قراءة نقديّة في المجموعة القصصيّة “احكي يا شهرزاد” للكاتبة الدكتورة دريّة فرحات.
قراءة نقديّة في المجموعة القصصيّة “احكي يا شهرزاد” للكاتبة الدكتورة دريّة فرحات.
بقلم د. دورين نصر.
يسعدني للغاية أن أقرأ مجموعة “احكي يا شهرزاد” القصصيّة للدكتورة دريّة فرحات. كتاب صادر حديثًا عن دار الأميرة في طبعة أولى، بيروت 2019، وهو يضمّ أربعةً وثلاثين قصّة قصيرة. في ثنايا هذا الكتاب تتجلّى رؤية الكاتبة وموقفها من قضايا المجتمع إذ كانت شهرزاد قد استطاعت أن تبقى على قيد الحياة في حياة شهريار، بل وأن تصبح حبيبته وآخر نسائه، فإنّ “شهرزاد”، المتكلّمة في هذا الكتاب لم تناضل لتبقى على قيد الحياة، بل نقلت إلينا رأيَها في الحياة من دون ريب أو وجل. فهي المهتمّة بقضايا المرأة والوطن والحب، توظّف أساليب سرديّة متنوّعة للحفاظ على توازن البنية القصصيّة للنّصّ.
أربعةٌ وثلاثون نصًّا شاءتها الكاتبة قصصًا قصيرة، وربّما رأى فيها المتلقّي خواطر حياتيّة عميقة، يلامس بعضُها حدود الفلسفة المتعمّقة بقضايا الإنسان والمرأة تحديدًا، وبذلك تتعدّى النصوص إلى الدائرة الإنسانيّة الأكثر رحابة، من خلال نظرة شموليّة، تتفلّت أحيانًا من تحيّز الأمكنة وتعيين الأزمنة.
لعلّ هذا، في اعتقادنا، ما انتهجته دريّة فرحات لا سيّما في القسمين الأوّلين، من هذا المؤلّف، إذ أتَتْنا بنصوص أدبيّة، لبُوسها أُقصوصي وجوهرُها تجليّات ومواقف في الحياة، تنمّ عن فكر إنساني عميق يُؤشّر إلى ثقافة الكاتبة الواسعة. النصوص جميعها روحٌ واحدة، توقّع مساراتِها، وكأنّنا أمام مجموعة أشجارٍ مثمرة، كلّ واحدة تختصّ بنوع من الثمر الشهيّ، يضمّها بستان واحد. فدريّة فرحات من خلال القضايا/ الإشكاليّات/ التي استطاعت أن تقاربَها، بعثت برسائل، على قدر كبير من الأهميّة، إلى القارئ، إلى المتلقّي العربي تحديدًا.
فنصّها مثلاً “الكومبيوتر والحبّ” يعالج هذه العلاقة الجدليّة بين العقل والقلب. ويوضح لنا كيف أنّ السعي وراء عالم المادة قد يُفقدنا فُرصة لا تعوّض في الحياة.
بالتالي، فإنّ النّصّ القصصي عندها يتحوّل إلى بناء من القيم يُشيّد بواسطة اللّغة.
وتَظهَر لنا القاصّة بهيئة عالمة النفس أحيانًا إذ تسبر أغوار المرأة التي بلغت من العمر الأربعين، فتحلّل الصراع الذي ينتابها من الداخل، يُقال بأنّ الحياة تبدأ في الأربعين ولكنّها في أعماق نفسها تشعر بتجهّم كبير. وهي بذلك تحكي عن أزمة منتصف العمر، إذ تشعر بأنّ الذات الإنسانيّة مهدّدة بالذوبان أو التلاشي.
وقد حاولت الكاتبة في نصّ الغائب أن تسلّط الضوء على المجتمع الذكوري، وتضع المرأة أمام خيار: إمّا المنزل وإمّا العمل. فهي قد تتآلف وتندغم مع أوامر الرجل، لكنّها في النهاية ستتمرّد على هذه القيود.
وكأنّ دريّة فرحات تسعى أن تجسّد رسالة الإنسان المثقّف الملتزم بقضايا مجتمعه، الساعي إلى إعادة تشكيله وصياغته. وتتجلّى البنية السرديّة في قصّة “صدى الماضي” بطريقة لافتة” حيث تظهر بوضوح علاقة الإنسان بالمكان. فالحبيب الذي كان يقيم في المقهى العتيق، ما زال يقيم ولكن بهيئة أخرى.
فإذا كانت القصّة عند Edward Forster حكاية فحسب تَتَتابَع أحداثُها في حلقات مثلما تتسلسل فقرات الإنسان، فإنّ فرانك أوكونور (Frank Oconnor) يعتبر بأنّ القصّة حتّى تكون ناجحة، يجب أن تتماسك عناصرُها من أحداث وشخصيّات ونسيج لغوي وأسلوبي، إضافةً إلى ضرورة وجود عنصري الزمان والمكان. هكذا أدركت الكاتبة أهميّة وظيفة كلّ عنصر من هذه العناصر وسَعَت الأّ تُضعِف أيّ عنصر حتّى لا تهتزّ بقيّة العناصر. فجاء بناء قصّتها متماسكًا قائمًا على الوحدة العضويّة حيث تترابط العناصر وتتدرّج بغية الوصول إلى بناء عضوي متماسك تؤدّي كلّ جزئيّة فيه إلى الجزئيّة التي تليها.
وقد اعتنت الكاتبة ببناء الحدث، فسارت به سيرًا منطقيًّا مقنعًا بعيدًا عن المفاجآت غير المقنعة. فقصّة “العجوزان” التي تصدّرت الجزء الثاني من المجوعة صوّرت لنا قيمة أخلاقيّة وهي التجذّر، حيث فضّل العجوزان الموت على أن يُدَنَّس شَرَفُهما وتُنتهك حرمة هذه الغرفة المقدّسة التي تنتظر عودة الابن الغائب.
فاتّخذت الجذور في هذه القصّة بعدًا إنسانيًّا إذ غدت غرفة ولدهما نقطة الارتكاز الأساسيّة والمكان المحفور داخل البيت.
هكذا، وفيما كانت القاصّة تدغدغ عواطف المتلقّي في القسمين الأوّلين من المجموعة القصصيّة، فهي في القسم الثالث المعنون “شهرزاديات” تصدمُه. فنجد أنفسنا أمام بنية فنيّة مختلفة قائمة على أساس المفارقة، إذ بين القمّة والسّفح في قصّتها المعنونة “قمّة” تتأرجح آمال المرأة وأمانيها.
ويتواتر الفعل المضارع في قصّة “وهم” على الشكل التالي: “يتهاديان، يحاول، يُشعرها، يوهمها، يقف، ينظر، تدير، تضحك”، ليجعل النّصّ مليئًا بالحركة الدينمايّة، ولكن يُصدم المتلقّي والديناميّة”، حين يتحوّل الفرح في ليلة العرس إلى خيبة، إذ تقول: “ولا تعلم هل هي تضحك عليه أم على حالها”، وفي قصّة خيبة تقول “كانت تجرجر خيبتها” فنسيج السرد في قصص “دريّة فرحات” ليس حاليًا من الحبكة – الحركة، ولكنّها حبكة من نوع جديد إذ تتّخذ مسارًا يغيّر نظام الأشياء ويبدّلها، فتتحوّل اللّذة إلى وهم والفرح إلى عزاء، فكلّ نصّ من هذه النصوص يتضمّن في أعماقه إشكاليّة، أو سؤالاً، وتبعًا لذلك، فإنّ الناقد يجب أن يهتمّ باستنباط السؤال الكامن في النّصّ القصصي – لا بعيدًا عن الموضوع والأحداث والأسلوب والتقنيّات، بل من خلال ذلك كلّه.
ويتجلّى المونولوج الداخلي في قصّة “صوت”، إذ تقول:
“عاد الصوت أقوى ممّا كان..
فأَيقنت أنّه من داخلها
صوت يدعوها إلى إعلان التمرّد”
إنّ هذا الصوت المتمرّد هو الأنا الأخرى للكاتبة التي لا تلبث أن تعبّر بصراحة عن موقفها من بعض العادات البالية التي عفّى عليها الزمن. فتقول في قصّة “كرامة”:
“تلحّفت بالسّواد…
ذرفت دموعًا حرّى عليه…
لكنّها في يوم العزاء…
اكتشفت أنّه لم يكن بريئًا براءة قميص يوسف
فخلعت السّواد عليه… وارتدت السّواد على كرامتها”
فأداة الربط المفصليّة التي أفادت الاستدراك، لكن غيّرت مسار السّرد، وبدّلت المفاهيم، ومهّدت للمفارقة في السطر الأخير:
“فخلعت السّواد عليه، وارتدت السواد على كرامتها”
والواقع، لقد اعتمدت دريّة فرحات على تقنيّة المفارقة لا سيّما في القسم الثالث من المجموعة القصصيّة بدءًا بالعناوين ومرورًا بالموضوعات والصور الوصفيّة والسرديّة وانتهاءً بالنسيج اللّغوي والبناء الفني. وكانت المفارقة عنصرًا تكوينيًّا مهمًّا من عناصر الكتابة. وأنا هنا أتّفق مع صاموئيل هاينز الذي يرى بأنّ “تجاور المتنافرات جزء من بنية الوجود”، ويؤكّد كيركغارد بأنّه ليس من حياة بشريّة أصيلة ممكنة من دون مفارقة، أمّا على صعيد جماليّات التلقّي، فإنّ قوّة المفارقة تتجلّى من خلال المتعة التي تولّدها، وهذا ما لمسناه في قصّة “عرس” حيث تتوازى الجمل كالتالي:
صدحت الصوتيّات
علت الزغاريد
دارت الرّقصات
صدحت الأبواق
زغرد الرّصاص
وتتجلّى المفارقة كالتالي:
لكنّ العريس لم يحضُر
ما يدفعنا إلى الاستنتاج بأنّ وظيفة المفارقة تختلف من نصّ إلى آخر. فهي أحيانًا تُعيد إلى الحياة توازنها، لكنّها في أحيان أخرى قد تُقلق ما هو شديد التوازن.
ويأتي القسم الأخير من المجموعة القصصيّة الذي يحمل عنوان شهرزاد والحياة ليُحدث توازنًا في نهج الحياة تُعبّر عنه في قصّة “اثنتان”.
“الأولى كانت توفّق رأسين في الحلال..
الثانية كانت تؤمّن فرض العمل للأخريات”
“نهج في الحياة يحدّد المصير”
وتقول في قصّة “خطّ فاصل”:
“رقيّ، حضارة
تخلّف، تقهقر
هو خطّ فاصل
يفصل بين الحياة واللاحياة.
هكذا هي حياتنا دائمًا بين خطّين”.
هذه النتائج ذات الأبعاد الفلسفيّة التي توصّلت إليها الكاتبة جعلت المتلقّي يشعر بأنّ باطن الحياة وظاهرها عللى تضاد كامل.
في الحقيقة، أنا لم أسعَ في هذه القراءة المتواضعة إلى البحث عن الحسنات والعيوب، أو مواطن الجودة والرداءة. فهذه مهمّة قديمة وعميقة لأنّها تدفع بنا إلى موقعي القبول والرفض، أو تحصر الممارسة النقديّة بين طرفين حادين يمكن اختزالهما بـ “نعم” أو “لا”. بل حاولت أن أفهم الشكل التعبيري للنصوص والأدوات والأساليب التي وظّفتها الكاتبة متبيّنة أبعادَها المتجلّية بالعناوين التالية: الأخلاق، السياسة، التاريخ، الحب، القهر الاجتماعي، القهر الوطني وهي تتميّز بانطوائها على عناصر متناقضة: العاطفة والعقل، الذات والآخر، الحرية والضرورة، الأمل واليأس… فالكاتبة صاحبة رؤية تسعى أن تسلّط الضوء على التقاليد البالية والمنظومة الاجتماعيّة الفاسدة.
ويحلو لي أن أختم في نهاية هذه القراءة بكلمة للكاتب ستفنسون، إذ يثمّن دور الفن القصصي، على الصعيد الحياتي، فيقول: إنّ أغلب الكتب المؤثّرة والأصدق أثرًا، هي القصص. فهي لا تُلزم القارئ بقصيدة، ولا تلقّنه درسًا سينساه حتمًا فيما بعد (..) بل هي تحرّرنا من نفوسنا وترغمنا على معرفة الآخرين.