تسجيل أسماء/ قصة قصيرة/ نورة عبيد

تسجيل أسماء
عاد منهكا على غير عادته بعد حصّة العمل الصّباحيّة. أدار المفتاح وقبل أن يفتح الباب ظهرت نهاد عند العتبة. تفرّست في ملامحه المحتقنة. فلم تنبس بسؤال.
خطا نحو غرفة النّوم، تمّ تمدّد في عناء على الفراش. وفي صمت نزعت حذاءه وأطبقت الباب وراءه.
تسلّلت إلى زاوية من المنزل. وهاتفت زميلة له استأنست معها التّحايا والخفايا. ثمّ سألتها عن أحداث الصّباح، لعلّها تجد تفسيرا لحالته. نفت الأخرى أيّ أمر جليل يمكن أن يربك عمل موظّف بالبلديّة مهتمّا بدفتري الولادات والوفيات.
نشطت حينها في ترتيب سفرة الغذاء وهمّت في وهج الزّوجة الصّالحة تناديه. وما إن وضعت يدها على الباب، حتّى رجاها ألاّ تدخل وألاّ تدعوه لشيء. وبلطف طلب منها أن تحافظ على سكينة المنزل.
فتح نافذة تطلّ على بطحاء شاسعة تتوسّطها برك من الماء الآسن محدّدة بأشجار سرو هيفاء ذات ظلال طفيفة يتجمّع عندها المارّون من أطفال وشباب وشيوخ وكهول.
لا يزال يمدّد البصر على الحافتين يسوّي ربطة العنق الإجباريّة يستنْزلها إلى أسفل قميص ضاع لونه بين بياض وصفرة. تحسّس عرقا منسكبا من كلّه كأنّه النّدى صبيحة يوم قائض.
حكّ شعره الذي أضاءه البياض من جهة الصّدغين، ضغط بسبابته على فوهة أذنه اليمنى، وترقّق صدى منسابا في تجويفها وتمنّى في لحظة لو يغور في فوهتها. ويكفّ عن تسجيل الأسماء.
استرجع وجها ضاحكا ينقّي اسما جديدا وهو يتلطّف الأيّام ليكبر في نعيم المهد وسلو الهمّ. وتقطّب لوجوه داكنة وألسن راعشة بطيّ أسماء صائمة عن السّلام.
تعوّد على منصبه وهو يدوّن الولادات والوفيّات دون انتماء.
أحكم رؤية للحياة دون ضجر، إذ بات تثبيت المواليد والأموات كالماء لا يغيب عن متجرّع حبوب الدّواء.
أغلق النّافذة بتؤدة. وحينها انتبه إلى ثقب بجوربه الأيمن. تبسّم في غفلة. ثمّ استند إلى كرسيّ هزاز. فقابلته صورة زوجته فهمس «نهاد». أطبق جفنيه تماما.
عند الثّامنة وقف أمام شبّاكه .وجه خال من الألوان، عينان من عقيق وشفتان من ثلج.
- قال: «المتوفيّة سلام والمولود وصاب. أتمّ التّسجيل.»
تثبّت في الاسم الثّلاثيّ للمتوفيّة. تلك حبيبته الأولى. تاه في جليل اسمها وتسارعت الأحداث بين ناظريه؛ سنوات المعهد والكليّة. عصف الأماني قبال شوق الآباء للاطمئنان، إذ غربت سلام عند قبول الزّواج بغيره. وهذا الماثل أمامه زوجها.
ماذا لو كان هو الزّوج الذي ترمّل. والأب الذي وقف عاريّا من زوجة تهبه النّماء. لم يقو على تحمّل ما ساوره من فزع، فتسلّل إلى منزله قبل نهاية الدّوام.
في الطّريق عرّج على منزل الفقيدة. ففقع قلبه الأنين المتصاعد من الجوار. سالت دموعه وتمسّك بالطّريق إلى أن جرى عند منعطف إلى اليمين. ولمّا شارف البطحاء تريّث ومرّر بمنديله على وجهه.
غادر الكرسيّ، ثمّ تأمّل وجهه في مرآة مثبتة إلى الجدار الأيمن لغرفة النّوم.
نداء الشّجن عالق بخياله. فحمدل وتلطّف وترحّم وتمتم بخواتم سورة البقرة. ثمّ حدّق في جوربه المثقوب. فقهقه وانتهى بقرقرة أسنانه. ثمّ سحب جوربا جديدا وانتعل حذاءه، وتهيّأ لتشييع سلام إلى مثواها الأخير.