فاللّبنانيون يعاينون اليوم، تحديّات الأشهر القليلة المقبلة؛ أكانَ ذلك لجهة تنظيم انتخابات نيابيّة، أو كان لجهة إنجاز متكامل لاستحقاق انتخابات رئاسة الجمهوريّة؛ وحتّى اللّحظة، فما من رؤية موضوعيّة عمليّة مشتركة تنتظم هذه التّحديات.
ثمّة استمرار للضّياع الوطنيّ، بين جميع اللّبنانيين، أكانوا من ناس الشّبكة الممسكة بالسّلطة، أو من عامّة الشّعب، في القدرة على تحديد المسؤوليّات الوطنيّة في مجالات الفساد الإداريّ وجرائم هدر المال العام وبؤس إدارة النّقد الوطنيّ وتعاظم كلفة تأمين مستلزمات العيش، وكذلك في تهتّك كثير من العلاقات مع الدّول الشّقيقة والصّديقة. وثمّة ما يشير إلى تفريغ مقلق للبلد من طاقات إنتاجيّة فيه، عبر تطاحن مؤسف للّبنانيين، عند أبواب السّفاراتِ، طلباً للهجرة الدّائمة، أو تلك المرحليّة، عن البلد؛ وخاصّة من قِبَلِ أصحاب الاختصاصات العلميّة العاليّة والمتوسّطة، ومن أهل الخبرة المهنيّة النّاجحة. يقود اجتماع هذه التّراكمات المخزية مع بعضها، وتلاقيها في ما بينها، مع سواها من الفواجع الوطنيّة، إلى استنتاج أوحد، قوامه أنّ هذا البلد فقد المعايير الفعليّة والعمليّة لمفاهيم استقلاله الوطنيّ وقِيَمِه.
يعاني لبنان، جرّاء كلّ هذا، وبكلّ جدارة مؤسفة، أعراض التّدهور العضويّ، لِما قَبْلِ الولوج إلى الانهيار الوطنيّ الأعظم؛ ويتحضّر، بكلّ جديّة، ليعيش غيبوبة ما قبل الموت. إنّه بلد يرسم واقع العجز الذّاتي المطلق، منتظراً الرّجاء من الدّاخل وتدخّلات الخارج؛ بكلّ ما في هذه التّدخّلات وتلك التّفسّخات من تضارب للمصالح في ما بينها، وتعارض في الرّؤى والتّوجّهات بين ناسها.
إنّ في هذا جميعه، ما يعني، وبكلّ تأكيد ووضوح، إعلانا فجًا وصريحا لفشل النّظام الحاليّ للدّولة في لبنان. لقد باءت بالفشل جميع المسارت لبنود الدّستور اللّبناني، التي حظيت بتطبيق لها، في بناء دولة تحافظ على حقوق المساواة بين جميع المواطنين، ضمن مبادئ الدّيمقراطيّة ومفاهيمها. لم يكن، في واقع الأمر، من سعيّ فعليّ وعمليّ نافذ البتّة، في لبنان، سوى إلى تعزيز الطّائفيّة السّياسيّة، على حساب المواطنة الحقّة؛ مع تأكيد، سياسيّ منمّق، على فاعليّة مبدأ المحاصصات السّياسيّة والنّفعيّة بين أهل الشّبكة الممسكة بالسّلطة، على حساب الحقّ الدّيمقراطيّ الوطنيّ لجميع اللّبنانيين.
يشهد، على هذا، أنه من نتائج اعتمادٍ ما للدّستور اللبّناني الأوّل، الذي وضع سنة 1926، وما لحق به من انتقاءات وتعديلات وإضافات؛ وصولًا إلى ما صار يعرف بدستور “وثيقة الطّائف”، سنة 1989، وما تلاه من تنفيذ لبعض بنوده، وتشويه في تنفيذ بنود أخرى؛ وتجاهل مطلق لوجود بنود أساس فيه، لا يستقيم وضعه سوى بتنفيذها.
إنّ اللّبنانيين مدعوون اليوم، وبكلّ وعيّ وطنيّ موضوعيّ عقلانيّ، إلى الإقرار الصّريح والواضح والجريء، بفشل هذا النّظام السّياسيّ الحاليّ؛ الذي ما برحت الشّبكة المتسلّطة على رقابهم ومصائرهم تتحكّم بهم بموجبه. وقد يكون الشّعب اللّبناني، في هذه المرحلة الدّقيقة من تحديد مصيره، أمام خيارات قليلة؛ لعلّ من بينها الإقرار بأنّ الدّولة اللّبنانيّة دولة فاشلة؛ ولا بدّ لها، تالياً، من الوقوف بين خيارين نوعيين أساسين، أحدهما دوليّ والآخر وطنيّ.
يقضي الخيار الدّوليّ، أن توضع هذه الدّولة اللّبنانيّة تحت وصاية دوليّة؛ غير أنّه لن يمكن تحديد مدى اتّساق مسارات هذه الوصاية، ولا تأمين معرفة واضحة لمصالح الهيئات التي ستقوم بها وتشرف عليها؛ وكذلك تبيان الرّؤى الدّوليَّة لهذه الهيئات، والإمكانيّات الفعليَة للتّناقض أو التّناسق في ما بينها، تجاه لبنان. يقضي الخيار الثّاني، أن يتداعى اللّبنانيّون، بهبّة شعبيّة منظّمة، إلى التّحضير الجادّ والرّؤيويّ والمسؤول، لقيام مؤتمر وطنيّ شامل دائم؛ سعيا منهم، ضمن مفاهيم الدّستور الحالي، إلى تحقيق عمليّ تنظيميّ لدولة المواطنة والدّيمقراطيّة الشّعبيّة الفعليّة. وإن كان ثمّة من قد يرى أنّ الواقعُ الشّعبي المعيش، في هذه المرحلة، يمكن أن يواجه صعوبة ما للعمل في اتّجاه تحقيق هذا المؤتمر، نتيجة سيطرة ما للثقافة الشعبيّة في الانتماء المطلق إلى الزّعيم الفرد أو الانضواء السّياسيّ التّام، بغضّ النّظر عن البعد الوطنيّ الشامل، تحت لواء حزب أو مجموعة. ومن هنا قد يكون من الأولويّات الوطنيّة، التفكير بإمكانيّة أن تنهض بهذه المسؤوليّة، مؤسّسات وقيّادات وشخصيّات رياديَّة، قادرة على التّلاقي ضمن رؤية وطنيّة مشتركة، رغم ما قد يكون بينها من اختلافات سياسيّة، راهنة أوحتّى مستقبليّة؛ وأن يكون تلاقيها، هذا سعياً مشتركَا إلى تحقيق عملانيّ لنصّ الدّستور اللّبنانيّ، القاضي بأنّ “الشّعب مصدر السّلطات”؛ في زمن تُصَدُّ فيه كثير من المؤسّسات الدّستوريّة عن القيام بمهامها.
*****************************