دراسة أدبيّة نقديّة حول قصّة “زواجٌ قاصر” للأديبة ناريمان علّوش
دراسة أدبيّة نقديّة حول قصّة “زواجٌ قاصر” للأديبة ناريمان علّوش
فاتن مرتضى
تكتب برقّة الورد ونضج من خبرت أمور الحياة ، أهدت قصّتها ، إلى كلّ زواجٍ قاصرٍ ، وكلّ امرأة تزوّجت ولم تنضج أنوثتها ، ولم يكن لديها متّسعٌ من الطّفولة حتى ترقص مع زهرة عبّاد الشّمس ، التي ترمز إلى الصّفاء والفرح .
بطلا القصّة تيم يعني إسمه الوله ومن ذلّله الحبّ ، وهاجر يعني إسمها زهرة اللّوتس رمز النّقاء المادّي والرّوحي ، وإذا قلنا الهجرة ، تعني الخروج من البلد .
الزّواج ارتباط قانوني واجتماعي لرجل وامرأة ( الاقتران ) ، وقاصر لم يبلغ سنّ الرّشد.
تتألّف القصّة من أربعة فصول عرفنا أحداثها من خلال كلام البطلين ، كلٌّ من وجهة نظره وما حدث معه .
الفصل الأوّل :
بعد أن أقفلت هاجر ستّة عشر عاماً ، ومضت ، تركت وشوشات الرّيح ، ومسامير على جدران الوقت ، موعدهما في المحكمة غداً لبدء مراسم الطّلاق . هل هذا مجرّد كابوس ، أو قصّة امرأة تبحث عن سعادة جفَّت مياهها ، في منزل الزّوجيّة ، تمرّدت الطّفلة ، وأصبحت امرأة تتبع حدسها المغمّس بالضّوء .
تيم ، كتب لها قصيدة عارية من اللّغة ص ١٢ ابنة السّادسة عشرة ستصبح امرأة ، في أحضان حبّ ، يرسم لها الحياة ، لوحة شعر دافئة ، جذبها إليه ، غروره ، كبرياؤه ، ومزاجيّته ،فيه خلطة عطر أضرمت أحلامها ص ١٣. كانت هاجر غجريّة الجّمال ، رغم ملامحها الطّفولية ، التي تشتعل بالحكايا ، وتبوح بأغنيات العاشقين . دخلت القفص الزّوجي ، لا تعرف أكثر مما حفظته من الرّوايات ، وأفلام” الأبيض والأسود ” وبعض قصص الجارات
ص١٨. كان أبوها دائم الغياب ، أكثر كلمة سمعتها من أمّها” عيب ” لتنهيها عن ضحكة عالية ، أو تصرّف عفوي . ص١٩ .
كان تيم في الثّالثة والعشرين من عمره ، حين وضع خاتم الزّواج في إصبعه ، لم يكن متعوّداً ، على فكرة الالتزام بموعد الرّجوع إلى المنزل ، وكان يزعجه سؤال هاجر :” أين كنت ” حين يعود في وقت متأخر . كانت أهواؤه متقلّبة ، تحاول إرضاءه ، وكيف يرضى ، وهو أصلاً لم يستطع أن يفهم نفسه .
كانت الوحدة خير جليس لهاجر ، تشاركها صباحاتها والمساءات التي تعدّها على أصابع غياب تيم بسبب شغله وسفره الدائمين ، كانت تشاركها قراءاتها وكتاباتها ورقصها أمام مرايا الضّجر ..كانت تطعمها وجبة الحبّ الباردة ، وتمسح عن خدّها قبلة الصّقيع ، كانت مدمنة على القراءة والكتابة ، في حين لم يكن تيم يهتم للشّعر ، وقراءة الكتب ، أياً كان نوعها .
كانت تكرّر عليه قصص الحبّ ، لتحثّ مشاعره ، كان مهووساً بترتيب أغراضه لحدّ القلق ، ويستشيط غضباً من فوضوّية هاجر ، التي كانت طفلة أمّها الوحيدة والمدلّلة بين صبيّين . أخذ الجرأة والصلابة من والدته حتى صار صاحب قرار ، واثقاً برؤيته ، حاول أن يُعلّم هاجر هذه الأمور ، ولم يكن يعلم أنّ الذي يسلّحها به ، سيطعنه يوماً في قلبه.
الفصل الثّاني :
بدأت الحرب يوم الأربعاء ١٢ يوليو ٢٠٠٦ كانت ملامحها تتّضح ، وأخبارها تجتاح شاشة التّلفاز ، ترك تيم وهاجر منزلهما في ضاحية بيروت وقصدا منزل خالتها في بحمدون ، اتخذ تيم محلاً في سوقها لبيع الأكسسوارات . تعرفت هاجر على الحجة “أم رضا” التي سألتها لماذا لا توقدين هذا الحبّ بالأمومة ؟ أجابت هاجر : “إنّ الله لم يرزقنا بعد ” لم تشأ أن تخبرها بأنّ تيم لا يحب الأطفال ، وكان
شرطه الأساسي حين ارتبط بها ، عدم الإنجاب .
قرأت الحجة رُقية ونفختها على وجه هاجر ، بشرّتها ، ستحملين بعد ثلاثة أشهر ، بصبي وتسمّيه” رضا “.
انتهت الحرب ما زلنا أحياء ، لكن دواخلنا قُتلت آلاف المرات ، قالت هاجر : أتعلم يا تيم ، ربّما نحتاج أن نولد من جديد ، وننفض عنّا ترّهاتنا الطّفولية ، ثلاثة وثلاثون يوماً من الحرب ، كافية لتجعلنا نُعيد النّظر في كثير من الأمور . قال لها : “ستكونين أماً رائعة ، أريد منك طفلاً ، يحمل جمالك وطيبة أبي .”
حمل مسؤولية نفسه وهو في السابعة عشرة من عمره ، وحين توفي والده أصبح معيلاُ لأمه وإخوته .
الفصل الثّالث :
“بعد الحرب سيعود كلّ شيء ، ولكن ليس كما كان ” ص ٥٩ . فُتحت طاقة الرزق والفرج أمام تيم ، كانت هاجر تعمل ، ببيع الكتب عبر
الهاتف ، وتحقّق أرباحاً كبيرة . ظهرت عليها عوارض الحمل زفّت الخبر السّعيد لتيم ، شعر بأنّه في حلمٍ جميل .
هاجر : للمرّة الأولى ، كنتُ أشعر بأنّ الصُبح يُشبه ناي فيروز ، ووحي جبران ، كان كتنسّم الضّوء على وجه صنّين ، وكعصرٍ بنفسجيّ في بالِ فراشة ،كان شهيّاً كبوح القصائد المُعلّقة في ذاكرة الوقت ، وكعصفورٍ أسكتهُ الذّهول ص ٦٨. كانت فترة الحمل ، أجمل فترات حياتها تقول : ” لم أعدْ أشعر بالوحدة ، بل أحسستُ أنّ العالم كلّه ، قد أشرق في داخلي ، وأنّ اللّحظة التي ، سأحمل فيها طفلي بين ضلوعي ، ستملّكني العالم بأسره ” ص ٦٩ . كان تيم دائم الغياب ، يعمل على تطوير عمله ، يزداد رزقه ، يُساعد أهله وأصدقاءه .
في الساعة الثالثة فجراً حان وقت الولادة ، زيّنت دمعة الفرح خدّ تيم . تقول هاجر عن فرحتها بابنها :” تفتّحت ورود الشّمس في
حديقة صباحاتي ، وصار الرّحيق أشهى ،استمدّيت الحبّ من ضحكاته ، التفاتاته ، وخطواته الأولى ، فتنهّدت كلّ الذّكريات المؤلمة على صدر البدايات ، وعربش الضّوء ، على جدران وحدتي ، حتى أزهر الوقت ، مواعيد فرح وسعادة ” ص ١٠٩.
الفصل الرابع :
كانت هاجر تعلم أنّها لم تعد في قائمة أولويات تيم ، وأنّ قلقه الدّائم على تأدية واجباته تجاه أهله يأخذ المساحة الأكبر من وقته وتفكيره .. تيم وهاجر يعيشان في منزل واحد ، ولكن في عالمين متباعدين ..
تزوج إخوة تيم .
كبر رضا ، صار منشغلاً ببناء أحلامه ، ولم يعد بحاجة لأمومة والدته الجيّاشة .
ازداد في حياتها الفراغ والوحدة ، وعطش الأنوثة ، والشّوق إلى المرآة، عادت إلى كتاباتها وكتبها ، استمعت إلى وشوشات القصيدة،
وكتبت حتى ترمّد نبضها . ص١١٧.
حاولت استرجاع تيم ،لكنّها كانت تضيّع الطريق، إلى عالمه الكبير الواسع .
كان واثقاً من تعلّق هاجر وحبّها له ، كلما طالبته بوجوده معها ، كان يعوّض عن غيابه بالهدايا .. لم يُدرك بأنّ غيابه سيخلق بينهما فجوة تتّسع ..
فتح لها محلاً لبيع المجوهرات لتملأ وقتها ، كلّ ما حولها ، كان عاجزاً عن تعويض غيابه ، حاولت الاهتمام بمظهرها وجمالها ، لم تلق اهتماماً منه ..
انخرط رضا في عالمه الخيالي وترك هاجر بعيدة عنه ..
أصبحت كفراشة ، تتذوّق غبار مصباحٍ قديم ، في كوخ الحكاية ، كخريفٍ ينفخُ في هدوء الشّمعدان ، رقصة الظّل ، كلحنٍ ينتشي ، بأصابع النّاي ، كوحيٍ ثملٍ ، ضلّ طريقه نحو الفكرة ، فرشف من كأس الضوء نبوءته واهتدى إليها ، هكذا كنت في أمسيات وحدتي ، بتولاً تطاردها
الخطيئة . ص١٢٣ .
بدأت بالدّخول في الاكتئاب ، كان اللّيل طويلاً ، ولكن كوابيسها كانت أطول منه .
اتّسع الشّرخ بينهما حين صرّح تيم بكل جرأة : ” أنتِ فاشلة ، لن تتعلّمي أبداً ، كيف تكونين زوجةً ، وأمّاً قديرة كأمّي ” . ص ١٢٤ شعرت بأنّ الدّنيا ضاقت بخيبتها وحزنها .
قطعت هاجر كلّ الطّرقات التي قد تقودها إلى الذّنوب ، وأضاءت طريقاً ألى الله . تضرّعت ونهضت تملك قوّة تسرّبت في عظامها وجلدها وشرايينها .
اشتاقت لعمّها الذي كان يُلقّب “الفيلسوف الأسمر ” زارته ، اكتشف ثقافتها الواسعة ، قال لها : “لماذا لا تكتبين ؟” لبّت حدس عمّها وراحت تبحث عن غيمة لم يمسسها بعد خيال شاعر ، لكتابة إصدارها الأوّل .
أحبّ تيم هاجر كثيراً ، لكن لم يعرف يوماً ، كيف يترجم ذلك الحب.
تقول هاجر : “لمَ لم تلتفت إلى دمعتي حين كنتُ أعضُّ على شوقي إليك بأضلعي ، وأغزل من عطرك شالاً للغياب ؟ أين كنت حين اشتهيت ليلاً ذا أذرعٍ حتى يضمّني ولم أجده ؟ أين كنت حين بحثتُ عن الحبّ ، بين أكوامٍ من العشب اليابس ، ولم أجد غير اخضرار كفّي ” ..
” تيم طلّقني ، أنا لم أعُد أريدك ” ص١٣٢ .
النهاية :
ولدهما رضا هاجر خلف المحيطات يحدّثهما عن الغربة وأمنيته أن يهديَهما حفيداً يملأ صدى المسافات بضحكاته .
هاجر اشتهت لو أنّ قلب تيم ارتجل حبّه دون قواعد وضوابط لغوية .
تيم يتأمّل في الزّجاج المطلّ على المطر ويستمع إلى قلق الماء ويكتب على أوراق غير مرئيّة السّطر الأخير من روايته” زواجٌ قاصر “.
تجربتنا في قراءة القصّة ، تشبه الحلم ، تنشط فيه المخيّلة نترك عالمنا الخارجي ، وننتقل إلى
عالم الكاتبة غير الملموس ، لا نستطيع أن نؤثّر في مجريات الأحداث أو نكلّم الأبطال ، ولكن نتأثّر ، فنخوض تجربة أدبيّة . هناك صلة قويّة بين الأدب والحياة ، التي هي موضوعه ، يعرضها بشكل فنّي .
يقول عبد الرّحمن منيف : “تُكتب القصّة لتُعبّر عن مشاعر الإنسان ، واقعه ، همومه ، تُحاكي وجدانه لتؤثّر فيه ، وتدفعه للتغيّير .”
القصّة واقعيّة وجدانيّة نفسيّة ، الحبكة مركّبة بدأت بالنهايّة ، ثمّ استعرضت الأحداث التي أدّت إليها ، كانت الحركة مستمرة تطورت مع الشّخصيات ، إستعملت أسلوب التّداعي الحر ، الذي يصوّر العمليّة الذهنيّة ، التي تلتقي فيها الانطباعات عما تراه وتسمعه ، بأفكارها ورغباتها ، التي تنشأ من الوعي ، واللّاوعي ، انتقلت من الخاص إلى العام . تمثّل الشّخصيات الرئيسيّة فئة إجتماعيّة معيّنة تتطوّر وتتغيّر وفق روابط ثيميّة thematic .
هناك شخصيّات ثانويّة ، أم هاجر وخالتها وعمّها ، أم تيم ، أخوة وأخوات البطلين ، أم رضا ، ربيع .. لأنّ القصّة واقعيّة ابتعدت عن الأحداث الخياليّة ، دون أن تتخلّى عن الخيال الفنّي . تغيّر المكان حسب مقتضيات القصّة ، كفور ، بيروت ، بحمدون ، وادي الزّيتون . وكذلك الزّمان استغرق ستّة عشر عاماً . لعب الحوار دوراً مهماً فهو يعرّفنا بتفكير الأبطال ، مستواهم الفكري واهتماماتهم ، كان وجدانيّاً مع الذّات ، ومع الآخرين . العقدة كانت تتصاعد مع محاولات متعدّدة لحلّها دون الوصول إلى ذلك مما أدى في ذروة القصة إلى الطّلاق . جاء أسلوب الكتابة بلغة سهلة بعيدة عن التّعقيد غنيّة بالخيال والصّور الفنيّة ناريمان علوش شاعرة حتى في كتابتها النّثريّة تحرّك لدينا المتعة الشّعورية والتّشويق ، بوصفها للأيام الجميلة ، أو العصيبة ، نعيش معها السّعادة أو الإحباط تماماً كالحياة . نقرأ معها : ” رقصت
على أصابع أنوثتي ، حافية الرّوح ” ص ١٤ .” هل ما زال عمي رامي ، مع حوريّات قصائده ، في جزيرة النّسيان ، يشرب من غيوم الوحي ويتشمّس بالمعاني ؟ “ص ١٢٨ “كان يُلبس ورود اللّوتس ، عطر حكاية رواها الربيع ، يفتح أجفان الشّمس تحت وطأة الشّعر ، ليفرش القوافي لحبيبته ، حتّى تتغاوى أمامه ، كدلعِ الزّنابق ، لتمسحَ بلمساتها الوالهة ، تعب الشّيب ، الذي يمتدّ في قصيدته .” إستعارات ، وصور مجازية أعطت العبارات طاقات موحية وجاذبة .
ناريمان الكاتبة المثقّفة تستشهد بليلى الأخيليّة ، دستويفسكي ، بيورك الأديب الأميركي ، برتراند راسل ، شراوك هولمز ، فرنس كافكا .
أضاءت على جوانب من الواقع والذّات الإنسانيّة ، في ضعفها وقوتّها ، تشتّتها وتوحّدها ، في مواجهة شرطها الوجودي ،
الاجتماعي والرّوحي ، في إطار وعيها لذاتها والعالم حولها .
يجد القارئ في القصّة شيئاً من ذاته ، أو ذوات من هم حوله . أعادت تمثيل الواقع ، جمالياً ، وفق رؤيتها ووعيها ، دقة ملاحظتها ، وغنى تجاربها .
زواج القاصر والطّلاق ، موضوعان من صلب الحياة ، إذ تُشكّل نسبة زواج القاصرات ٢١ % من عدد الشّابات ، كما تتزوّج سنويّاً ١٢ مليون فتاة ، دون سن الثّامنة عشر . تصف اليونسكو أي زواج لقاصر على أنّه انتهاك لحقوق الإنسان . وعلى الرّغم من القوانين المناهضة له ، لا تزال هذه الممارسة واسعة الانتشار . حسب دراسة تناولت عددا كبيراً من الزّوجات القاصرات ٨١% لا يعرفن متطلّبات الزّواج ، ٦٥% غير راضيات عن زواجهن ، ٧١% لم يتلقّين الدّعم النّفسي ، ٧١ % يبكين دون سبب ، ومن المطلّقات ٨٢ % لا يرغبن تكرار التّجربة . الوعي
المسؤول هو المطلوب ، متابعة التّعليم ، دور الأولياء بعدم التّزويج المُبكر ، إضافة إلى دولة مسؤولة لحماية حقوقهن .
يبقى الطّلاق أبغض الحلال عند الله ، هو الخيار الأصعب ، ولكن رغم آثاره وأضراره ، هو أفضل من الاستمرار في علاقة أسريّة غير سويّة . من أهم أسبابه : عدم التفاهم ، غياب الحوار ، إختلاف الطباع ، الثّقافة والاهتمامات .. عدم الاهتمام بالآخر ، اللّامبالاة، إهمال الواجبات الزوجيّة .. تختلف طريقة التّفكير والأهداف ، فيسعى كلٌّ منهما وراء سعادته ، ومصالحه بشكل أناني ، بعيداً عن الآخر ، فيتولّد شرخٌ كبير يهدم العلاقة بينهما .
فن كتابة القصص أسلوب لاكتشاف العالم حولنا ، وفهمه بشكل أفضل ، نقرأ من خلاله الواقع ، ويحملنا إلى تجارب لم نخضها وإنما عبر الخيال عايشنا أحداثها ، مما يوسّع نطاق تجارب الحياة ، القراءة وسيلة للهروب من
الواقع والعودة إليه .
الموضوع الإنساني ، أسلوب الكتابة الراقي ، والهدف الواعي ، أسباب تشدّنا لقراءة كتاب الأديبة ناريمان علوش ” زواجٌ قاصر “