مقالات واقوال مترجمة
أواخر آذار…/أليزابيت بيشوب / ترجمة نسرين زريق
أواخر آذار
- اليزابيث بيشوب
** ترجمة: نسرين زريق
عابسًا كان آذارُ ذاكَ اليومَ الذي تمشّينا فيه على الشاطئ
وسمهُ البردْ وعصفُ ريحٍ هادر
ونظرنا حولنا فإذا الخَلقُ معتزلٌ الظهور
حتى المدّ تنهّد ساحبًا أنفاسَه
وطارت فرادى ومثنى عنه النوارس
رباه! كم ارتجفنا حين خدّرت ريحٌ صرصرٌ جانبًا من وجهينا
قبل أن تحومَ لتفرّق سَربًا وحيدًا من الإوزّ الكندي
ثم تعودَ فتفجّر الصوتَ الهامس لفراملِ القوارب
وتشردّه كغشاوة ضبابٍ كثيف…
كانت السماءُ أكثر عتمةً من الماء
استدعت إلى ذاكرتي يشمًا أخضر
أما الرّمل المبلّل الذي مشينا عليه بأحذيتنا المطاطيّة
فحمل آثارًا كبيرة لأقدام كلب (كبيرة بحيث تخالها آثار أسد)
وحين سعينا وراءها تكشّف أمامنا
خيطٌ أبيضُ طويلٌ
يلتفّ في حلقاتٍ مستسلمًا للمدّ
يغرقه ويعليه
لفتتنا نهايته المتشابكة كعقدة
إذ تخايلت كغريقٍ تتلاطم به أمواجْ
أو شبحٍ يلهو في بحارْ
فيغطس تارةً ثم تلفظه المياه
أكان ذاك خيطَ طائرةٍ ورقيةْ؟
عجبًا، ولكن، ما من طائرةٍ ورقيةْ!
وقفت هناك وعصف بي –كما الريح- شوقُ النأي إلى البعيد
إلى حدود ذاك المنزل الذي عاين أول أحلامي
في عوالمي البكر الخرافية…
وإلى ذاك الصندوقِ المعوجِّ المستلقي على منضدةٍ خضراءَ خشبية
كان بيتي يشبه حبة أرضي شوكي لكنه أكثر منها اخضرارًا (ألأنه كان مسلوقًا ببيكربونات الصوديوم؟)
ومحميًّا كان من أمواج المدّ الربيعية بشاطئٍ من صخور…
(أم هل كانت تلك الصخورُ خطوطَ سكّةٍ حديدية؟)
وكأني أكتشف الآن كم هو ملتبَسٌ كل ما يتعلق بذاك المكان!
وددت لو أسكنَ إلى الأبد غرفتين عاريتين فيه
فأتقاعدَ وأنفضَ يديّ من كل الأعمال
بل وأكثرَ بعد…
أكتفي بالفُرجةِ على ما يطلُّ من نوافذه
وأٌصرفَ ساعاتي بقراءة ما فيه من كتبٍ عتيقةْ وطويلةْ ومملةْ…
أخطُّ عليها ملاحظاتٍ لا طائلَ منها…
أثرثرُ مع روحي
وأستمعُ في الأيام المكفهرّة
إلى وقعِ ابتهالاتِ حبّات المطر المستحمّةِ بالنور
وأهيّئ في الليالي مشروبًا روحيًا (صنع في أميركا)
لا لأحتَسِيَه، بل لأحْرِقَهُ بعودِ كبريت
وأرقبَ -من ثمَّ- انعكاسَ رعشةِ شعلته الزرقاءْ الشفيفة على زجاج النافذة…
لا بدّ أيضًا من موقدٍ ومدفأةْ، وإن مائلةْ،
مجهّزةْ بأسلاكْ، وربما بالكهرباءْ
أقلّهُ يوجد في ظهرها سلكٌ آخرْ يسنِدُ بوَهَنٍ
جُلّ العلاقةْ
ويرمي بها إلى مكانٍ ما خلف كثبانِ الرمال…
أأحوز ضوءًا للقراءة؟ هذا مثالي!
ولكنه أيضًا مستحيلْ
وكانت الريحُ ذاكَ اليوم أبردَ من أن تسمح لي بالرحيل إلى البعيد
أما المنزلُ فلا بدّ أوصدتْ –أمام العاصفة- كل مغاليقهِ الآن.
ها الرّيح تخدّر الجانب الآخر من وجهَينا ونحن عائدَان
وها الشمس تطلّ بخجلٍ ثم تتوارى خلف الغيم
وحده ألقها يبقى حبيسَ حوافّ الحصى
يشعشعُ ألوانًا على الرملِ لا تملُّ منها العين
أما ظلّانا، تَيْنِكَ الطويلان
فتسحبهما بطرفة عين
فلربما كانا يغيظان
ذلك الأسد الذي تمشّى على الشاطئ أثناء المدّ الأخير
راسمًا على الرمل آثاره السحريةْ
ولعلّ استهوته هناك طائرةٌ ورقية فتلقّفها من السماء وجعل يلهو بها رضيّا…
- إليزابيث بيشوب: شاعرة وكاتبة قصة قصيرة أمريكية. حصلت على جائزة الولايات المتحدة للسنوات 1949-1950، كما حصلت على جائزة بوليتزير للشعر سنة 1956، وجائزة الكتاب الوطني سنة 1970، وجائزة فاينر الدولي للآداب سنة 1976. وتعتبر واحدة من أهم شعراء القرن العشرين “كانت تسعى إلى الكمال ولم تكترث بغزارة الإنتاج”. هكذا وصفها لاري روثر، أحد أبرز النقاد المعاصرين ، إلا أن رأيه هذا جاء بعد وفاتها عام 1979م عن عمر يناهز 69 عاماً، فبدأ العالم يكتشف عمق قصائدها التي لم تتعد الـ101 قصيدة.