هناك ../ بقلم الروائي محمد إقبال حرب
هناك
لا أعرف لماذا أحب هناك، لقد كرّست كل ما أملك من طاقة وأصول مادية ومعنوية لتحقيق هدف وصولي إلى هناك. لكن الفشل يستحوذ على كل محاولاتي فلا أصل إلى هناك قط، ففي كل مرة أبتهج فيها بوصولي إلى هناك أجد أن ال “هنا” أصبح هناك.
تبًا ل “هنا” الذي يبتلع ال “هناك”. تعلقي ب “هناك” قديم، قِدم بشرتي التي تعلوها اخاديد جرف الزمن، إذ كلما أمطر الزمن سويعاته على جسدي تنجرف نضارتي الى بحر الفناء ولا يبقى منها الا عوالق تتراكم بين المسام تجاعيد وأخاديد.
لكل منّا هناه التي ولدت معه، تلك التي ختمها البيت والمجتمع بنعوت شتّى، تارة قدسية وأخرى اجتماعية فأذعن لهـُناه صاغرًا. في محاولاتي العديدة للتمرّد على إرث “هُناي” والتملّص من قدسية ال “هنا” ترامت إلى مسمعي أخبار الـ “هناك” مغرية، مستفزة فاستنفر فضولي مستنيرًا بتوهج الوعي لمعرفة ما هناك، أين هناك وماذا هناك؟
هل هناك غير هنا كما قالت الأساطير؟
ركبت دابّة الأيام وانطلقت إلى هناك… يا إلهي، هناك مدٌ لا ينتهي من هناك. إذ كلما سبرت درب الـ”هناك” وجدت ألف هناك، وكلما ولجت بابا إلى هناك وجدتني هنا أبحث عن هناك. حول كلّ “هناك” ألف لغز، ألف حكاية، لاكتها الألسن ألغازًا وتمائم حتى نضجت شرانق وجود جمعها حائك الزمن وحاك منها أساطير قايضها أرواح البشر، كلٌ يشارك على قدر أحلامه فيحصل على تميمة تحميه شرّ ما هنا. أغرتني ألوان التمائم المنسيّة على جدار الزمن الغابر فأخذتني الدهشة. دهشة ال “هناك” تتزين بألوان الطيف المرئي والمخفي. ألوان أقسم بعض الغابرين أنهم صبغوا أحلامهم بريشتها. اقتحمت أبواب الدهشة مغامرًا فضحك صوت من هناك وقال لي: ابقَ هناك.
أخذتني الحيرة من أمر الذي “هناك” مأخذ كآبة وخيبة أمل فبقيت هنا لبعض الوقت. لكن وسواس الـ “هناك” أحيا في كياني الانتقال إلى هناك. طفقت أقتحم الـ “هناك” بشجاعة وتهور في محاولات خائبة. لم تعد محاولاتي فاشلة كما في الماضي، لكن الـ “هناك” الذي ارتاده لم يكن إلا نسخة من كل هناك سابقة بألوان مختلفة ومذاقات منفِّرة فارتد إلى هنا تارة طريدًا وطورًا تجرّني أسباب الخيبة في عدم وجود “هُناكي”.
بعد عقود اقتحمتني موجة كأبة إلى أن جرتني قدماي الواهنتان إلى تلك التلة عندك حرش الطفولة فجلست تحت ظلال شجرة صنوبر عتية، أرقب أفق البحر كما كنت أفعل مع رفيق طفولتي. خروج الطفل من ذاتي أعادني إلى ماضٍ تراكمت فوقه بقايا عمر طويل جمعته على عجل. لمحت تلك “النورية” التي ظننتها تلاشت مع كيزان الصنوبر، فصنوبر اليوم أصبح عقيمًا كما أهل هذا الـ “هنا”. أطلت فيها النظر متمنيًا أن تقترب مني لتواسيني، أو أن تعرض عليّ “كشف البخت”. توارد الخواطر آتى أكله كما يبدو فجاءتني على بساط إبر الصنوبر اليابسه، تلك التي كانت تتكسر تحت أقدامها فتصدر لحنًا تقدسه عصافير الغابة. ظننتها ستقول لي كما في الماضي “مد يدك لأكشف بختك”. سحنتها السمراء ما زالت تنضح نضارة، وألوان هندامها تغني الناظرين بما لذّ وطاب من رحيق الربيع. اقتحمتني بنظرات كاشفة فأدركت أنها ليست من أدركها طفلي ذات يوم، بل لعلّها من بقايا الذين جابوا هذه الغابة في زمن كان جميلًا. قالت: ما لي أراك تائهًا ضائعًا كما هناك.
قلت وهل تعرفين هناك؟
قالت: ربما تراني هنا، ولكنني هناك.
قلت: أتسخرين مني لأنني شيخ كبير؟ أيعقل أن تكوني هنا وهناك؟
قالت: مشكلتك يا سيدي أنك تخلط بين العمر وتراكم الأيام كما تخلط بين الـ “هنا” والـ “هناك”.
قلت: توسمت بك خيرًا لتسامري وحدتي، بكشف البخت أو سرد الأحاديث فإذ بك تقتحمين أفكاري وتبعثرين أحزاني، بل شعرت أنك تسخرين من عمري.
جلست القرفصاء، وأشاحت بمنديلها حتى هفهف شعرها بعطر غجريتها وقالت: ما أنا بعرّافة، وما كنت في عداد من يعدّون السنوات عمرًا، بل…
قاطعتها قائلًا: دعينا من الأعمار وأخبريني عن هناك لأنني أعرف هنا.
قالت: لو كنت تعرف الـ”هنا” لكنت هناك.
قلت: ولكن هنا غير هناك. هناك رغائب القلب وسحر المكان وهنا ترقد الأحزان وتركد بحيرة الحياة.
قالت: تبًا لك… الـ “هناك” ليس مكان.
تسمرت كلماتها بين أذنيّ وادراكي خوفًا من إدراك ما أجهله فأقضي كمدًا على عمرٍ أضعته بحثًا عن سراب. لكن وعيي رفض المقولة من أساسها وصرخت: اغربي عني أيتها المجنونة تلك التي لا تعرف أن هناك مكان، بل أمكنة. أيعقل أن يكون المكان صرح من خيال أو سراب من محال وقد لاذ به البشر منذ أن بدأ عصر العُبوس يمطر أحزانه؟
شدّت عصبة رأسها كأنما تخافه الهرب، ووقفت برشاقة المسافر مدبرة عنّي كأنما تحتقرني وهي تتمتم:
الـ”هناك” وعي وإدراك، سَفَرٌ إلى أعماق الذات في رحلة معاناة عبر مناجمها لاستخلاص جوهرة الوجود.
صمتت قليلًا وهي تردّد: في خلوتك مع وحدتك سافر إلى هناك لتدرك انسانيتك فيبقى وعيك هناك وجسدك هنا.