واقع الجراحات القلبية في لبنان والعالم في العام 2022: (الجزء التاسع عشر)
واقع الجراحات القلبية في لبنان والعالم في العام 2022: (الجزء التاسع عشر)
زراعة القلب الطبيعي بعد إستخراجه من مُتبرّع في حالة “الموت القلبي”
(Donation after Cardiac Death)
واقعها ومستقبلها المُمكن:
في هذا الجزء من هذا الملف المخّصص للحديث عن واقع جراحة القلب والشرايين في لبنان والعالم في العام 2022 نستكمل الحديث عن جراحة زراعة القلب ونعرض اهم وآخر التطوّرات والإبتكارات العلمية في هذا المجال وخاصة لناحية التجربة الأنغلوفونية ( الأسترالية، البريطانية والأميركية) المُتقدّمة جداً، والتجربة الفرنسية الأوّلية في إستخراج القلب من جثث اشخاص توفّوا منذ دقائق نتيجة صدمة مُعينة ادّت الى توقّف القلب (Donation after Cardiac Arrest)، وهو برنامج بدأ العمل به كما ذكرنا سابقاً منذ سنوات لزراعة العديد من الأعضاء خاصة الكلى والكبد ومعظم الأعضاء التي توجد تحت الحجاب الحاجز، وذلك منذ العام 2006 فرنسا مثلاً او ما قبل بقليل في بعض الدول الأخرى مثل المملكة المتحدة البريطانية، اسبانيا، اليابان، هولندا، الولايات المتحدة البريطانية ، فرنسا والصين والتي اعتمدته جميعها لإستخراج الأعضاء المذكورة عند اشخاص تتراوح اعمارهم بشكل تقريبي -مع بعض الإختلافات بين بعض الدول- بين 18 و 55 سنة. وقد جرى توسيعه ليشمل إستخراج القلب في عدد من الدول منها استراليا وبريطانيا منذ عدة سنوات والولايات المتحدة في العام 2020، وقد تعتمده دول اخرى لاحقاً من ضمنها فرنسا التي شهدت في السنتين الأخيرتين ثلاث عمليات من هذا النوع وكندا التي بدأت السلطات الصحية فيها بوضع النُظُم والقوانين لتطبيقه قريباً خاصة وأنه يطرح بعض الإشكاليات الأخلاقية والفلسفية والعقائدية التي تسعى بعض الدول لحلّها قبل تعميم استعمال هكذا إستخراج.
1-“التجربة الأنغلوفونية” في التبرّع بعد الموت القلبي Donation after) (Cardiac Death واقعها ومستقبلها المُمكن:
لكي نفهم اكثر واقع الحال يجب ان نفهم جيداً ان هناك الملايين من المرضى في العالم ممن يعانون من مرض قصور القلب، بحيث انه يوجد حالياً مثلاً أكثر من 250 ألف شخص في الولايات المتحدة وحدها في المراحل النهائية من قصور عضلة القلب، وما يصل إلى 15٪ منهم في حاجة ماسة إلى عمليات زرع قلب. ولذلك وبسبب النقص الحادّ والخطير في عدد المتبرّعين بقلب طبيعي بعد حصول حالة موت دماغي (عددهم اقل من 4000 شخص تقريباً سنوياً على ابعد تقدير)، فإنه يتمّ حالياً إختبار طريقة جديدة “لإعادة إحياء” قلوب المُتبرّعين ممّن ماتوا بسبب “توقف في القلب” في عدد من الدول ومنها استراليا وبريطانيا كما ذكرنا سابقاً، والولايات المتحدة منذ العام 2020, ويأمل القيّمون على تطوير هذه الطريقة الجديدة بأن تُخفّف هذه الوسيلة الجديدة كثيراً من العبء الناتج عن نقص عدد القلوب المتوفرة للوهب وفتح باب جديد لزيادة اعداد القلوب المزروعة في القريب العاجل بمعدّل قد يصل الى 30٪ بحسب الخبراء الذين يعملون على تقييم وتشجيع إستعمال هذه الطريقة.
وكجزء من هذا الإجراء الجديد، المعروف بإسم “التبرّع بعد الموت القلبي” أو DCD: Donation after) (Cardiac Death، يتمّ سحب الأعضاء من أولئك الذين ماتوا بسبب توقف قلبهم – إمّا بشكلٍ طبيعي، أو لأن الأطباء توقفوا عن “إستعمال أجهزة الإنعاش” عندهم. وقد أصبح هذا الإجراء مُمكناً اكثر عن طريق إستعمال آلة تسمح للقلب ليس فقط بترويته بالدم الدافئ بعد إستئصاله من المُتبرّع، مما يُحافظ على وظيفة القلب وعلى بقائه “على قيد الحياة” بما يكفي ليتمّ نقله وزرعه بعد عدة ساعات من إستخراجه. وهذا الجهاز له ميزة اخرى مهمة لأنه يسمح ايضاً للجراحين بتقييم وظائف القلب بعد إستخراجه بطريقة لم تكن مُمكنة من قبل.
وكنا قد اشرنا في الأجزاء الأخرى من هذا الملف المُخصّص لدراسة واقع جراحة القلب في لبنان والعالم في العام 2022 إلى ان هناك دول كانت سبّاقة في إعتماد هكذا تقنيات.، بما في ذلك استراليا والمملكة المتحدة البريطانية، واللتان سمحتا بإجراء عمليات زرع القلب وفق طريقة الDCD منذ عدّة سنوات ( 2014 في استراليا ، 2015 في بريطاتيا) وهي لا تزال تسمح بها حتى تاريخ اليوم.
وقد تمّ تنفيذ هذا الإجراء لأول مرّة من قبل مجموعة في “مستشفى سانت فنسنت” بسيدني في يوليو من العام 2014. تبع ذلك مستشفى “بابوورث الملكي” في المملكة المتحدة بعد فترة وجيزة في فبراير 2015. وقد تمّ إجراء أكثر من 100 عملية زرع قلب عبر إستعمال هذه الوسيلة (DCD) في هاتين الدولتين حتى تاريخ اليوم.
وقد استخدمت خمسة من المستشفيات الستة التي تقوم بعمليات زرع القلب في المملكة المتحدة طريقة DCD ، وفقًا للدكتور بيدرو كاتارينو ، وهو واحد من فريق زراعة القلب عبر طريقة الDCD في مستشفى “بابوورث الملكي”. وقد اصبحت هذه الطريقة مُعتمدة في المملكة المتحدة منذ حوالي 3 سنوات تقريباً وتغطّي كلفتها السلطات الصحية البريطانية. في المقابل، يُمكن للأطباء في أستراليا إجراء العملية، لكن الحكومة الإسترالية لا تُغطي تكلفتها، وحيث يتمّ هناك دفع تكاليف عمليات الزرع التي تعتمد هذه الطريقة حتى الآن من خلال التبرعات الخيرية.
وقد اعتمدت مجموعات أستراليا والمملكة المتحدة على نظام (TransMedics “Organ Care System: OCS) للعناية بالأعضاء لإعادة تنشيط القلب وتقييم وظيفته بعد إستخراجه من المُتبرّع.
اما في الولايات المتحدة فقد كان فريق في “جامعة ديوك” هو أول فريق في الولايات المتحدة يقوم بتطبيق هذا الإجراء في العام 2020 على شخص بالغ كجزء من “تجربة إكلينيكية مُتعدّدة المراكز”. ثم لحقه بعد ذلك “مستشفى ماساتشوستس العام” في بوسطن و”مستشفى جامعة ويسكونسن” في ماديسون ، وهما أيضاً جزء من هذه التجربة، وحيث جرى في كل واحد من هذه المراكز الجامعية عملية زراعة قلب بإعتماد هذه الطريقة.
وقد شارك 15 مركزاً متخصّصاً في زراعة القلب في جميع أنحاء الولايات المتحدة في تلك الدراسة التي إستمرّت حتى نهاية العام 2021. ولم اجد حتى تاريخ اليوم الكثير عن مجرياتها ونتائجها الأوَلية في المجلات والمصادر العلمية المُتخصصة، خاصة بعد توقعاتي ان تكون قد تأخّرت قليلاً بسبب جائحة كورونا وآثارها الكارثية على الإقتصاد العالمي وعلى المراكز الطبية في معظم دول العالم وفي الولايات المتحدة ايضاً. ولكن تلك النتائج سوف تظهر تباعاً وسوف اوافيكم إن شاء الله لاحقاً بأهمّ معطياتها وابرز نتائجها على المدى القصير.
ولسنوات طويلة ، تمّ إجراء عمليات زرع الأعضاء عبر طريقة الDCD عند البالغين في الولايات المتحدة مع أعضاء أخرى، بما في ذلك الرئتين والكلى والكبد، وكانت النتائج جيدة جداً على كل المستويات وخاصةً بالنسبة ل”نوعية الأعضاء المُستخرجة” ول”بقاء المرضى على قيد الحياة” لاحقاً مقارنة مع الطريقة التقليدية اي “الإستخراج بعد الموت الدماغي”. ويذهب بعض الخبراء الى ابعد من ذلك إذ يعتقد البعض منهم أن أول عملية زرع قلب والتي جرت في “جنوب افريقيا” في العام 1967 قد يكون من المُمكن أنها كانت عملية زرع عبر تقنية ال DCD ، لأنه لم يكن هناك في ذلك الوقت “تعريف قانوني للموت الدماغ”. ويعتقد خبراء آخرون ان فريق واحد على الأقل اجرى في “كولورادو” في الولايات المتحدة عدداً صغيراً من عمليات زرع القلب وفق طريقة الDCD لمرضى أطفال خضعوا لعمليات زراعة قلب في الولايات المتحدة في السنوات التي خلت.
ولكن في السنوات الأخيرة، وبالنسبة للبالغين، كان القلب إستثناءً رئيسياً لعمليات زرع الأعضاء عبر طريقة ال DCD في اميركا وفرنسا والمانيا وغيرها من الدول التي لم تعتمد بعد هذه الطريقة وتسمح بها، لأن الخبراء كانوا يعتقدون ان عدم قُدرته على ضخّ الدم المؤكسج بعد توقفه بعد الوفاة سيُؤدّي إلى زيادة مخاطر التلف، بحيث تبدأ خلايا وأنسجة القلب في الموت أو التدهور الوظيفي وبالتالي الى عدم فعاليته او إصابته بالفشل او بالقصور السريع عندما يتمّ زرعه عند المريض المتلقّي . خاصة وان “التخزين البارد التقليدي” للقلب -الذي يستعمله عادة جراحو القلب الذين ينقلون القلب الذي يتمّ إستخراجه- لم يسمح بتقييم وظيفة القلب بحثاً عن أية علامات تلف، نظراً لأن “القلب المُصاب في عضلته اًو المريض في شرايينه هو أقل احتمالاً لمساعدة مُتلقّي الزراعة المُحتمل.
ومع تزايد الحاجة إلى عمليات زرع القلب، بحث الأطباء عن طرق للتغلّب على الحواجز التي تحول دون استخدام قلوب مُستخرجة عبر طريقة ال DCD.
ومن هذا المُنطلق بدأ العمل على تطوير هذا النظام المُتخصّص في العناية بالأعضاء، الذي لم يعد مع إستعماله عامل “الوقت” يحدّ من قيود الأطباء لناحية الحاجة الى زرع القلب في مكان قلب المتلقّي في اسرع وقت ممكن. بحيث يتمّ تزويد جهاز ال TransMedics OCS دائماً بالدم المؤكسج وبكل ما يحتاجه من اغذية خلال فترة نقله. وهذا ما قد سمح لبعض الفرق بزرع القلوب بعد 21 ساعة من إستخراجها ووضعها على الجهاز المذكور. وهذا ما يُعتبر إنجاز هائل غير مُمكن مع التخزين البارد التقليدي المُستخدم عادةً للحفاظ على الأعضاء حتى تاريخ اليوم في اكثر الدول ومن قِبل معظم الفرق الطبية التي تقوم بهكذا عمليات. ووفقاً لتقرير صدر في العام 2020 اشار مدير الشركة التي تسوّق هذا الجهاز انه تمّ إستخدامه في اكثر من 170 عملية زرع قلب
إعتمدت على طريقة الDCD في جميع أنحاء العالم.
ونُشير هنا ايضاً الى ان الوقت المُستغرق لإزالة العضو من الجسم، قبل وضعه على جهاز TransMedics OCS، يُمكن أن يكون عاملاً مُقيّداً، حيث أن هذا هو الوقت الذي يُمكن أن يؤدّي إلى معظم إصابات القلب واضراره لأن القلب يكون متوقّف كلياً خلال هذه الفتره. ولذلك يقول الخبراء ان أطول مدة تمّ الإعلان عنها في هذا السياق هي 40-45 دقيقة، لكن معظمهم يتوقّع عادةً أن يكون هذا الوقت حوالي 30 دقيقة فقط. علماً ان الخبراء يجزمون انه حتى مع هذا الحدّ من 30-45 دقيقة، يُمكن لجراحي القلب مُضاعفة عدد عمليات زراعة القلب ثلاث أو أربع مرات.
والأهم من ذلك كله، أن نظام رعاية الأعضاء TransMedics OCS يسمح أيضاً لجراحي زراعة القلب بقياس وتقييم وظيفة القلب قبل نقله إلى المريض المتلقّي، مما يسمح لهم بتقييم حالة، نوعية وقابلية بقاء العضو المنقول على قيد الحياة لاحقاً وبالتالي تقييم فُرص نجاح العملية. فهذا النظام يُجدّد مخزون الطاقة في القلب المنقول ويُمكّن الأطباء بالتالي من إستعادة إنقباض القلب ورؤية ضرباته وإنقباضه ووظيفته بعد وصله على الجهاز. وهو بالتالي يسمح بقياس “إستهلاك التمثيل الغذائي” او “عمليات الإستقلاب” في القلب وما إذا كان هذا القلب مُتوتراً فقط أو مُصاباً بمرض في شرايينة التاجية او في بعض اجزاء عضلته.
ومن هنا فتتمثل الخطوة التالية في الولايات المتحدة في أن يحصل نظام TransMedics OCS على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية Food and Drug Association للحفاظ على القلب – وقد وافقت الوكالة حتى الآن فقط على استخدامه في عمليات زرع الرئة بإنتظار نتائج الدراسة التي اجريت. وذلك على الرغم من أن الشركة التي ترعى التجربة مُتعددة المراكز، عملت مع إدارة الغذاء والدواء لتطوير بروتوكول التجربة بحيث انه لكل ثلاثة مرضى يخضعون لعملية زرع قلب من خلال المعيار الحالي للإجراء, سيحصل شخص واحد على قلب عبر وسيلة ال DCD لتقييم فعالية الجهاز في هذه العمليات وبالتالي مُقارنة حالة المرضى الذين يخضعون لعمليات زراعة القلب التقليدية مع هذه الطريقة الجديدة. وقد كان هدف تلك الدراسة التي انطلقت كما ذكرنا في العام 2020 إدخال حوالي 50 عملية زرع قلب عبر تقنية ال DCD بنهاية التجربة في عام 2021، وعلى ان تقوم الشركة التي تُصنّع جهاز ال TransMedics OCS بتقديم طلب للحصول على موافقة إدارة الأغذية والعقاقير الإميركية لإعتماده بشكلٍ كامل في هكذا عمليات بهدف الحفاظ على نوعية ووظيفة القلب المنقول.
وكما في عمليات الزراعة القلبية التقليدية، فإن هذا الإجراء ينطوي على مخاطر متعددة، بما في ذلك أن بعض المرضى قد يحتاجون احياناً إلى الإعتماد على اجهزة المساندة الميكانيكية الخارجية للقلب لكي يضخّ الدمّ المؤكسج إلى الجسم حتى يستعيد القلب الجديد المزروع وظيفته الكاملة. لكن الخبراء يُؤكدون إن هذه المخاطر لم تزد نسبتها مقارنة مع مخاطر الزراعة التقليدية، وذلك بخلاف ما هو مُتوقّع. وكذلك هو الأمر بالنسبة للإختلاطات الجانبية الاخرى مثل حالات رفض الأعضاء والوفاة.
والنتائج من أماكن أخرى في العالم واعدة بالفعل بحسب ما يُجمع عليه الكثير من الخبراء بحيث ان مُتلقّي القلب الأول من نوعه بطريقة ال DCD في عام 2014 في استراليا لا يزال في حالة جيدة للغاية حتى تاريخ اليوم. كذلك ووجدت دراسة نشرتها مجموعة أستراليا في أبريل 2019 أن مُعدّل البقاء على قيد الحياة بين مُتلقّي زراعة القلب عبر طريقة الDCD كان هو نفسه-أو حتى أعلى في بعض الحالات- من أولئك الذين تلقوا قلوباً تمّ إستخراجها من المُتبرّعين الذين عانوا من حالات وفيات دماغية كما هي القاعدة حتى اليوم في معظم الدول.
وقد قارنت ايضاً دراسة أُجريت عام 2017 من مجموعة المملكة المتحدة مُعدّلات البقاء على قيد الحياة لـ 26 من مُتلقّي القلب عبر الDCD مع عدد متساوٍ من المرضى الذين خضعوا لعمليات زرع القلب عبر الطرق التقليدية. وبعد 90 يوماً، كان هذا المعدّل 92 ٪ عند الذين تلقوا قلوباً بواسطة طريقة ال DCD لا يزالون على قيد الحياة ، مقارنة بـ 96 ٪ ممن تلقوا قلوباً بعد وفاة المتبرعين بفشل او “موت دماغي”. وبعد عام واحد، كانت هذه الأرقام 86٪ و 88٪ على التوالي.
وتأمل الفرق في الولايات المتحدة أن تُسفر التجربة الجارية عن نتائج مُماثلة وان تُحفّز موافقة إدارة الغذاء والدواء على إعتماد هذه الطريقة.
ولذك يقول الخبراء في هذا المجال ان زرع الأعضاء هو العلاج الأكثر فعالية من حيث التكلفة لمرضى المرحلة النهائية لقصور القلب وان تجربة القلب DCD التي انطلقت في العام 2020 هي خطوة كبيرة ومُثيرة للغاية في هذا المجال من الممكن أن تجعل زراعة القلب حقيقة واقعة لجميع المرضى الموجودين حالياً على قائمة الانتظار في الولايات المتحدة وفي غيرها من الدول التي تدرس إعتماد هذه الطريقة لزراعة القلب لزيادة عدد المتبرّعين الذي تشكو منه كل الدول التي لديها برامج لزراعة القلب.
2-التجربة الفرنسية الأوّلية مع “نظام العناية بالأعضاء” :
كما ذكرنا سابقاً فإن السلطات الصحية الفرنسية لم تأخذ بعد القرار الحاسم بالسماح بإستخراج القلوب من المرضى المتوفّين قلبياً بعد حتى تاريخ كتابة هذه المقالة. وكما هو الحال في بعض الدول الأخرى التي لم تعتمد بعد هذه الطريقة يعتقد جراحو القلب في فرنسا ان إستعمال جهاز TransMedics Organ Care System: OCS الذي يطيل من عمر الطعوم المُستعملة( القلوب المُستخرجة) سوف يسمح بتوسيع أُفق هذه الجراحة وزيادة عدد المتبرّعين المُحتملين بنسب قد تصل الى 30% بهدف إنقاذ المزيد من الأرواح التي تنتظر للحصول على قلب طبيعي من احد المُتبرّعين. لإن”نظام العناية بالأعضاء” “Organ Care System” هو كما شرحنا سابقاً جهاز يطيل مُدّة حفظ القلب خلال عمليات زراعة القلب.
وهو كما اصبح معروفاً آلة مُبتكرة منذ حوالي 4 سنوات وتستعمل في عدة دول حتى تاريخ اليوم. وهو يجعل من المُمكن إجراء عملية زرع القلب قابلة للأنتظار اكثر من اربعة ساعات (لمدة وصلت احياناً الى 16 ساعة تقريباً او اكثر في بعض الحالات الإستثنائية)، كما كانت عليه العادة في السابق حيث كان القلب يُحفظ في “وعاء مع الثلج” ويِنقل الى المستشفى الذي يوجد فيه المريض المُتلقّي . ولذلك فإن هذا الجهاز يجعل من المُمكن البحث عن المتبرّعين بالقلوب (الطعوم) بعيداً عن المُعتاد وبالتالي زرع المزيد من المرضى.
ويتمّ حالياً في فرنسا إجراء حوالي 400 عملية زراعة قلب كل عام. ولكن كما هو الحال مع عمليات زرع الأعضاء الأخرى، فإنّ زراعة القلب تعاني من نقص في المتبرّعين بالأعضاء وبالتالي نقص في الطعوم المُتاحة، مع وجود مُتبرّع واحد لكل مريضين بحاجة ماسة الى قلب طبيعي كمُعدّل متوسط.
ويتمتّع القلب بخصوصية معيّنة: فبمجرّد إزالته من المُتبرّع، فإنه يُحتفظ به لفترة قصيرة نسبياً بعكس الكلى او الكبد اللتين من الممكن حفظهما لوقت اطول.
واثناء النقل للمستسفى الموجود فيها المريض المُتلقّي، يُحفظ القلب المُستخرج حتى تاريخ اليوم في معظم دول العالم، في البراد الخاص (وعاء صغير خاص بذلك). ويُمكن الإحتفاظ به لمدة أربع ساعات تقريباً، بين الإستخراج والزرع. بمعنى آخر ، أربع ساعات فقط ، بما في ذلك الخطوات الجراحية. وهذا لا يترك في النهاية سوى القليل جدّاً من الوقت لنقل القلب وزرعه خاصة اذا ما كانت المسافة بين المراكز كبيرة جداً. وهذا ما يُشكّل عائق كبير امام هكذا عمليات. لأنه إذا كان القلب بعيداً جدّاً جغرافياً، فلن تتمكّن الفرق الطبية المُتخصّصة من قبوله وسيكون وقت النقل طويلاً جدّاً مما قد يمنع كلياً حصول العملية برمّتها.
ومن هنا جاء الاهتمام بهذا الجهاز الجديد، وهو “نظام العناية بالأعضاء”، الذي تُصنّعه شركة Transmedics والذي يجعل من المُمكن الحفاظ على القلب المنزوع لمدة تصل من ست إلى ثماني ساعات او اكثر. حتى أن البعض ذهب حتى 16 ساعة من الإنتظار مع نتائج ما بعد الزراعة جداً مقبولة.
وخلال وضعه على هذا الجهاز يكون “القلب محفوظاً جيداً لأنه ينبض” ويصله الدم الذي يُؤمّن له كل الأغذية والمواد اللازمة للمحافظة على خلايا عضلته. وتظل الأوعية الدموية توصل كل ما يحتاجه القلب ولا تعاني عضلته من نقص في التروية، الناتج عند عدم وصول الدم المؤكسج الى خلاياها، على عكس”جهاز التبريد التقليدي”، حيث لا يوجد “نبض قلبي” وحيث يوحد فقط التخزين البارد. ومع ذلك ومن الواضح والثابت علمياً أن نقص التروية ونقص إمدادات الدم ضار بالأعضاء ويُؤثر بشكلٍ كبير على كل العملية وعلى نتائجها عند المريض المُتلقّي.
علاوة على ذلك، فإن القلب من وجهة النظر هذه هو أكثر الأعضاء حساسية. وهو الذي يستهلك أكبر قدر من الطاقة، والذي يُعاني بشكلٍ أسرع عندما لم يعد مُؤكسجاً. للمقارنة ، يمكن تخزين الكلى لمدة تصل إلى 24 ساعة في “البرودة” والرئة من 8 إلى 10 ساعات.
و”البرّاد” التقليدي لنقل الأعضاء يمكنه -كما ذكرنا سابقاً- الإحتفاظ بالقلب لمدة أربع ساعات على الأكثر . ولذلك
فإن الخبراء الفرنسييون يعتقدون كغيرهم من زملائهم الأستراليين والبريطانيبن والإمركيين ان “هذا الجهاز هو جهاز حقيقي لإنعاش القلب”. فهو الآلة مزوّدة بمحرّك، ومضخّة، ودائرة كهربائية، بالإضافة إلى جهاز أوكسجين يسمح بتزويد الدم بالأوكسجين. وبالتالي فإن الشرايين التاجية للقلب تكون أوعية توصل الدم الى معظم اجزاء عضلة القلب. وبالتالي تستعيد عضلة القلب نشاطها وحيويّتها. سواء كان القلب ينبض كلياً أم لا. وميزة هذا الجهاز هي تزويد القلب بالأوكسجين وبالأغذية الأخرى حتى يظل في حالة جيدة.
وأثناء النقل، لدى الأطباء جهاز مُراقبة وشاشة تحكّم تُتيح لهم متابعة حالة القلب ومراقبة الجلوكوز (السكر) ومُعدّل جري او عبور الدم في الشرايين والأكسجين في الدم. ويُوجد خزّان دم أسفل القلب مباشرةً ، توجد فيه المضخة التي تُستعمل لتعزيز الدورة الدموية في هذه الدائرة المُغلقه .
وبحسب الخبراء الفرنسيين في هذا المجال فإنه لا يكفي توصيل الأنابيب على القلب المنقول، مع إستخدام هذا الجهاز الذي لا يزال يتطلب خبرة عالية لمراقبة ونجاح كل الخطوات. ولدى الأطباء مع هذا الجهاز ايضاً أدوات لإزالة الرجفان البطيني (صادم كهربائي)،قد يستعملونها إذا عانى القلب من مشاكل في النظم الكهربائية اثناء النقل. كذلك ويوجد بطارية او جهاز لتنظيم ضربات القلب لتعديل ومراقبة معدل ضربات القلب فالعملية ليست فقط عملية نقل سهلة بل إنها بمثابة عملية إنعاش مُعقدّة لقلب منعزل موجود بالكامل خارج الجسم، وهي إذا مهنة جديدة يجب ان يُتقنها جيداً الفريق المُتخصص الذي يقوم بها. وهي في الواقع، لا تُتعلّم في كلية الطب بل إنها حقاً “تقنية المستقبل” في عمليات زراعة القلب من هذا النوع.
وتبلغ تكلفة الجهاز 45 ألف يورو لكل عملية زرع، ،مما يجعل عملية الزرع أغلى بنحو 50٪. ولم يتمّ حتى اليوم في فرنسا إعتماد دفع كلفة هذا الجهاز من قِبل التأمين الصحي في البلاد ولذلك فإن المراكز الثلاثة التي استعملت هذا الجهاز حتى تاريخ اليوم (مستشفى Marie-Lannelongue في ضواحي باريس والمستشفى الجامعي في مدينتي “ليل” و”رين” ) دفعت كلفته من صناديقها الخاصة او من اموال التبرّعات الموجودة لديها لدعم برامج ابحاث ومشاريع وتجارب زراعة القلب.
وحالياً، من بين حوالي عشرين فريقاً فرنسياً للزراعة، يُستخدم هذا الجهاز في المراكز الثلاثة التي ذكرناها.
ومنذ سبتمبر 2019 ، استخدم مستشفى Marie-Lannelongue الجهاز سبع مرات. وقد اوضح الدكتور Guihaire الطبيب المسؤول عن برنامج زراعة القلب في ذلك المركز،
ان إستعماله مفيد جداً وان المرة الأخيرة التي تمّ إستخدامه فيها، كانت لنقل قلب لا يمكن لأحد أن يُوصله بسرعة لأن المستشفى الذي كان يُوجد فيه المُتبرّع كان يبعد أكثر من ساعة ونصف بالسيارة عن أي مطار. ولولا الجهاز، لم بكن الفريق الطبي قادراً على إستخراج القلب ونقله وزرعه للمريض الذي كان في حالة حرجة جداً، خاصة بأن ذلك القلب كان القلب الوحيد المُتوافق من ناحية فحوصات المناعة مع ذلك المريض، وهذا ما انقذ حياة ذلك المريض قطعاً بفضل إستعمال الجهاز خاصة وان ذلك المريض لم يكن بحالة تسمح له بالإنتظار اكثر. وقد كانت فترة تخزين القلب في تلك الحالة لأكثر من سبع ساعات.
ويكمل الخبراء الفرنسييون الذين يقومون حالياً بهكذا عمليات انه تبدو التكلفة الإضافية للآلة سخيفة. لأنه بالإضافة إلى إنقاذ الأرواح ، فإن المريض الذي ينتظر الزرع “مكلف” جداً ايضاً خاصة اذا كان المريض المتلقي قيد العلاج في المستشفى من أجل قصور القلب الحادّ، او إذا ما احتاجت حالته وضع جهاز ميكانيكي لمساندة عضلة القلب (كلفته حوالي 80000 يورو)، او إذا ما احتاج لزراعة القلب الاصطناعي أثناء انتظار الزرع. وغالبًا ما تتجاوز كلفة ذلك اا100000 يورو او اكثر. يركز الخبراء الفرنسييون على ميزة أخرى لهذه التقنية الجديدة وهي أنها تجعل من الممكن تقييم جودة التطعيم، لأنه من خلال إنعاش القلب في الجهاز ، يمكن لهم التحقق من حالته ووظائفه. وهذا ما يجعل من المُمكن تجنّب عملية زرع محكوم عليها بالفشل، مع قلب مزروع قد يواجه صعوبة في البدء مرة أخرى.
كما يسمح لهم الجهاز أيضًا بتقييم معايير جودة معينة للطعم واخذ القرار النهائي بالزرع او لا بحسب حالة ذلك القلب، لذلك فهو يعطي أيضاً لهم بعض الأمان حول حظوظ نجاح العملية.
ويُكمل الخبراء الفرنسييون انه يتمّ استخدام الجهاز بالفعل بشكل شائع في الولايات المتحدة أو أستراليا وهذا امر واقعي ومفهوم ومُبرّر لأن هذه البلدان هي بحجم قارة والمسافات فيها شاسعة جداً ولذلك فإن هذا الجهاز يسمح للفرق الطبية العاملة في تلك الدول بنقل القلوب المُستخرجة بطريقة آمنة ودون اي قيد او توتر قد يكون ناتج عن الحاجة الى النقل بسرعة بسبب عامل الوقت الذي شرحنا اهميته سابقاً.
ولذلك فهم يرون ان هذا الجهاز مفيد في إستخراج الطعوم من المستشفيات التي يصعب الوصول إليها بسبب العوامل الجوية او المسافات البعيدة او من المستشفيات المعزولة نسبياً
التي يصعب الوصول إليها.
ومن هذه المنطلقات جميعها يناضل معظم جراحي القلب العاملين على تطوير جراحة زراعة القلب في فرنسا من أجل الحصول على تعويض هذه التكنولوجيا الجديدة من طرف الضمان الإجتماعي والسلطات الصحية الفرنسية لأن ذلك سيزيد من اعداد القلوب التي من الممكن ان يستفيد منها الكثيرون ممن هم على لوائح الإنتظار، وهذا ما سيبعث عندهم املاً كبيراً بحياة افضل.
في الجزء القادم من هذا الملف سوف نتطرّق بشكلٍ تفصيلي للتطوّر الذي حصل مُؤخّراً بزراعة “قلب الخنزير المُعدّل وراثياً او جينياً” عند البشر، وهو البرنامج الذي بدأ العمل به مع بداية العام 2022 ايضاً في الولايات المتحدة الأميركية. وسنشرح ما هي التجربة الحاصلة في هذا المجال حتى تاريخ اليوم، اهم الإنجازات والعوائق والمخاوف، وما هو مستقبل هكذا تطوَر علمي هائل.
د طلال حمود- طبيب قلب وشرايين،
مُتخصّص في علاج امراض القلب بالطرق التدخّلية وفي علاج مرضى القلب المُصابين بمرض السكّري،
مُنسّق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود