أدب وفن

الشجرة / قصة قصيرة /بقلم الروائية نورة عبيد


الشجرة / نورة عبيد

لم أنتظر شروق الشمس حتّى أغادر المنزل. أخذت دميتي واتّجهت إلى المقبرة.

هناك ترقد خالتي منذ عشر سنوات. كان ذلك اليوم الوجه الآخر للحياة. لقد عرفت في ذلك اليوم ما معنى أن أفقد خالتي. كان يعني لي أن أفقد قدرتي على اللّعب الصّافي وعلى العمل. فخالتي – رحمة الله عليها- كانت تعلّمني وأنا ألعب.

كنت أصوّب نحو عنقها مقدّمة يدي اليسرى لأدغدغها. وكانت تتركني أفعل ذلك. كانت تقول وقد كسا الضحك وجهها “ستثقبين عنقي”. يومها أدركت أنّ موتها أحدث ثقبا في حياتي.

عندما بلغت المقبرة. خلعت كلّ حزني لأقابلها في منتهى السعادة. استغرب البوّاب وقوفي أما باب المقبرة قبل موعد فتح الباب بنصف ساعة. بادرته بتحية الصباح والمساء وكلّ الأوقات” السلام عليكم”. فردّ “صباح الخير”.

حين فُتِح الباب، رفعت نظري إلى الطوابق العلويّة التي تحفظ الموتى. لقد تحوّلت المقبرة إلى مدينة بطوابق أرضيّة! لقد تمّكنت الدولة من صنع أراض علويّة تستقبل الموتى الذين فاضت بهم المقبرة. عشرة طوابق محكمة التصميم والتنظيم تحمي العظام الرّميم من الضياع.

كانت خالتي تسكن الطابق الثالث. قبرها المائة بعد الألف من الجهة الشرقيّة للمقبرة التي تطلّ على شارع السقّائين. وفي مدخل كلّ طابق مكتبة. إذ يمكن لزائري الموتى أن يتسلوا بكتاب وهم يجالسونهم لوقت لا يزيد عن نصف ساعة. والحقّ لم أعرّج على المكتبة، لقد اصطحبت الكتاب المحبّب لخالتي وسأقرأ لها منه المقطع الذي قرأته على مسمعي مرّات.

كان المشي بين القبور صباحا أشبه بعمليّة تعذيب! تشعر انّك تمشي على جثثهم، فتخفّف ثقلك على أديم الممشى ما استطعت، ولولا شذى نسائم الصباح الباردة لشعرت بفحيح نار لا تهدأ تصّاعد من القبور!

لم تكن فكرة إنشاء مكتبات بمدينة الموتى ترفا ثقافيّا. أذكر جيّدا كيف اضطرّت وزارة الثقافة إلى غلق مكتبات عموميّة بالمدن والقرى. فلم تعد للمكتبات وظائف ثقافيّة ولا تنشيطيّة لا سيما الصّغيرة منها، والّتي عجزت على تجديد بنيتها التحتيّة ووسائلها التنشيطيّة. ولم يعد التلاميذ والطلبة وعموم الناس في حاجة إلى كتاب ورقيّ تآكلت أوراقه بسبب الإهمال والترك. فباتت هذه المكتبات ثقلا على الدولة. فاهتدى بعضهم إلى نقلها إلى المقبرة. والحقّ نال ذلك استحساني واستحسان قلّة من الناس. فالكتاب أنيس في مقبرة تضجّ بالصمت.

بلغت قبر خالتي وكأنّي أرقص.انتبهت إلى ذلك حين هممت بالجلوس على مقعد خشبيّ يحاذي القبر. وكلّ المقابر تحاذيها مقاعد خشبيّة. كنت أتأوّد كراقصة بالي على رؤوس قدمي. وكان جسدي يتمايل ككمنجة. وكانت أوتار قلبي تهتزّ وترتدّ، تصعد وتخفت كأنّي سألاقي حبيبا.

قبل أن أجلس مسحت القبر من قطرات ندى تجري كسيل عرق بعد ممارسة الحبّ! سلّمت عليها سلام
القلب للقلب. قبّلت اليافطة الرخاميّة التي كتب عليها اسمها. رأيتها تبتسم دون أن تفتح عينيها. لقد أعياها النوم وأنهكها. كيف حصل ذلك فخالتي تكره النّوم!

جلست وأجلست حذوي ملاك. رأيت خالتي تتفتّق من القبر وتنفلق كقمر من وراء الغيوم. رأيتها تهزّ جذعها وتمدّ أطرافها، فتباعدت أجفانها وبانت حدقتاها الكستنائيتان خلف رموشها الكثيفة. وانفرجت الشفتان المطبقتان. فبانت أسنانها الأماميّة المنتظمة. وما أن ابتسمت حتّى ترامى غثيثها إلى الخلف كوسادة ناعمة يحمي رقبتها من لسعة الرخام الباردة.

علمت أنّها تتفقّد وجهي وترى أثر غيابها في لمعان عيني. ولا أدري كيف انفجرت شفاهي بضحكة كالصرخة أو صرخة كالضحكة، اهتزت لها المقابر جميعا. فعاتبتني في هدوء:

– لا تجزعي الموتى! فهم لا ينامون إلاّ فجرا! عند الفجر فقط يتنفّسون الصّباح، ثمّ يرقدون من جديد في انتظار البعث.

وضعت ملاك بين أحضاني ومددت يدها الصّغيرة إلى وجهي وسألت:

– ما البعث؟

– أنْ نُبْعث أن نُنادى بأسمائنا! أن نُنْتشل من الغياب برنين أسمائنا على أفواه أهل الأرض!

– هل سمعتنا ونحن نتحدّث عنك؟ لم تستوعبْ بسمة بعد ذلك. لقد باتت كئيبة جدّا. ولم نستطعْ انتشالها من حدادها.

– بلى يا آيات! أنت قادرة على جعلها باسمة. أهل الأرض يبعثون كلّ دقيقة وثانيّة ما دامت قلوبهم تخفق، ماداموا مسكونين بالحسّ والحركة. فهم قادرون على كلّ شيء كلّ شيء. وفي كلّ عمر وحين! – نحن نتذكّرك بالليل دائما. فأمّي لا تنام إلاّ إذا عرّجت على غرفتي وتحادثنا في كلّ شيء ولا شيء. وختام حديثنا دائما أنت. تناديك وتصمت. ثمّ تجفّف دمعا رقيقا وتغمغم “ربي يرحمها وينعمها”.

كنت حينها كمن بلع لسانه. لا أستطيع حراكا غير أن أشاركها بدمعات ثقيلة كالحجر. فأعجز أن أقول “ربي يرحمك وينعمك” كما تقول أمّي.

– هنا تحت الأرض، لا نسمع إلاّ ما يقال عند الفجر. فعند هبوط الظلام، يلتحم الظلام بالظلام فلا نسمع إلاّ حسيس عظامنا وهي لقمة سائغة جامدة للنمل والدود والبشر. نعم في الليل نسمع ضجيج البشر. ولا نسمع إلاّ أرقاما! أرقاما خياليّة!

ثمّ استوت تماما على قبرها .فلم يظهر منها إلاّ الشعر. بدت شعرا ينثر كلاما فحسب. ارتعدت عظامي وبدل أن أضمّ ملاك دميتي، دفعت بها. فاستوت طفلة تحبو. تقدّمت نحو الشعر تلامسه. ورأيت نفسي في السنين الغابرة ألاعب شعر خالتي. كانت تتركني مرّة وتمنعني مرّات. كانت ملاك إذا مسكت بخصلة من خصلات شعرها اهتزّ أديم المقابر وارتجّ. فأزداد تصلّبا ويهرب الكلام جلّه. ولا أجد إلاّ النداء المقطوع الذي يلفّ ضلوعي ويسارع دقّات قلبي. فيقطع صوت خالتي الواضح فزعي:

– الشعر يا آيات، يتحوّل تحت الأرض إلى جذور تربط الميّت بالميّت. فيتغذّى الشعر من الشعر، من رميم العظام. المقبرة شجرة تتشابك جذورها وتشتدّ. فنتحوّل تحت اللّحود إلى شبكة كبيرة معقودة على الحياة في مكان آخر. نحن هنا نتشبّث بشعورنا!

– ونحن هناك يا خالتي أيضا نحبّ شعورنا. فهي تمام زينة الرّجال والنّساء. نحبّ الشّعر لأنّنا نلعب به حين لا نجد بما نلعب. ونحبّه لأنّه يمتصّ غضبنا. فنحكّ رؤوسنا ونترك أصابعنا تعبث بالشعر أنّى شاء لها العبث.

آه يا حياة – ونادرا ما أناديها باسمها – لم أشعر بالجمال إلاّ حين بات شعري طويلا يغطّي ظهري وعجيزتي. كان يوما مشهودا؛ ذلك اليوم الذي افترشت لحافا أبيض بباحة المنزل، وفككت شعري المعقود إلى ظهري لأمشّطه. أسدلت ضياءه على يميني ومررته من كوعي إلى بوعي. وسارعت بالتقاط صورة. كنت أتخيّل شعري مِنْسجا. وتخيّلت خصلاته أوتار آلات موسيقيّة. وجرت في نفسي شهوة الطيران إلى أعلى أعلى أعلى من القمر. وفجأة تناديني أمّي إذ انتبهت لرمزي ابن الجيران يراقب خلف نافذته الصّغيرة شعري وحركاتي…

مرّت نصف السّاعة المسموح بها لزيارة الموتى، ومرّت ساعتان. ولم ينتبه الحارس لحضوري، ولم انتبه لحضور أحد غير قرص الشمس الملتهب يخترق ظهري ورأسي. فأغادر المقبرة، وقد فككت عكسة شعري. فيترامى خلفي كأغصان شجرة تظلّلني من الحرّ وتؤيني حين تسبح الشمس في الأفق الغربيّ.

غادرت المقبرة ناسية دميتي ملاك حذو حياة. تفطّنت لذلك حين انتبهت للكتاب الذي لم اقرأ منه حرفا لخالتي. فوضعته على عتبة باب المقبرة. قد يأخذه زائر وقد يتجاهله وقد يلقي به على رفّ من رفوف المكتبة. وقد يركله أحدهم دون أن ينتبه.

روائية تونسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى