مسمار تعليمي : صفعة معلّم
علي حسين عبيد
لكل طالب ذكرياته الخاصة، تبدأ معه من المدرسة (الابتدائية) الأولى والصف الأول صعودا إلى أعلى مرحلة تعليمية يصل إليها، هذه الذكريات فيها تجارب هائلة، لو أنها خضعت للدراسة والتقييم، لتمكَّنت الجهات ذات العلاقة من اكتشاف محفّزات ومعالجات كثيرة لأسباب تقدّم طالب في دراسته، وتأخّر أو تعثّر قرين له بدأ معه مشوار التعليم لكنه بقي متأخّرا
لكل طالب ذكرياته الخاصة، تبدأ معه من المدرسة (الابتدائية) الأولى والصف الأول صعودا إلى أعلى مرحلة تعليمية يصل إليها، هذه الذكريات فيها تجارب هائلة، لو أنها خضعت للدراسة والتقييم، لتمكَّنت الجهات ذات العلاقة من اكتشاف محفّزات ومعالجات كثيرة لأسباب تقدّم طالب في دراسته، وتأخّر أو تعثّر قرين له بدأ معه مشوار التعليم لكنه بقي متأخّرا.
هناك عوامل كثيرة تدخل في عملية تقدّم أو تأخّر الطالب تعليميا، منها ذاتية تكمن في الطالب نفسه، وأخرى اجتماعية أسرية، فقد تكون أسرته سببا في تقدمه أو تأخّره، وهناك أسباب أخرى، ولكن من وجهة نظري الشخصية، تبقى علاقة الأستاذ المعلم (التدريسي) بالطالب وطريقة التعامل وتقديم المحاضرة أو الدرس التعليمي، من أهم الظواهر والأسباب التي قد تحفّز الطالب كي يتقدم إلى أمام، أو تقف عائقا في طريقه، وقد تجعله كارها للتعليم بصورة قاطعة، لينتهي إلى قطيعة تامة بينه وبين التعليم في جميع مراحله.
ولو أننا أجرينا مسحا على الشباب الأمّيين، والعمال غير الماهرين، والكسبة، والباعة المتجولين، لوجدنا أن نسبة كبيرة منهم تركوا تعليمهم ودراستهم، بسبب أساليب تدريسية وتعاملية فيها من القسوة والجفاف والجفاء، ما دفع بهذا الطالب أو ذاك إلى مغادرة مدرسته إلى شوارع وساحات اللهو، في مرحلة مبكرة من أعمارهم.
من ذكرياتي الدراسية، كنت طالبا في الصف الأول متوسط، وحين قرع الجرس إيذانا ببداية الدرس، هرعنا جميعا إلى الصف وجلسنا في مقاعدنا، كنا بحدود ثلاثين طالبا، نتوزع في ثلاثة خطوط، كل خط فيه خمس (رَحْلات/ مقاعد مزدوجة مصنوعة من الخشب)، في كل خط عشرة طلاب، الخط الأول يقع إلى جانب الجدار الأيمن من الصف، الخط الثاني يقع في منتصف الصف، والخط الثالث يقع إلى جهة اليسار بالقرب من نوافذ الصف.
سمعنا نحن الطلاب الجالسين في الصف خطوات المدرٍّس وهو يخطو إلينا، ساد الصمت التام، كنّا نخاف هذا المدرّس كونه شديدا في تعامله، دخل الصف فنهضنا واقفين في حركة واحدة، كأننا تلميذ واحد، وحنجرة واحدة، وشهيق وزفير واحد يتنفّسهُ جميع الطلاب في وقت واحد!، لم نكن نشعر أننا في صف للتدريس، وإنما في مكان مغلق للحساب والعقاب، كما أن ملامح وجه (مدرّس الجغرافية) الجادة الصمّاء، كانت تضاعف من سطوة الخوف.
كان مدرّس الجغرافية هذا قد كلّفنا برسم إحدى الخرائط كواجب بيتي، لا أتذكر الأن أية خريطة، وطلب من جميع الطلاب، أن يضعوا كراريس الرسم على ظهور المقاعد (الرحلات)، وبدأ رحلة التفتيش عن أداء (الواجب)، ولم يكن أحدنا يجرؤ على عدم إنجاز الواجد خوفا من الصفعة الحادّة التي كانت تميّز كف هذا المدرّس عن غيره، جميع الطلاب رسموا الخريطة المطلوبة، ولم يجد المدرّس أحدا مقصّرا من الطلاب كي يصفعه.
هناك طالب يجلس إلى جانب جدار الصف الأيمن، كان الوهن واضحا عليه، وبدا ذلك في قسمات وجهه الذابل، هذا الطالب رغم مرضه أدى واجبه في رسم الخريطة، لكنه لم يكن متنبّها إلى أن كراسة الرسم الخاصة به كانت مغلقة، أي أنه لم يفتح الكراسة ويُظهر الصفحة التي رسم فيها الخريطة كما فعل الطلاب الآخرون، فظلّت كراسته مغلقة ولم يتنبّه للأمر بسبب وهنه وضعفه، حين وصل إليه المدرّس سأله هل رسمت الخريطة؟؟
أجاب الطالب بصوت خفيض، نعم أستاذ، فسأله المعلم: وأين هي الخريطة؟؟
في هذه اللحظة مدَّ الطالب يده كي يفتح الكراسة وقبل أن تصل يدهُ إلى الكراسة، بادره المدرّس بصفعة قوية جعلت رأس الطالب المريض يرتطم بالجدار بقوة…..
لم يجرؤ أحد من طلاب الصف أن يلتفت إلى الطالب المريض الذي لم يفتح كراسته على الخريطة التي قام برسمها دونما تقصير، كنّا في حالة صمت مطبق، لكنني إلى الآن أتذكر أن الصوت الوحيد الذي كنّا نسمعه في الصف الصامت، هو البكاء المكبوت الضعيف للطالب الذي تعرَّض لصفعة المدرّس.
حين دقّ جرس انتهاء الدرس خرجنا جميعا من الصف، لكي نتمتع بالدقائق القليلة الفاصلة بين محاضرتين، الوحيد الذي لم يترك الصف هو الطالب الذي طالته صفعة المدرّس، كنّا نظن أنه لم يخرج بسبب المرض، لكنه في الحقيقة كان يفكر بشيء حاسم وخطير اتخذه بينه وبين نفسه.
انتهت الفرصة الخاطفة بين المحاضرتين، عدنا إلى صفنا، جلسنا جميعا في مقاعدنا، إلا مقعد الطالب الذي صفعه مدرّس الجغرافية كان فارغا، حين دخل مدرّس الكيمياء سألنا لماذا هذا المقعد شاغرا، فأجبناه بأنه كان موجودا معنا، وتوقعنا أنه سيعود بعد دقائق، لكنّ دروس اليوم انتهت كلها ولم يعد للصف.
في اليوم التالي لم يأتِ الطالب المصفوع لصفّه وبقيَ مقعده شاغرا، مرت أيام وأسابيع ولم يعد الطالب، انتهت السنة الدراسية ولم يعد، وإلى اليوم لم أرَ ذلك الطالب الذي صفعه مدرّس الجغرافية، ولا أعرف أين صَفَتْ به الدنيا.
كنت أظن أنني في يوم ما أراه، فربما أكمل دراسته في مدرسة أخرى بسبب مدرّس الجغرافية، لكنه اختفى وكأنه لم يُخلَق، مرت عقود من السنوات على تلك الصفعة ولا أدري أين حلّ به الدهر، وإلى الآن حين أمرّ بمساطر العمال، وأماكن الباعة والكسبة، أتطلّع في وجوههم، عسى أنْ أرى ذلك الطالب الذي تغيّرت حياته بسبب صفعة واحدة.
*شاعر و روائي