أدب وفنمنتديات

منتدى شاعر الكورة الخضراء يحتفي بالكاتب د. مصطفى الحلوة ومطارحاته في أروقة المعرفة في عرس ثقافي في جامعةالبلمند/ الكورة …( وزير الثقافة : لنكن كمثقفين على السكة المعاكسة لكل ما يحاك لهذا البلد ) ..

عرسٌ في جامعة البلمند في الكورة لمنتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة “

..الاحتفال التكريمي للكاتب د. مصطفى الحلوة الذي أقامه منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة لمناسبة توقيع كتابه الصادر عن منشورات المنتدى ” مطارحات في أروقة المعرفة ” كان احتفالا  وطنيا جامعا لوفود ثقافية أتت من مختلف المناطق اللبنانية إلى تلال الكورة حيث تركن منارتها جامعة البلمند  كعرزال مدينة مضيئة تسعى إلى العلم والتأمل والمعرفة .

راعي الحفل , وزير الثقافة القاضي الدكتور محمد مرتضى حضر الاحتفال حيث قلدته رئيسة منتدى شاعر الكورة الخضراء المهندسة والشاعرة ميراي شحادة حداد درع المنتدى بعد أن ألقى كلمة أكد فيها أنٌ الثقافة والتنوع وخيار العيش معا هم رابطة الوحدة الوطنية وسبيل الإنماء المعرفي المحقق للمناعة والعدالة داعيا الى السير على السكة المعاكسة لكل ما يحاك لهذا البلد .

استهل الحفل بالنشيد الوطني اللبناني ونشيد جامعة البلمند , ثم اعتلت خشبة المسرح الدكتورة دورين نصر سعد التي قدمت جميع فقرات  العرس الثقافي الذي حضره الى جانب رئيس جامعة البلمند الدكتور الياس الوراق فعاليات ثقافية ورؤساء منتديات ثقافية وشعراء وكتاب وأصحاب مواقع إعلامية ووفود أتت من مختلف مناطق لبنان .

كلمة د. دورين نصر سعد في تقديم الحفل :

حضرة وزير الثقافة القاضي الدكتور محمد وسام المرتضى الجزيل الاحترام

حضرة رئيس جامعة البلمند الدكتور الياس الورّاق الجزيل الاحترام

أيّها المُحتَفى به

أيّها الحفل الكريم

أيّها الضيوف الأعزّاء

سبحانَ من جعل جديدَ اللّحظةِ قديمًا بعد لحظة، وجعلَ الحاضرَ نقطةً ضوئيّةً تنهل أبدًا من المستقبل وترميه في ذاكرة الماضي. سبحانه اتّصف بالكليّةِ والمُطلق والوحدانيّة، وسما فوق الزّمانِ والمكان والحالات، بينما استمرّ الإنسان رهنَ فرصة العمر. سبحانَه كيف جمعنا في هذه الّلحظة.

إنّه لمن دواعي سرور منتدى شاعر الكورة الخضراء “عبدالله شحاده”، برعاية وحضور معالي وزارة الثقافة، وفي صرح جامعة البلمند أن يجمعَنا اليومَ حول مائدةٍ فكريّة، نكهتها: “الثقافة والنقد”، شعارُها: “النور في الظلمة يضيء”، نجمُها قامةٌ من قامات بلادي غنيٌّ عن التعريف.

الحياةُ أيّها السَّادة تتجدَّدُ بفكرٍ رؤيويّ مُتخَطٍّ، والفكرُ الطامحُ ينطلق من جذورٍ ضاربة في الأعماق، وإلاّ تعتريه الخفّةُ كاليباس، ونضوبِ الحياة.

والثقافة، كلُّ الثقافةِ تنبثق من الشعب، وخلاصةُ نشاطِه هي الجوهر. فثمارُ النشاطات الإنسانيّةِ، في أيّ عصرٍ أو أيّ بيئة، لا يمكنُ أن تكون جميعُها عسليّةَ المذاق أو حَنظليّة، فكلّ شيءٍ في الوجود نسبيّ، الله وحده عزّ وجلّ، هو مطلق المعرفة والخير والجمال.

وليس هذا الّلقاءُ اليومَ سوى إشارةٍ إلى أنّ الحياة ما تزال تنبُض في عروق الأمّةِ، ورغبةٍ في السّعي إلى تخطّي هذا الواقع المرير. آن الأوانُ لنوقِظَ بعضنا بعضًا من التاريخ ِ الهاجعِ ونمسكَ به ليس كمن يُمسك ماءً في قبضته، بل كما يرنو أرزُ لبنانَ وهو على صَهوةِ القممِ، إلى الصّفحة الزرقاء.

في هذا اليوم، نحن لا نحتاجُ إلى قطفِ زهرة الدفء لنشمَّ الشمسَ تبزغُ من قلوبنا المنسيّةِ، لا نحتاج إلى لمسِ خريرِ الضوءِ لنُبصرَ النهارَ الذي ينتشر على حافّة الروح.

أحبّائي

حينَ غنّى الفكرُ على ضفافِ الثّقافةِغرّدَتِ الأرواحُ وارتعشتِ الكلماتُ

أجدني هذه الليلةَ أسكبُ أدمعيبين عروقِ الوطنِ، فانتشتِ الّلحظاتُ

كلمة وزير الثقافة د. محمد المرتضى :

البداية كانت مع كلمة وزير الثقافة القاضي الدكتور محمد وسام المرتضى الذي قال :

بعد أن يُعلن اختتام المحاكمة في الدعاوى التي ينظرون ينصرف القضاة وأنا منهم الى دراسة اوراق الملف تمهيدا لاصدار الاحكام فيها ..فيبدأون بالشكل , ان وجوده صحيحا , موفور الشروط , قبلو الرعوى وانتقلو الى بحث مزضوعها والفصل فيها..وإلا ردوها شكلا دون عناء الخوض في أساسها ..فالشكل كما يقول رشيد درباس ” الشكل هو حسن الأساس “..

هذا ما سأحاول فعله في هذه الأمسية الثقافية , لا لأنظر في دعوى ولا لأصدر حكما , بل اتباعا مني لمنهجية في الكتابة.

اما النقطة الأولى من حيث الشكل , فالمكان الذي قلّب الدهر أوجهه ( البلمند ) من قلعة صليبية , إلى دير رومي , فمدرسة إيكليرية , فثانوية , إلى معهد لاهوت , فجامعة , فمقر لغبطة الجالس على كرسي انطاكية العظمى ..فكل هذا معا …حتى يخيل لك أنّ البلمند ” التلة الجميلة ” بحسب معنى العبارة الفرنسية , هي في المعنى الحضاري الراهن “طلّة جميلة ” وارفة اللفتات على العصور جميعها , يزفها تاريخ دائم المعاصرة دونته السواقي على ضوء الشموع. حفظته الحجارة المعقودة حبات و قبابا ووسّمته أكواز الصنوبر , وتنقل طويل بين الطبشور والحبر والدفاتر حتى بلغ المختبرات والحواسيب وصهواة الأثير في رسالة مشرقية عنوانها أنّ الإيمان مكتمل سطوعا إذا اقترن بعلم الحداثة والمعرفة المتخصصة والشهادة للحق .

هكذا ايها الأحبة , شاء الباني المؤسس البطريرك اغناطيوس الرابع وهكذا تابع وزاد صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر ورئاسة الجامعة بشخص الدكتور الياس البراق ومعاونيه الأكاديميين والإداريين كي يكون الصرح الجامعي البلمندي الحديث تعبيرا ناطقا لهذه القيّم الايمانية الأصيلة المضيئة كزيت الكورة في قناديل الدير العتيق لحكمة لا تخفى , كانت هذه البقعة من ارض لبنان دون سواها أن تحتضن الانطاكية المتجدده الحضور .

اما النقطة الثالثة فهي موضوع الكتاب , انه مصنف ضخم جمع فيه المؤلف حصاد رحلاته الأدبية والفكرية ومطارحاته في المنتديات , حصاد قمح بلا زوان , لكنني ألفته الى انّ المعرفة لا ينبغي لها أن تقيم في الأروقة ولها السماء منزل رحب الجهات فليته جعل عنوان الكتاب ” مطارحات في فضاء المعرفة ” .

.

وقال الوزير مرتضى ” يبقى عليّ أن أذكِّر بأن الغلبة في لبنان لن تكون إلا للحق وللفكر الإنساني الخلاق الذي يقوم على مثال ما تصنع هذه الجامعة وما يصنع منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة , فبهما تترسخ قواعد العيش الوطني الواحد ويصان الوطن وتتأمن الحقيقة وتنال العدالة .

أضاف : إن لبنان الثقافة والحضارة والفكر لا يمكن أن ينأى عن لبنان العدالة , ولبنان العدالة هو لبنان الرسالة التي ننشدها جميعا , ونتلوها إنجيلا وقرآنا , فالمسيح أراد لمن لم يك له سيف أن يبيع رداءه ويشتريه ولم يكن يريد الا طرد اللصوص من هيكله ..

وأكد الوزير المرتضى أنّ الثقافة والتنوع وخيار العيش معا هم رابطة الوحدة الوطنية وسبيل الإنماء المعرفي المحقق للمناعة والعدالة داعيا الى السير على السكة المعاكسة لكل ما يحاك لهذا البلد

و قال الوزير المرتضى في ختام كلمته   أن “لبنان الثقافة والحضارة والفكر لا يمكن أن ينأى عن لبنان العدالة، ولبنان العدالة هو لبنان الرسالة التي ننشدها جميعا ونتلوها انجيلا وقرآنا، فالمسيح أراد لمن لم يكن له سيف أن يبيع رداءه ويشتره، ولم يرد بذلك الا طرد اللصوص من هيكله، وفي القرآن الكريم جاء (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). أي أن ايماننا مسيحيين ومسلمين تختصره كلمة عدالة، ولعل أخطر ما يصيب العدالة هو أنها تتعرض للسطو والمصادرة ممن يحمل سوطها ويزعم أنه يضرب بسيفها، والأخطر من ذلك أنه يقودها ثم يصوره لنا بعض الإعلام بأنه سفينة النجاة وباب الخلاص للوطن، وهو في واقع الأمر ينأى بالوطن عن طريق العدالة ويجنب المرتكبين الفعليين الملاحقة والعقاب ويسعى هو ومشغلوه الى استيلاد الفتن والى بث الفرقة وتأليب اللبنانيين بعضهم على بعض وزرع القناعة بأنه لا يمكن لنا الإستمرار في مبدأ العيش معا”.

كلمة د. دورين نصر في تقديم الشاعرة ميراي شحادة :

هناك من يترك كرسيًّا ويرحل

هناك من يترك باقة ورد

هناك من يترك أثرًا يبقى محفورًا في ذاكرة الزمن حتّى بعد الرّحيل

ما أجمل ما تركه شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده، ترك حديقةً رسمتها ميراي بين صفحاتها. حديقةٌ كان يلزمها القليل من الأوراق كي تزورَها الظّلال، كان يلزمُها دفءُ الشّمس لتعانقَ الكون.

     أنتِ، أيّتها الابنةُ البارّة، كنت الغصنَ النّضرَ والورقة النديّة، كنتِ الثمرة التي عاكست قانون الجاذبيّة، فلم تسقط، بل ارتقت في مدارج المعرفة إلى أعالي الأفق.

وإذا كانت الحياةُ أوتارًا ترتعش بين أبدٍ وأزل، فالآتي أحلامٌ وأمنيات، وأنامل منتدى شاعر الكورة الخضراء تروّض الألحان وتَخيطُ الحكايات. المنتدى لم يغب عنه يومًا أنّه كلّما انحنى المبدع كالسّنبلة، أبصر نعيم الفردوس. لم يغِب عنه يومًا أنّ العطاء المطلق هو تأكيد للألوهة، إثباتٌ لقدرتها: تَخلُق وتَمنحُ، توجِد من لا شيء، وتَجود بكلّ شيء.

وميراي أدركت جيّدًا أنّ خطوةً واحدةً فقط تفتح أمامها أبواب مملكة جديدة. خطوةٌ تقودها إلى نار حلمها الأزليّ. مبارك يا ميراي هذا الحلم الذي غدا حقيقةً كشمسٍ مشرقة، ومبارك هذا النّهار الذي أصغيتِ فيه إلى ذاك الصوت المقيم في ثنايا روحِك. أيّها الصوت الخفيّ الذي يهبّ كالنّسيم وينهض من ماء الروح، إذا أَغْرَقنا الظلام يومًا سنبحث عن ضوءٍ من شجرتِك السّاهرة أبدًا.

خبّئ شمسَك أيّها الصّوت كي نهفو إليك إذا طال الشّتاء. أعِد إلينا أيّها الصّوت ربيع الأرض كي ينبعث عبدالله شحاده، شاعر الكورة الخضراء من كلمات ميراي.

كلمة رئيسة منتدى شاعر الكورة الخضراء المهندسة ميراي شحادة حداد :

سلامي للغيمِ إذا أمطر، وسلامي للحبِّ إذا أثمر

من كورة الزيتونِ قُبَلٌ لفيحاء النرنج والعنبر

الحبرُ، الحبرُ مدرارٌ يا أبي

فطُلَّ من عليائكَ الحينَ وانظر

كان حُلُمي بالأمسِ يذوي  في الثّرى

ها إنّني برجع الصّدى

أحيي ذكراك في كلِّ بليغٍ قد اعتمر

دررَ المعرفةِ وجمانَ الحكمةِ

وحُسامَ الأبجديّة من غمده استلَّ

وبإكليلِ الحرف زُفَّ وانتصر

قم من علياك يا عبدالله

فالمصطفى الحلوةُ أهداك كتابَه المبتكَر

وبه، رياضُ الفكر جُنَّ عبيرُها

وبخوراً إلى سمائك تمايل في خفر

فاضت خوابيه بالذخر والظفر

عطرُ حروفه في هذا الكتاب يُختصَرْ !

أحبّتي مساؤكم خير بأريج الثقافة

مساؤكم مواكبُ نور تضيء دياجينا، ووشاحُ ندى يلوّنُ ما جفَّ من أملٍ في روضة الأقلام وعرين الثّقافة، لبنان!

يا ليت الأيّام المقبلة تحمِلُ في رحمها عبقَ ورودِ نيسان وزهوَ أقاحي نوّار، فقد ضلّلتنا أروقة الكآبة وأنهكتنا طواحين الردى ونخر مهجتَنا نعيقُ غربان الكلام!

فمرحى بكم نترافق هذا المساء في أروقة المعرفة في رحلة سِندباديّة، قبطانها مصطفى الحلوة.

-معالي الوزير القاضي محمد وسام المرتضى، الذي شرّف هذا اللقاء ووسّع دوائر الضوء والضياء بحضوره (أهلا وسهلا بكم في دياركم)

-سعادة رئيس جامعة البلمند بروفسور الياس الورّاق، الذي أثرى هذا الحفل مع كلّ الطاقم الجامعي الجليل باحتضاننا في ربوع الكورة في جامعة البلمند

عمداءَ الجامعات ومدراءَها، كلُّ القامات الفكريّة الأدبيّة، الأساتذة، الأحبة الوافدون إلى الكورة من جميع المنتديات الثقافيّة  من عكّار، من الضنيّة، من زغرتا، من جبيل، بيروت، بشامون والشويفات، من صيدا وصور، زحلة والبقاع….

الحضور الكريم

أهلاً وسهلاً بكم في هذا العرس الثقافي.

وأنا أعيدُ البارحة صياغةَ حروفي وقراءةَ ما كتبتُ آنفاً، تساءلتُ مراراً بماذا سأخبركم اليوم؟

أأخبركم عن منتدى شاعر الكورة الخضراء الذي شيّدتُ مداميكَه أنفاً عن عقم الحياة وكُرمى لطيبِ ذِكر والدي فما إن انتهيتُ من جمع آثاره الأدبيّة والشّعريّة الكاملة سنة 2020، رُحتُ أحملُ الرسالة بفرح عظيم كمبشِّرٍ بإنجيل وقرآن كريم… رحتُ أزرعُ اسمه في كلّ تربة فكريّة خصبة! وإن وثبت أمامنا ثعابينُ الدولار من جُحرها وراحت تختال بين وسائد أحلامنا وتغتال يوما بعد يوم أقلامَنا ومحابرَ أمجادنا…

أأخبركم كيف تعرّفت إلى فكر د.مصطفى الحلوة في كتابه ” ثمانون كتاباً في كتاب” وأنا أغار في سرّي، أبوحه اليوم لكم، أغار في سرّي من كل كاتب سطّر له د. حلوة دراسةً عميقةً لمؤلفَّه أو نقّب له في مناجمه عن ثرواتٍ أدبيّةٍ وصُوَرِ دهشةٍ وعبقريّة وأنا كنت آنذاك في 2017 أحبو على مدارج الثقافة متمنّيةً لو كان لي ذكرٌ متواضعٌ بين أثلام أوراقه المعرفية!

أأخبركم كيف ارتجف القلم في يمناي وتسارعت نبَضاتُ قلبي يوم اختارني هذا الكبير المصطفى أن يخطَّ يراعي الصغيرُ والمتواضعُ على الغلاف الخلفي لكتابه بضع كلمات؟ فكانت من أروع وأجمل ما كتبت حتّى الآن!

أأخبركم كيف وصل الدرب بي إلى جامعة البلمند! ولمَ هنا؟ أردناه حفلاً راقياً من عرين الكورة، يحملُ دعوة من منتدى شاعر الكورة الخضراء وهو يُطلِقُ كتاباً موسوعيّاً لقامة كبيرة لبنانيّة لا بل عربيّة شاملة وموضوعيّة اصطفاها الله بحلو الكلام وسِعة الفكر. وقد آمنتُ ب”إقرعوا يُفتحُ لكم” وها كلُّ الأبواب شُرِّعت لحفلنا، شكراً بلمند من قادتك إلى حرّاسك وعمّالك الكبار…شكرا بلا حدود!

هناك الكثير من المحار المخبوء لأخبركم به، ولأتلوَ صلاتي وأقصَّ عليكم معرفتي بهذا الكبير وكيف شارك في تمّوز 2020 في حفل إطلاق آثار والدي من الرابطة الثقافيّة طرابلس وكانت مداخلته الرائعة المدوّية ألماً ووجعاً ونزفاً :”من قاووش عبدالله شحاده 1962 إلى قاووش اللبنانيين 2020″ .

كلمة د. غادة السمروط :

  مصطفى الحلوة، أستاذ الفلسفة، وأستاذ الأدب والنّقد الأدبيّ. 

   “مطارحاتٌ في أروقة المعرفة“، كتاب موسوعة تضاف إلى موسوعاته السّابقة، تكملها وليست آخرها. يشكّل العنوان اللبّ من كلّ كتاب. هو موجز للمضمون لا إيجاز بعده. إلّا أنّنا هنا أمام عنوان مثير للسّؤال، فكيف تكون المطارحات في أروقة المعرفة؟

    ننظر إلى صورة الغلاف حيث أهمّ فلاسفة اليونان ورواق أرسطو، فنعود إلى المدرسة المشّائيّة الّتي اعتمدها أرسطو مع تلامذته ليكونوا في حالة يقظة تامّة، وبالتّالي ليكون العقل سيدَ القول والمنطق في أحكامهم. وهذا ما سارع  أستاذنا إلى تبيانه في مقدّمة الكتاب، ليقول لنا إنّ العقلَ ركيزةُ ما تحويه صفحات كتابه من معرفة، وبالتّالي إنّ “الأروقة” ليست فقط للمطارحة بل للقول إنّ كلّ ما يقال أو يُكتب يجب أن يقع من المعرفة في أروقتها. وهذا أمر لم يسبقه إليه أحد. كيف لا! وهو أستاذ الفلسفة، العارف بالقراءة وبالمعنى وبالمعرفة، التي يصعب الدّخول إليها، ندور في أروقتها ونبحث. وهذا ما فعله الحلوة، فكانت مطارحاته، مطارحاتٍ أدبيّة نقديّة، وليست مصارعاتٍ غايتها الغلبة وإخضاع الآخر، بل إخضاع النّصّ لقواعدِ النّقد العلميّة، وتبيان ما له وما عليه. وكان هو كالسّحابة يلقي على الورق أرواقه[1] ويلحّ بالمطر، ويَجِدّ، فنرانا أمام رَوْق من النّقد والكتابة الأدبيّة، وسيلٍ من الفكر لا يجود به إلّا العارفون بالفلسفة.

   أنت تدخل الموسوعة فتحسب نفسك في قلعةٍ تتردّد إلى مسمعكَ أصداءُ فكرٍ وأدبٍ وعلم، تأتي كلّها من ينابيع ومناراتٍ ساطعةٍ في الفلسفة والأدب، ما يوسّع أفق المعرفة عندك، وما يدل على الثّقافة العالية الّتي يختزنها الحلوة في شخصه وعقله، والّتي هي أساس أبحاثه ومنطلقها، هي عصا يتّوكّأ عليها في قراءاته الجادّة الرّصينىة، ويهشّ بها على ما يراه اعوجاجًا وخللًا.

   تتابع التّوغّل في هذه الموسوعة فتؤخذ بما تحويه من مضمون أدبيّ، وتذهب بك الكلمات، تارةً، إلى أغصانٍ تورق في زاويةٍ من الذّاكرة. وطورًا، إلى عطر ياسمينٍ يفوح في ثنايا الأمنيات. وتارةً أخرى، إلى أحلامٍ تنتظر على مجذافَيْ مركبٍ في بحر الميناء، ومنها أيضًا ما يذهب بكَ إلى نورٍ يبوح به زيتون طرابلس، يتردّد انعكاسه مع ما يجود به زيتون الكورة الخضراء الّتي إلى شاعرها عبدالله شحادة، أهدى الحلوة كتابه امتنانًا منه لإصدار منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده هذه الموسوعة، وفي هذا نبلُ أخلاقٍ وتواضعُ كبار.

    وكما موسوعاتُه السّابقة، “مطارحاتٌ في أروقة المعرفة” كتاب نموذج في النقد، مرجِعٌ لكلّ من هتف قلبه  للنّقد الرّصين والمنهج العلميّ. يشكّلْ محطّة أساسيّة في الكتابة النّقديّة. يأخذنا فيه عناق الأدب والفكر واللغة والهندسة، يبوح بموضوعيّة علميّة، يحرص الحلوة أن لا يزيح عن دربها. ترى البناء فيه مقسّمًا إلى دوائر، تأخذكَ فيها العناوينُ وترقيمُها، ويُبهرُكَ انسيابها المنطقيّ إلى القول الحكَم، بشكل يفرض واحده الآخر. وفي هذا يدخل المرئيّ االهندسيّ في اللامرئيّ الفلسفيّ، يعزّز أحدها الآخر. فندرك أنّ الدّكتور مصطفى يعزف على الموضوعيّة وأوتار العقل المنير، ويعزِف عن الذّاتيّة، في أروقة القراءة النّقديّة والتّحليل العلميّ، فتنبسط السّطور أمامه، تصّاعد منها ومَضاتُ الفكر النّبيه، المُصغي للقراءة المتأنيّة والرّأي السّديد الّذي لا لَبس في أحكامه، وينبسط أمامك أفق القراءة والأدب بين التّفسير والتّحليل والنّقد. نراه يبني بالكلمة ما يعجز عن هدمه أحد، يبني صروحًا من كلماتٍ يتغنّى في أروقتها الفكر، كلّها بلغة ممشوقة القامة، جزيلة السّلوك، بليغة الوقع.

  ولا يخفى على قارىء هذه المطارحات النقديّة أنّ صاحبها كقفير نحلٍ، دائمُ الحركة، فهو المكدّ المجدّ، يقرأ، يحلّل، يفكّك، يدقّق، يغربل،، يرتمي على الكلمات بنَهم المبحر، يستخرج منها مغامرات الفعل والقول. يردّ النّصّ إلى هيكله، ثمّ يعيد بناءه، فترى النّصّ الأساس والنّصّ التّحليليّ، وجهًا لوجه في مرآة النّقد الموضوعيّ. كلّ ذلك بأسلوب يتفرّد به هو، يتنفّس هواءً يهبّ من ينابيع عريقة في القراءة ، حتّى يقدّم إلينا وهجًا يميّز كاتبه بحرفيّة عالية، تُخضع الكلام لقوانينِ هندسته الدّاخليّة.

      وإذا كانت الكتابة الموضوعية العلميّة ترتدي لغة جافّة، لا طراوة فيها ولا نسغ، إلّا أنّ الحلوة، بسحر بيانه، يصبّ عليها من زيت لغته وبلاغته وأسلوبه الخاصّ، حيث نؤخذ في أحيانٍ كثيرة، بجمال الاستعارات، وسيل العبارات، وجزالة الكلمات، وبما يبوح به قلمه، ونغيب عن ذاتنا حتى الوجد، في قراءة ما يقول من تحليلٍ يزاوج بين العقل والقلب، بين “القشرة واللبّ“، ونطرب في أروقة الفكر، على وقع حديقةٍ من كلمٍ دائمة الاخضرار، لا يعتريها ذبول، خاصّةً حين يؤخذ هو بالنّصّ الذي يقرأ، ويروح من المجاهدة إلى المشاهدة، دون ان يطأ قلمه ردهات الذّاتية، ودون أن تزلّ أحكامه في انطباعات عفويّة.

هو المصطفى لإعادة مجد اللغة والفكر والفلسفة الّتي هبطت كلّها  في هذا العصر.

تراه في هذه الموسوعة وفي سابقاتها،  ثلاثةٌ رفاقُه: القلم والورقة وكتاب يقرأه، يتعمّق فيه معنى وتحليلًا، ليرتفع به في فضاء النّقد العلميّ.

     هو الحَكَمُ، يقرَع العصا للكاتب الّذي يقرأه، ولا يُقرِّعه بالرّمح. لا يتساهل في هفوة قلم أو سقطة عبارة،  واثق من كلّ كلمة يسطّرها قلمه. يغرف من الفكر ومن ثقافته وسعة اطّلاعه، يسكب في قوالب البلاغة فتستقيم حللًا من فلسفة وأدب. تراه درويشًا في خليّة النّقد، يسير بالكتاب تجريدًا من كلّ ما يشوبه، حتّى يتفرّدَ بما يقبض عليه من خلاصاتٍ وأحكام يبسطها أمام القارىء.

      قليلٌ مهما قيل في مصطفى الحلوة وعنه. وكثيرٌ ما يقوله عن أديب يقرأه. هنيئًا لكلّ من ورد اسمه تحت قلمه، فيكون دخل سجلّ الأدب واللغة من بابه الأوسع، باب الحَكَم العدل، سواء أثنى عليه أم لم يثنِ.

فلا تعجب يومًا إذا دخلتَ مدينة طرابلس، مدينةَ العلم والعلماء، تتنزّه في ساحاتها، ورأيتَ في أبهى هذه السّاحات صورة رجلٍ على كرسيّه، قلمٌ في يده، وعلى طاولةٍ أمامه ورقةٌ، وموسوعاته النّقديّة والفكريّة. والنّاس حجيجٌ إلى هذا العرش الأدبيّ، حيث تقرأ :                                                              

رجلٌ أعاد للمدينة اسمَها، وللأمّة مجدَها،

في اللغة والفكر والأدب،

مصطفى الحلوة . أطال الله في عمرك د. مصطفى، وإلى مزيد من الموسوعات تخرج من يديْ ماردٍ جبّار في المعرفة، يسكنها وتسكنه.  

كلمة د. جان توما :

مصطفى الحلوة يأتيك َكأفراحِ العيد. يجعلُكَ تستيقظُ باكرًا، تتفقّدُ ثيابَكَ الجديدةَ، تقيمُ طقوسَ الاحتفال، تفتح ُبابَكَ، هو منتظرُك قائلًا: اشتقتُكَ. يأخذُكَ بيدِكَ إلى مساحاتِ الفرح، ناقدًا، باشًا، عارفًا أنّ العيدَ لا يكتملُ إلّا ما بين كاتبٍ ونصٍّ وقارىءٍ ليصيرَ الثلاثةُ واحدًا ليجمّلَ بالذائقتَين الأدبيةِ والفلسفيةِ هذا العالمَ الجافَ، ويُحييهِ من بَعْدِ غيابْ، وانحباسِ مطرٍ ويبابْ.

يتوغّلُ مصطفى الحلوة في خاصرةِ النصِّ. يذهب إليه جرّاحًا وليس جارحًا. يتعاملُ مع الورقِ من بابِ علمِ أعصابِ النصِّ. ففرداةُ مصطفى الحلوة قائمةٌ في مقاربتِهِ النصوصَ، وفي أنّه يذهبُ إليها كالطبيبِ الشرعيِّ، لا يَجِدُ أمامَهُ نصًّا هامدًا، بل نصًّا حيًّا. يحادثُهُ بصمتِ العارفينَ المستنيرينَ، يبحثُ في الأسبابِ والموجباتِ. يدخلُ في حوارٍ معَ الأحياءِ لا مع الموتى. مَنْ كانَ قادرًا على لمسِ الحواسِ، عِنْدَ العربِ، فهو آتٍ من وادي عَبْقَر، لكن المصطفى لا يعترفُ إلّا بقدومِهِ من مدينةٍ يسهرُ لها الليالي، بحثًا وتقميشًا وتمحيصًا، لاستمرارِ لَقَبِهَا كمدينةٍ للعلمِ والعلماء.

عَرَفْتُ مصطفى الحلوة  في دكاكينِ الوراقينَ، وفي مجالسِ المتكلّمينَ، وفي  مواقفِ المطالبينَ والطالبينَ، وأخيرًا في تكايا الصابرينَ الصبورينَ. فإنْ كَتَبَ فللغدِ الأجملْ، وإنْ خَطَبَ فللآتي الأفضلْ. خَرَجَ مصطفى إلى كتابِهِ الجديدِ مِنْ تحتِ قناطرِ بيتِهِ العتيقِ في الطبيعةِ المرميةِ على عفويتِهَا الغارقةِ في بساطتِهَا، وهما صفتان تطلعانِ في كلِّ كتابةٍ لمصطفى: معالجةٌ نقديةٌ واضحةٌ بيّنةٌ جليّةٌ بِجُمَلٍ مشحونة ٍبالنقدِ الأدبيّ والمراجعةِ الفلسفيّة. صعبٌ أنْ تفرّقَ بين قلمِ الأديب عندَهْ وبينَ عينِ الفيلسوفِ، فلا العينُ هنا تقاومٌ مخرزَ اليراعِ، ولا المخرزُ يتجرأُ على مقارعةِ العينِ، فالاثنان عندَهُ يتكاملانِ ويلتصقانِ بحبرِ مَدادِ لا ينَضَبْ.

من هنا نذهبُ إلى النصوصِ النقديِّة لمصطفى الحلوة كالذاهبِ إلى كرومِ الفصول، تختارُ من موسوعيته الجَنى الذي تحبُّه وترضاه. يبدو الكاتبُ كأنّهُ الرائي الذي يملكُ البصيرةَ لا البصر، كأنّكَ تتذكّرُ ما جاءَ في الكتبِ أنّ ” المأمونَ دخلَ على بعضِ بنيه، فوجدَهُ ينظرُ في كتابِه، فقالَ: يا بنيَّ ما في كتابِكَ؟ قالَ: بعضَ ما يَشْحَذُ الذِّهنَ ويؤنسُ الوحْدةَ. فقالِ: الحمدُلله الذي رزقني ولدًا برى بعينِ عقلِهِ أكثرَ مما يرى بعينِ جسدِهِ”.

والطريفُ أنّ مصطفى الحلوة ما زال متمسّكا بالكتابة بالقلم، يضمُّه بأصابعِهِ الخمسِ كي لا يتوهَ، لا يحبّ ُالكتابةَ بأصْبُعِ بل باستعمالِ حواسِهِ كلّها، لكأنَّه موافقٌ لما قاله أبو هلال العسكريّ عن الكتابةِ، في كتابِهِ ديوانِ المعاني:”اختلفَ الناسُ في الخطِّ واللفظِ، فقالَ بعضُهم: الخطُّ أفضلُ من اللفظِ، لأنَّ اللفظَ يُفهِمُ الحاضرَ، والخطُّ يُفهمُ الحاضرَ والغائب”. لذلك ترى مصطفى الحلوة يجلسُ إلى جانبِ نصوصِهِ، يناولُها الحلوى، يجلسها في أرجوحةٍ، تروحُ وتجيءُ، كما الأفكارُ، كما العصافيرُ، لتكشفَ له عن كنوزِها ومضامينِها، يتعامل ُمعها من الندِّ إلى الندِّ، فهو عارفٌ أنّ النصَّ عندما يُكتبُ يخرجُ من المؤلفِ ويصبحُ مَشَاعًا، يستظلُّ أغصانَ أَفكارِهِ آلافُ القراءِ، النصُّ خَرَجَ ولم يَعُدْ.

 لذا فإنَّ وَفْرَةَ الكتابةِ عند مصطفى تُشْبِهُ سعيَ الشاعرِ، بعدَ ألفِ قصيدةٍ، إلى القصيدةِ التي لم يَقُلْهَا بَعْدُ، وهي القصيدةُ المستحيلةُ، والنصُّ المستحيلُ، والصورةُ التي لم تكتملْ ملامحُ موضوعِها. لذلكَ استخدمَ “الحلوة” متانةَ اللغةِ العربيةِ، وصلابةِ النظرةِ الفلسفيّةِ انطلاقًا من ما وردَ أيضًا في الكتبِ إذْ سئلُ أحدُهُم:” ما البلاغة؟ قالَ: تصحيحُ الأقسامِ واختيارُ الكلامِ، وفي الفلسفةِ يرى مصطفى صحةَ القولِ ” ورأى بعضُهم شابًا جالسًا على حجرٍ، فقال هذا حجرٌ على حجرٍ”

من هنا رَفَعَ مصطفى الحلوة على غلافِ كتابِهِ أعمدةً من حَجَرٍ، ولكنّ الجالسينَ عليها أعمدةٌ من لحمٍ ودم. كانوا ثلاثةً، ورابعُهم كانَ مصطفى. اجتمعوا، تطارحوا، تناظروا في “مطارحات” قالت فيها المعاجمُ كالعينِ، وجمهرةِ اللغةِ إنَّها “مسألةٌ يطرحُها الرّجلُ على الرُّجل”، ومن بابِ طَرافةِ الحديثِ: هل من هذا البابِ اكتفى المؤلفُ بدراسةِ آثارِ عشرينَ رجلًا وتسعِ نساء؟ وجاء المصطلحُ أوضح َعند الرزايّ في مختارِ الصَّحاحِ، إذ يقول:” المطارحةُ إلقاءُ القوم ِ المسائلَ بعضُهم على بعضٍ”، والطريف ُأنَّ الجاحظَ ذَهَبَ في رسائله إلى أنّ المطارحة هي الغناء، وكذلك نقل عنه النويري في “نهاية الأرب”، وكذلك الزمخشري الذي قال:” طارحتُهُ العلمَ والغناءَ وتطارَحْنَاه” ويقولُ بطرسُ البستاني في محيطِ المحيطِ ” وأصلُ المطارحةِ في الغناء”، واتّضحَ لاحقًا انَّ المطارحةَ الأدبيّةَ أبعدُ مأخذًا وأوسعُ مدى من المناظرةِ. فالمطارحة أوضحها مع مصطفى الحلوة إذ تأتي من الطرحِ والمساءلةِ والنقد والمطرحِ الذي يصير مِنصةً ثقافيّة حضاريّة في رواقٍ مشّاءٍ، أو جليسٍ للفكر ِالعربيِّ المعاصر ِما بينَ مراجعاتٍ نقديّةٍ في الخواطرِ والكتابةِ الإبداعيّةِ وفي السيرةِ الذاتيّةِ والفلسفةِ والأديانِ وعلم التاريخِ، إضافةً إلى مجموعةٍ من البحوثِ والدراساتِ ذَهَبَ إليها المؤّلفُ عازفَ مزمارٍ، يقودُ النصوصِ إلى شلالاتِ الماءِ الحيِّ لتغتسلَ ” فورَّدَ وَجْهَهَا فُرْطُ الحياءِ”.

وردَ في تاريخِ الأدبِ لَقَبٌ لشاعرٍ عباسيًّ اختارَهُ بنفسِهِ لنفسِهِ “كُشاجم” جامعًا حرفَ الكافِ من كاتبٍ، والشينِ من شاعرٍ، والألفِ من أديبٍ، والجيمِ من الجدلِ، والميمِ من المنطق، ولما أتقنَ الطبَّ أضاف حرفَ الطاءِ إلى أوَّلِ اسمِهِ، لكنَّ اسْمَ  “كُشاجم” هو الذي بَقِيَ سائرًا. مع نصوصِ مصطفى الحلوة، أنتَ خارجٌ إلى وادي الجواهرِ والدررِ، كما السندبادُ، تحتارُ ماذا تختارُ، حتى يصحُّ جَمْعُ الأحرفِ الأولى لكتابة “الحلوة” بـ (جُمان) ؛ الجدلِ والمنطقِ والأدبِ والنقد.

ختامًا ما بين عَدَسَةِ الشاشةِ وعَدَسَةِ النصِّ ما الفرقُ بينهما؟ إنّ قرأتَ نصوصَ “حلوة” تُدْرِكُ أنَّكَ تُرَاقِبُ الكلامَ، وتَرْسُمُ الصورَ، وتحاكي ما ذهبَ إليه “مصطفى”، أمّا في القراءةِ الإلكترونيّةِ فأنَتَ مُرَاقَبُ، تَشْعُرُ بعينٍ تُتَابِعُكَ من بُعْدِ، أو مِنْ قُرْبٍ. أِنْتَ مَعَ الورقِ سيدَ الأحرفِ في حضرةِ أميرِ بيانٍ، أو فلسفةٍ، أو لغةٍ، أمّا نصُّ الشاشةِ فأَنْتَ أَمَامَهُ مُنْفَصِلٌ عَنْ حَواسِكَ، وأَصَابِعِكَ، وَمَلْمَسِكَ. اذْهَبْ إلى الكتابِ، كما فعل الكاتب مصطفى الحلوة والمهندسة ميراي شحادة رئيسة منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة الثقافيّ، فالكتابُ، وإنْ بَدَا اليومَ رقميًّا على حسابِ الورقْ، لكنَّهُ أَبْقَى وأجملَ وأرقْ.

                                                               والسلام


[1] – رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة الجنان )

استراحة موسيقية مع عازف البيانو رئيس رابطة الجامعيين في الشمال الفنان غسان عبد الرحمن الحسامي

كلمة د. عفيف عثمان :

هي صدفة تحولت الى لقاءات: ففي أحد الأيام الرتيبة من العام 1983، كنت في جامعة ليون الثالثة الفرنسية (جان مولان) في طريقي الى المكتبة على جاري عادتي في الصباحات المشرقة، فصادفت الطبيب عاصم البكري، ابن طرابلس، وكان من الناشطين بين صفوف الطلاب اللبنانيين دعماً للقضايا الوطنية والمطلبية، وبيده كاميرا التصوير، لتخليد لحظة مميّزة. ودعاني بلهجة شمالية محببة لأشهد معه حدثاً في الجامعة، ولم أمانع. فغدونا سوياً الى قاعة تتصدرها لجنة من أساتذة الفلسفة يرأسهم البروفسورفرنسوا تريكو، وقبالتهم طالب يجلس على طاولة منفردة يتحضر للدفاع عن أطروحته المعنونة “المجتمعات الإسلامية أمام العدالة القرآنية: آفاق وخيارات”. وبعد الإعلان عن نيله شهاداة الدكتوراه، قدمني عاصم له: مصطفى الحلوة، ابن مدينته الفيحاء، وقدرت أنه لقاء عابر لن يتكرر. لكن أستاذنا الكبير، الدكتور أدونيس العكرة، جمعنا مجدداً آن توليه رئاسة المركز الدولي لعلوم الإنسان في جبيل في العام 2013 ، وآن تأسيسه “مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية” في العام  2019، واستمرت اللقاءات وتعاونا معاً في “الإتحاد الفلسفي العربي”  بمعية نخبة من المشتغلين بالفلسفة (د. وليد خوري، د. أدونيس العكره، د. ريمون غوش، المرحوم د. أحمد الأمين، د. عاهدة  طالب الأمين، د. علي حمية…وآخرون) حيث كان أمينه العام ومن ثم رئيساً حالياً له.

لن أنظم الشعر في فضائل الدكتور مصطفى، ولن أتحدث عن مناقبيته واخلاصه وصدقه في العمل، وهي خصّال يعززّها رأي فيلسوفنا الكبير د. ناصيف نصّار  فيه، هو مفكر وأديب من طراز رفيع. بل سأدلل على بعض مزاياه الكثيرة التي تشي بها كتبه:  فهو  قارىء ومتابع جيد لحركة الفكر العربي ونتاجاته: وثمرة ذلك ” 80 كتاباً في كتاب: مراجعات في الحراك الفكري العربي المعاصر” (2018) (جزءان، في 1115 صفحة). وهو محقق وكاتب سيّر، وبحماسة متناهية صاغ حياة المناضل عبد المجيد الرافعي، (2019)مدفوعاً بـ”طرابلسية متماهية مع نزوع عروبي”، وقد كتب عن ابن مدينته، انه : ” باق ذلك النموذج – القدوة، بل هو حالة دينامية تجاوزية، ينبغي أن تترسم خطاها أجيال تنهدُ الى وحدة الأمة، قضيتها الإنسان، رسالتها العروبة ووجهتها فلسطين”.  وهو في طور انجاز “سنديانات عتيقة، وجوه من زمن طرابلس الجميل”.

ونجد د. مصطفى ناقداً من الطراز الرفيع في”مطارحات في أروقة المعرفةمراجعات نقدية وبحوث في الفكر العربي المعاصر” (منتدى شاعر الكورة الخضراء، عبدالله شحادة الثقافي، 2021). اذ تناول  في الباب الأول كل فنون الكتابة تقريباً: الشعر، والخواطر والكتابة الإبداعية، والقصة والرواية، والسيّرة الذاتية، وعلم الإجتماع والتربية، وعلم التاريخ. وفي الباب الثاني بحوث ودراسات في شؤون وشجون الفكر العربي. ونجده  عالم لغة وألسنياً في مؤلفه قيد الإنجاز ” القالب غالب”: وهي دراسة لغوية ونفسية واجتماعية للقوالب اللفظية المنوالية المتداولة في طرابلس اليوم. مجيداً لضروب الأنتروبولوجيا في عمله قيد الطبع حول الذاكرة الشعبية “من كشكول الذاكرة الشعبية“، وهي موسوعة تضم ثلاثة آلاف مثل شعبي طرابلسي (وشامي) في قراءة تحليلية ديناميكية، من منظور علم الإجتماع وعلم النفس والفلسفة. وروائياً في عمله الإبداعي قيد الإنجاز،”نزيل قصر بنت البرنس“، حيث يتداخل الروائي مع الفلسفي. وآخر انجازاته اعداده لـ”أوراق تموز” (مركز تموز، 2021). وهي ليست مجرد بيانات ختامية للقاءات تفكير ونقاش، بل نصوص أدبية راقية، بعبارات مولدّة، تضيف جديداً الى لغتنا العربية.

سأل أبو حيان التوحيدي (من القرن الرابع الهجري)، في رسالة “الصّداقة والصّديق” صاحبه الأندلسي، أحد علماء اللغة والنحو، مِم أُخذ لفظ الصديق؟ قال أخذ من الصّدق، وهو خلاف الكذب. ومرة قال من الصَّدق، لأنه يُقال : رُمحُ صدق أي صُلب، وعلى الوجهين، الصديق يصدًق اذا قال، ويكون صَدقاً إذا عمل. والحال، د. مصطفى  الحلوة صديق على الوجهين، قولاً وفعلاً.

كلمة د. أدونيس العكرة :

دكتور مصطفى

انت متّهم بالتواطؤ مع المساجين، فجاز تكريمُك… وجرمُك الأفدح هو إسهامك الى جانب السيدة ميراي في إسكان عبد الله شحادة بيننا، ليس فقط في مكتباتنا بل في ثقافتنا ايضا. أما أنت الذي وضعتَ لكتابه “ليالي القاووش” مقدمتَه البهيّة؟؟

صحيح ان عبد الله أعلى منّي رتبة لأنه تخرّج قبلي من السجن بحوالي الأربعين عاما. ولكننا نبقى زملاء قاووش. ونحن نعرف انه الآن في زيارة خاصة لما بعد هذا الكون، ولن يستطيع الآن مشاركتنا في تكريمك. لست أدري إن كنت تعرف، ولكنني انا اعرف بأننا، نحن ابناء السجون، خريجي الزنزانات، نفهم على بعضنا بالإشارة. انها لغتنا أيضا، وقد اكتسبناها بالخبرة. فمن “ليالي القاووش” فهمت منه انه كلّفني بالنيابة عنه في تكريمك بـشيء من تجربتي السجنيّة المشابهة لتجربته، لأكونَ أوفى وأصدق تعبيرا عمّا كان سيقوله، هو شخصيا، لو كان مكاني في هذه اللحظة. وكان شرطه أن أدخل كلماتي، من باب تكريمك، في سياق الحرية. تلك الحرية التي ما استطعت اليها سبيلا في ذلك الزمان، لا من أبواب الشمس والبحر، ولا من أبواب كل رياح الأشرعة.

أخي مصطفى

في ذلك الزمان غير البعيد كفاية، كان المواطن ممزّقا بين الرغيف والوطن: إذا ناضل من اجل الوطن دخل السجن فجاعت عائلته وصرخ أبناؤه: ماذا فعلت بنا يا أبي. وإذا وقف عند أبواب الرغيف، واقساط المدارس، وتكاليف الطبابة والسكن، تاركا وطنهم بين أيدي الشياطين، سوف يحاسبه أبناؤه: ماذا فعلت لنا يا أبي؟

إن ما يقرّب الحزن اليّ أحيانا، هو ان العديدَ من أصحاب الجرم، في ذلك الزمان، لا يزالون يتصدّرون المجالس، وضحكاتهم ترنّ على الشاشات وفي المنتديات، ولكن ركابَهم معفّرةٌ، وعلى رقابهم صدأ الحديد ظاهر. أما الناس، أصحاب الذاكرة التعبة، هؤلاء اللاهثون خلف الرغيف، وحبة الدواء، وقسط المدرسة… فترى الكثيرين منهم، عندما يكون في ساحات الوطن ظلمٌ وقهرٌ، يقبعون في زنزانات بيوتهم المفتوحة ابوابُها والشبابيك على الهواء والشمس، فلا يجرؤون على الخروج منها ليشاركوا في دفع الظلم… وهناك آخرون، عندما يقع الظلم على المختلفين عنهم في الرأي والمعتقد، يفرحون لانتصار الظالم، ويصفّقون لانكسار المظلوم… ولكن الظلم أعمى ليس له صديق.

أخي مصطفى

ما جئت اليك شاكيا، ففي الشكوى الى غير الله بعضٌ من كثيرِ مذلّةٍ أو قليلها. انني، في حضرتك، أشكو الى عبد الله زميلي في السجن، بعد أن أصبح في روح هذا الوجود وفي تكوين وحدته.

يا زميلي عبد الله، يا سيدي،

في ذلك الزمان القابل للتكرار في تاريخ بلدي، عندما خرجت من السجن، رأيت المدينة تمتدّ أمامي رحبةً، واسعةً، أوسع بكثير من الزنزانة التي كانت لا تزال عالقة في ذهني وفي جسدي. رأيت الشمس، والضوء، والناس، وسيارات… رأيت الأفق الواسع يمتدّ خلف البحر.. يشبه الحرية. في تلك اللحظة، التفتّ الى الوراء نحو الزنزانة، ثم التفتّ الى الأمام صوب الأفق، فلم أستطع أن أحدّد بيقين في أيّ من الاتجاهين كانت توجد الحرية.

هذه الفكرة دفشت بي الى التفكير بشركائي في الوطن، بالمختلفين منهم مع رأيي السياسي، بمعزل عن الدين، والمذهب، والجنس، وسائر الاختلافات الطبيعية والثقافية الأخرى:

كلما كانت تشتدّ عليّ المظالم، وانا في السجن، كنت افكّر فيهم: بعضهم أصدقائي، وبيننا خبز وملح؛ وبعضهم أعرفهم ويعرفونني، وبيننا احترام ومودّة؛ وآخرون منتشرون على ارض الوطن، لا أعرف لهم وجها، ولكنهم موجودون في كياني وضميري…

كلما فكّرت فيهم، كان يحتلّني الخوف من أن يمنع الظلمُ الاختلافَ في وطني..

فلكي أشهدَ ان اختلافنا تنافسٌ على حسن تحديد الخير العام، وشرطه الحرية،

وأن الحرية مِلكٌ عمومي، كسبناه معا في نضال طويل، وتعاقدنا على حمايته معا،

ولكي أشهدَ أن ظلمَ الحاكم عليّ هزيمةٌ للمختلفين مع رأيي السياسي وليس انتصارا لهم،

وأن ظلمَه عليهم يوما هزيمةٌ لي وليس انتصارا…

ولكي أشهدَ اننا معا مصدر السيادة والسلطة العادلة، وأن اختلافنا في الرأي يوحّدنا بالمواطنة في الانتماء اليها،

ولكي أشهد للحق بالاختلاف، عبّرت عن رأيي، فدخلت السجن: دخلت السجن عن كلّ المواطنين المختلفين عني في الرأي. يا سيدي عبد الله، كلّفتني بتكريم مصطفى فشرّفتني… وتكريم مصطفى واجب.

كلمة د. دورين نصر في تقديم وتكريم د.مصطفى الحلوة :

إنّ الدخول إلى حدائق دكتور مصطفى الأدبيّة، لن يكون من خلال كتابه الموسوعي “مطارحات في أروقة المعرفة” والذي نجتمع اليوم للاحتفاء به، ولا من خلال إنجازاته الأدبيّة والفلسفيّة الجمّة، بل هو عبر سبْر أعماق هذا الإنسان. هو المصطفى في موقع “المصطفى” على منابر الجامعات يبذل من فكرِه وعالي أدبه. يُعلي من شأن الأدب، ليبقى صوتُ العقل صادحًا رنّانًا في زمنٍ رديء سقطت فيه قيمة الكلمة.

وإذا كان الإنسان يرى بعينين، فإنّ الكاميرا ترى بعين واحدة يسمّيها رولان بارت “عينًا ثالثة”، إذ بإمكانها أن تنفذ إلى داخل الأشياء. بهذه العين، علينا الولوج إلى “مُنجزات” د. مصطفى الحلوة:

من نور العقل اهتدى ليصل إلى المعرفة، أدرك جيّدًا في كتاباته أنّ النقد لا ينمو في الفراغ، بل ينمو ويتطوّر ويصبح فاعلاً في حاضنة ثقافيّة تتيح له أن يؤثّر في القرّاء. كما عَرَف بأنّ النقد ممارسة اجتماعيّة، وبالتالي فإنّه بحاجة إلى إيجاد قنوات تواصل مع المجتمع حتّى لو اضطُرَّ إلى كتابة تخفّف من طابعها الاصطلاحي المعقّد ليصل إلى شرائح واسعة من القرّاء.

د. مصطفى حين لوّحت الشمسُ فكرَك انتشى الوعي، وصار الإدراك مختلفًا. ولأنّك عرفت بأنّ التواصل مع هذا العالم صار بحاجةٍ إلى كيمياءٍ جديدةٍ مختلفة، أَعَدْتَ صياغته في مختبر الاستبطان الذي يستدعي التأمّل الرصين في الذات والعالم. ووسَط هذا الالتباس الوجودي، تحوّلت “الأنا” عندك إلى “أنا” جمعيّة مثقلة بالعالم ومستغرقة في استيعاب الآخر.

لقد زَرَعْتَ نورًا بين أروقة المعرفة وقدّمت لنا ترياقًا فعّالاً ضدّ التعصّب السياسي والتطرّف الإيديولوجي. وأنتجتَ لنا نظامًا كاملاً من الفكر جسّدته في كتاباتك المتنوّعة، فأدركنا، بأنّه من المتعذّر فصل النقد أو الأدب عن التاريخ لأنّ التاريخَ، على غرارِ الأدبِ والنقد، خطاب.

شعرنا بأنّنا نعبُر مفترقات، وكأنّنا في قاعة ٍمتعدّدة المرايا، نسافر من المعقول إلى الّلامعقول، من السياسة إلى الفلسفة، من الثابت إلى المتحوّل. ولم يَفُتك الانتباه إلى الثقافة الشعبيّة لأنّها ضميرُ الأمم، وحَصاد على بيادر مواسمها، فيها الحَبُّ، وفيها الزّؤان. ولا يكون التجديد إلاّ بإسقاط الشّائب، وتخليص الجواهر من القشور، إذ لا يُختزن التمر المريض مع السليم لأنّ الزّمان يذهب بها جميعًا.

وما أنا، في منتهى الكلام، بغاضّة ٍالطّرف عن رذاذ كلماتك وخمائل ريشتك وأزاهير حقول لغتك العربيّة الحسناء.

لقد أضفت إلى سجّلات الجمال فيها أسطرًا وأسطرَ.

د.مصطفى :الزرقة التي تسبق يديك إلى الصفحة البيضاء، تحمل إليها سماء وغيومًا.الصفحة البيضاء أمامك لا تذكر أنّ سماء توهّجت على أطرافها.لا تذكر أنّ غيمة عبرتها بخفّة.

الزرقة التي تسبق يديك دومّا إلى صفحة أمامك،تظلّ نقيّة كروحك.

كلمة المحتفى به د. مصطفى الحلوة :

/ في حفل إطلاق كتاب”مُطارحات في أروقة المعرفة / مراجعات نقدية وبحوث في الفكر العربي المعاصر “

جامعة البلمند – السبت 11/12/2021

لا خيلَ عندكَ تُهديها ولا مالُ      فليُسْعِدِ النُطقُ إنْ لم تُسْعِدِ الحالُ!

بوحي من هذا البيت الشعري للمتنبي ، أهديتُ كتابي إلى عبد الله شحادة، وقد آثرتُ أن تقام هذه التظاهرةُ الفكريةُ في مسقِطِهِ ، في ربوع الكورة الخضراء – وهو شاعرُها – كردٍّ للتحيّة ، التي خصّني بها ” مُنتدى شاعر الكورة الخضراء الثقافي ” ، بإصدارِهِ هذا المؤلّف الموسوعي .

لعلّي ، في هذا الموقف ، ألتزمُ  منطوق الآية القرآنية الكريمة : “وإذا حُيّيتم بتحيةٍ فحيّوا بأحسنَ منها أو ردّوها ” (سورة النساء/86 ) .

وإذ أردنا الارتقاء بهذه التظاهرة ، فقد كان لجامعة البلمند الزاهرة أن تتكرّم باحتضانها ، مُشرِّعةً لنا قلبها قبل الأبواب !

أجل! أهديتُ عبد الله شحادة هذا السِفر ، بل رفعتُه صلاةً تتنزّل على روحه الطاهرة برْدًا وسلامًا ! رفعته صلاةً “فاتحتها” و “ألله محبّتها” ، تشقّان عنان السماء ، وتعلنان أن عبد الله ، الشاعر المتمرّد ، ما دان إلاّ لله ، وارتحل عن هذه الفانية ، كيوم ولدته أمُّهُ .

بيدَ أن هذه الصلاة لن تبلغ أبواب السماء ، ما لم أتوجّه بعظيم الامتنان إلى الصديقة المهندسة والأديبة الشاعرة ميراي شحادة حداد ، التي واكبت الكتاب ، بمحبّةٍ غامرة ، حتى خروجِهِ ، بحلّةٍ رائعةٍ ، إلى عالم الضوء .

أيّها الأحبّاء ،

لن أحدّثكم عن كتابي ، وما يحوي ، وعن الرسائل التي يبْعثُ بها ، إذ لا أتكلّم إلاّ قضيةً ، ولا ألْهَجُ  إلاّ بقضية ! لن أحدّثكم عنه ، وقد غدا ، من هذه الساعة ، مُلكًا مشاعًا . حسبي أنني أودعته ذوْب فكري ، ولم يَعُدْ في الجعبة قولٌ ، بعد أن جال في أرجائه المترامية أساتذةٌ كبار أكفياء ، قاربوهُ ولم يتركوا زيادةً لمستزيد : من الباحثة المجدّة د. غادة السمروط ، إلى الباحث الأديب    د. جان توما ، إلى زميلَيَّ في “الاتحاد الفلسفي العربي” د. أدونيس العكره      و د. عفيف عثمان ، إلى الأديبمة المتألّقة ميراي شحادة ، وإلى كلّ من اعتلى هذه المنصّة ، أو أدلى بشهادةٍ . فشكرًا لهم جميعًا ، وعسى أن أبادلهم حبًّا بحب ووفاءً بوفاء ، إذ لا خيْلَ عنديَ أُهديهم ولا مالُ !

وإذْ أتوقّف لمامًا عند المناخات ، التي واكبت عمليّتيْ التأليف والإعداد ، فقد كان هذا الكتاب ، إلى كتابين آخرين ، من عطاءات الزمن الكوفيدي ، خلال عامَيْ 2020 و 2021 ، زمن الجائحة التي اكتسحت أربع جهات المعمورة ، حاملةً الموت الزؤام لملايين البشر ، ولم يسلم لبنان ، حتى اليوم ، من تداعياتها الخطرة ، في مجالات متعدّدة .

هذا الكتاب ، أبصر النور في حُمّى  الجائحة ، وتحت وطأة سلسلة من الأزمات ، ضربت لبنان تباعًا ، أبرزُها الأزمة الاقتصادية والمعيشية والمالية ، وما واكبها من حراك شعبي ،  بدءًا  من 17 تشرين أول 2019 ، وهي أزمةٌ ترقى إلى مصاف الأزمات الوجودية ، إلى إنفجار مرفأ بيروت (4 آب 2020)، مما خلّف منعكسات مدمّرة ، على جميع الصُعد .

بإزاء هذا الواقع شديد التردّي ، طرحتُ على نفسي السؤال الآتي : كيف للقلم أن يسيلَ مِدادُهُ ، وَقْتَ جفّت دماءُ اللبنانيين في عروقِهِم والشرايين ، والناس في مكانٍ آخر ، كما يُقال !

لم يكن لي ، أيها الأحبّاء ، إلاّ أن أفيءَ إلى الفلسفة الرواقية الطاعنة في زمن الإغريق . فالرواقية ، وفق الفيلسوف الفرنسي المعاصر “ميشال فوسيل”، بقدرِ ما تتمثّل في التذكير بقلّةِ حيلتنا تُجاه الواقعة التي تنزِلُ بنا ، فهي تتمثّلُ ، في الوقت عيْنِهِ ، بقدرتنا على التأثير في تمثّلاتنا حول هذه الواقعة . فنحن لا نستطيع أن نقْهَرَ الموت ، ولكننا نستطيع أن نبدِّل تصوُّرنا الذاتي للموت . ومع أن الرواقيين يَنشدون الزُهد الوجودي ، فهم لا يستنكفون من أجل العمل المفيد في المدينة الإنسانية .

هكذا ، لم يعرف الإحباط إلينا سبيلاً ، ولم نرفع الرايات البيض أمام عوادي الزمن ، ولم نتسمّر في صقيع الزوايا المعتّمة ، مخافةَ أن تجتاحنا الجائحة . بل رحنا إلى كدٍّ فكريّ ندفع شبح الموت بسلطان الكلمة ، وفي ذلك فعل مقاومة !

إن الدرس الذي ينبغي تعلُّمُهُ من هذه الجائحة ، وسائر الجائحات التي تحلُّ بنا ، حاضرِها وآتيها ، وفي أيّ لبوسٍ تزيّت ، أن الإنسان ، بانحيازِهِ إلى ثقافة الحياة ، يستطيعُ أن يستنْبِتَ من الضعف قوةً ، ومن اليأس رجاءً ، ومن المساحات السود بقع ضوء … هي لعبةُ الزمن في جدلٍ لا ينتهي بين الوجود والعدم ، بين أن نكون أو لا نكون !

لقد آن لنا ، نحن اللبنانيين المكتوين بشتّى أنواع القهر والعذاب ، أن نبرأ من موتِنا السريري ، أن نعبُرَ إلى فجرٍ ، يؤْذِنُ بقيامة لبنان جديد . ولعلّ هذه التظاهرة الفكرية ومثيلاتِها تُخرجُنا من المعاقل التي احتُبسنا فيها ، تُخرجنا إلى فضاءات الحرية ، التي لا تعدلها فضاءات أخرى .

وفي هذا المجال نستحضر الشاعرة والفنانة اللبنانية / العالمية إيتيل عدنان ، التي غادرتنا منذ أسابيع معدودة ، إذ عقّبت إثر إنفجار مرفأ بيروت ، قائلةً : ” إن الردّ الوحيد على الهمجية يكون بمزيدٍ من التصميم على الثقافة ” ! وهذا ما نحن ملتزموه وفاعلوه ، منتصرين لقيم الحق والخير والجمال

أيّها الأحباء لا يسعنا إلا أن نتوجّه مجدّدًا إلى معالي وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى ، شاكرين رعايته هذا الحدث المشهود ، والشكر موصولٌ للقيّمين على هذا الصرح الجامعي المكين . والشكر ، بعدد كلمات هذا الكتاب  ، لـ “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة الثقافي ” ، ولراعيته المهندسة الأديبة ميراي شحادة حداد . كما أشكر كل المداخلين ، ومن أدلوا بشهاداتهم التي تنمّ عن عظيم محبة . علمًا أن معظم من ذكرتُ هم جزءٌ من مشروعنا الفكري ، إذ لهم حضورٌ وازن في هذا المؤلّف ، وفي سائر مؤلّفاتنا . والشكر لكم ، حضورَنا الكريم ، وقد أتيتم الكورةَ الخضراء من كل مناطق لبنان . ولا يفوتني أن أشكر الأديبة الشاعرة دورين نصر سعد ، إبنة هذا الصرح ، منوّهًا بكفاءتها العالية في إدارة الندوة . وإذ نختم ، فبمثل ما درجنا عليه ، في جميع مؤلّفاتنا ، فنذهب إلى القول: ” في المأثور الديني الإسلامي للمجتهد أجرٌ إذا أخطأ وأجران إذا أصاب. عسى أن نكون قد أصبنا في ما رمنا فعله ، ونحظى بشرف الأجرين ، فنكون بذلك من الفائزين الغانمين ” .

-×-×-×-×-×-×-×-×-×-×-

على هامش الاحتفال ( بعض الصور من صفحات أصدقاء موقع ” ميزان الزمان ” الأدبي ) :

تقرير و تحرير و كتابة : الكاتب و المخرج يوسف رقة

نقلا عن موقع ميزان الزمان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى