قصة / صوت نوفمبر/ بقلم الروائي بختي ضيف الله – الجزائر
قصة / صوت نوفمبر
الروائي بختي ضيف الله – الجزائر
ينظر “سي العربي” إلى ساقه المخضبة بالدم، وقد اخترقتها ثلاث رصاصات غادرة وهو في طريقه إلى ذلك المكان الموعود. يقاوم ألما شديدا تداعى له كل جسمه النحيف بالألم والحمى.
يفكر في مصير رفيق دربه الذي نجا بأعجوبة من فخ نصبه لهما العدو المخادع في الطريق، بعد وشاية من خائن كان يرصد حركاتهما ويتبع أثرهما بين الأودية والشعاب؛ هل تراه يستطيع أن يوصل الرسالة التي تحمل معالم الثورة التحريرية في أقرب وقت ممكن؟ ليسمع العالم بقضية هي من أعظم القضايا التي دونها التاريخ البشري. تمنى لو لم يكلف بهذه المهمة الصعبة التي هي أعظم امتحان في حياته كلها، لكن حبه لوطنه العظيم دفعه إلى حمل أمانة الشهداء الذين سبقوه بالتضحية والجهاد، ملبيا وصاياهم التي يحفظها عن ظهر قلب، ويعلمها للأجيال.
يحاول صاحب الكوخ أن يسعفه بما لديه من أدوية تقليدية وبأدوات بسيطة جدا، لعله يخفف عنه الألم، ويلقي عليه كلمات طيبات ليزيل عنه الحسرة التي بدت على وجهه من أول لحظات اللقاء، لم يخف من مداهمات الجيش الفرنسي الذي يعدم كل من يمد يد العون لثائر أو خارج عن قانونها الجائر.
- يا عمي صالح، خذني إلى مكان آخر، إني أخشى عليك وعلى أبناء ولدك الشهيد من بطش الفرنسيين الشديد، من يكفلهم من بعدك وهم لم يبلغوا الرشد بعد؟
كم كان ذلك الرجل الطيب قاسيا وهو يخرج الرصاصات؛ تركت جرحا عميقا في ساقه وروحه. لم توقف دمها النازف غير نار حطب كانت فاكهة شتائه هو وصغاره الذين كانوا ينظرون إليه بعيون الشفقة والرحمة، يحاصرون دموعهم.
لم يستفق من غيبوبته إلا على صوت العم صالح ورأسه على ركبته، يمسخ العرق عن جبينه في جو بارد، وصمت مطبق إلا من أصوات الكلاب البعيدة، يحثه على الصبر والعزم، ويدعو له بالشفاء العاجل.
-الحمد لله، لقد تخلصنا من الرصاصات الملعونات، يا سي العربي..الحمد لله.. - الحمد لله..الحمد لله..يا عمي..شكرا لك..لن أنسى لك هذا المعروف..والله..
- لا تشكرني يا ابن أخي؟ نحن أبناء الجزائر العظيمة.. سننتصر..إن شاء الله..سننتصر..
التفت سي العربي يمينا وشمالا؛ كان الأطفال يلهون بالطين اليابس المتساقط من سطح الكوخ المتهالك، الذي صمد طويلا أمام الريح العاتية، يتأمل وجوههم الحزينة؛ تذكره عيونهم التي أطبقت على الذبول بأولاده الأيتام الذين تركهم عند أبيه الطاعن في السن، ذلك الذي لا تزال خرائط التعذيب على جسمه شاهدة على قسوة السجن لأكثر من خمس سنين؛ فهو لا يقدر على الأعمال الشاقة ليطعمهم من جوع؛ تذكره بشعبه الذي ينتظر من الشرفاء أن يفجروا ثورة لا تخمد نارها، حتى يطرد أخر جندي فرنسي من أرضه الطيبة ويطهرها من كل خائن باعها بثمن بخس؛ فيزداد ألم نفسه عن مستقبلها الذي ترك أهله من أجله. يتمم بكلمات الحسرة: - ترى هل انطلقت الثورة؟ هل حدد مصيرها؟ أين أنت يا رفيق دربي؟
يسألهم عن أمنياتهم بعد الاستقلال والجد يضحك حتى بدت نواجذه؛ تعددت الأمنيات لتحي نفوسا مقهورة قتلها الحزن، بينما هو يكتم ألمه الذي لم يتوقف وإنما تظاهر أمامهم بأنه بخير وعلى ما يرام، حتى لا يقضي على لحظات سعيدة انتظروها من رجل يشبه أباهم الشهيد في كل شيء؛ في حركاته وسكناته،في ابتسامته، في الصبر والإصرار على تحقيق أهدافه، في تواضعه بين أيديهم. لكنه حبا نحو زاوية من زوايا الكوخ وأسند ظهره إلى الجدار مستمعا لدقات قلبه، كدقات ساعة ستعلن موعدا قريبا.
لم يستطع العم صالح أن يبعد سمعه عن أصوات الكلاب التي اقتربت وهي تعترض غرباء يزورون المنطقة لأول مرة. خشي أن قد انكشف أمره؛ فأطفأ مصباحه الزيتي وصب على النار ماء فأطفأها، واحتضن أطفاله وأمرهم بالصمت؛ فهو يعلم أنهم سيحرقونهم جميعا داخل الكوخ، كما فعل بأحد أقاربه من قبل؛ فلا رحمة تحت مستعمر بغيض.
واختلطت الأصوات في الخارج؛ فلا تكاد تفقه منها جملها الهاربة والمتقطعة، إلا صوت من تألفه القلوب، وتحبه النفوس التي تتوق إلى الحرية، لتكسر قيدا ظل يكبلها أكثر من قرن ونيف، يقترب شيئا فشيئا، يمشي على بساط الحياء والأدب والقمر يرسم ظله عند الباب. وقف عنده ونادى، وهو منتشي بالنصر: - يا سي العربي أنا رفيق دربك..يا عمي صالح أشعل مصباحك وأوقد نارك لنصطلي بها في هذا الجو البارد.. وأخرج بندقيتك، قد جاء دورها؛ لقد اندلعت الثورة التحريرية المباركة.. قم يا سي العربي..قم يا بطل..قم..
ليت سي العربي سمع وأنصت لهذا الخبر الذي انتظره وتمنى أن يكون من صناعه وقام ليحضن رفيقه الحبيب؛ لكنه صَمَتَ صمْتَ الراحلين، متأثرا بجراحه البليغة، شهيدا لتحي الجزائر حرة مستقلة، مبتسما ابتسامة العظماء، والسبابة على الزناد.