محمد حسين بزي: أريد للقارئ أن يعرف حقيقة مولانا الرومي من قواعد الحب إلى قواعد العشق
الروائي والشاعر محمد حسين بزي :” أريد للقارئ أن يعلم ثم يعرف ثم يدرك أن حقيقة الأمور لا تظهر إلّا بالاندكاك فيها”
بيروت – حوار ضحى عبدالرؤوف المل
لا يمكن بأي حال فصل التاريخ الذي يؤرّخ لحياة وأحوال الصوفي أو العارف عن أفكاره أو مصنفاته، لأنه ببساطة لا يمكننا التفكيك في بين العرفان النظري والعرفان العملي في شخصية العارف، وإلّا لكنا أمام درس في جامعة أو محاضرة في مجمع علمي مجرّد عن السير والسلوك الشخصي، حيث نتذاكر تلك الأفكار ولا نعمل بها.. والعمل بالفكرة لا يقل أهمية عن الفكرة نفسها، وقالوا “الموضوع حاكم على الحكم”، بمعنى أن الأصل الموضوعي حاكم على الحكم الواقعي. وهذا قياس مع الفارق لتقريب المعنى ليس أكثر، فغاية التصوف الحقيقي هو الالتزام بنظام الأخلاق الربانية.
وقد التزم الروائي محمد حسين بزي بخط الأدب العرفاني وقدم لنا في روايته أيام مولانا حبكة ذهنية عرفانية تعيدنا إلى الجوهر وعندما سألته عن اللسان العرفاني في عصر خرج عن الحداثة ولماذا يثير الذهن مستنداً إلى اللسانيات وعلم النفس قال :”أما مسألة الحداثة وما قبلها وما بعدها، فهذا أمر إشكالي ومختلف عليه في عالم الأفكار منذ فترة، فعلى سبيل المثال فإن يورغان هابرماس الفيلسوف الألماني المعاصر، ولعله آخر وريث لمدرسة فرانكفورت الفلسفية يعتبر أن الحداثة مشروع لم ينجز بعد، وهذا من أخطر نظرياته.. بأي حال أنا أعتبر أن الرواية قد كتبت بروح العصر، لكنها متكئة في أسانيدها ومصادرها على أسس تراثية مرجعية..
أما عن اللسانيات أو اللغويات Linguistics فلا بد لأي كاتب أن يستند إلى دراسة اللغة بذاتها ولذاتها حسب تعبير سوسور F.de Saussure، أما علم النفس العرفاني أو الصوفي الذي يدور حول النفس (الذات) والقلب والروح فمن الطبيعي أن تكون هكذا رواية هي ميدانه الأول للسير في النفس وسلوكها بالفضائل الكمالات مع الخلق ونحو الخالق.” ومع الروائي محمد حسين بزي أجريت هذا الحوار …
– في روايتك الجديدة “أيام ومولانا وقواعد العشق الأربعون” مقامات بعناوين وظفتها لإدراك قيمة الإستعارات العرفانية من منظور الأدب الحديث لماذا هذه المصطلحات في المقامات وعملياتها الذهنية؟
بداية أشكركِ أستاذة ضحى على هذا اللقاء، وعلى هذه الفسحة للتعريف بالرواية، واعترافاً بالفضل لأهله أود بداية أن أشكر صديقي التركي الأثير إلى قلبي الأستاذ ياسين قرنفيل الذي كان خير رفيق لي في رحلتي الأولى إلى قونية سنة 2016، وشهد معي من الغرائب والبركات ما شهد في تلك الرحلة، حيث انقدحت الشرارة الأولى للرواية في قلبي، وهذا ما اكتشفته لاحقاً. وإجابة على السؤال؛ لقد جهدتُ وجاهدت في هذا لأمرين:
الأول، العودة مع القارئ الكريم إلى حاضرة الآباء المؤسسين للتصوف من خلال معرفة المصطلحات والمقامات والأحوال ثم نظام العلم والتعلم عند الصوفيين.
الثاني، الصعود مع القارئ إلى تلك الأحوال والمقامات من خلال سبر أغوارها مع تبسيطها قدر الإمكان بما يفيد القارئ المعاصر الذي يعيش في بحر من الادعاءات التي اختلط بها ومعها التصوف الحقيقي بالتصوف المُدّعى أو الناشز عن أصله، الأمر الذي يجعل المتلقي يمسك بالمفاتيح الأساسية وفق هذا الجهد، لكن يبقى عليه التوسّع بما وقع في قلبه من معانٍ ومعارف.
أما المقامات الـ 21 المذكورة في الرواية من مقام العرّافة إلى مقام الوداع فبعض أسمائها هي فعلاً مقامات صوفية، لكن بعض الأسماء أنا أسميتها لتناسب السياق العام للرواية، متوخياً الإمساك بذهن القارئ للوصول إلى عقله وقلبه تتابعاً وتدافعاً في آن.. وربما هذا الأمر الوحيد الذي سعيت إلى تعمده في الصفحات الـ 400 للرواية.
– رواية ذات خصائص ثلاثية من تصورات وتمثيلات وإدراك حتى علم التاريخ في خطاب عرفاني بعيداً عن الإنشائيات.. كيف ذللت كل ذلك وفق نظرة تحتاج لبحث طويل؟
الوقت خير صديق يا عزيزتي، وبالصبر على الوقت وبالوقت تتذلل أعلى وأكبر الصعاب، هذه الرواية خلاف كل ما كتبت من كتب وأبحاث ناهزت الـ 25 حتى الساعة، فقد استغرقت الرواية من عمري سبع سنوات، وبالحد الأدنى كان عليّ انجاز خطابها، وأن أحسن تماسكه النصي من خلال المزج بين التاريخ والتصوف بلغة أديبية تستطيع الدخول من عقل القارئ إلى قلبه.. نعم، لم يكن هذا الأمر سهلاً، لكن كرم الله كان أكبر، فلقد سقيت شجرة رواية “أيام مولانا وقواعد العشق الأربعون” سبع سنوات من ندى عمري، فمنذ أن زرت ضريح الرومي في قونية بداية سنة 2016 وأنا أسقيها مرة بالماء وأخرى بالدمع، وأحياناً بالشعر، وأحايين بالتأمل مشدوهاً لأيام في حالة أو بالاستغراق في تفكر في نص.
الروائي د.محمد حسين بزي في قونية مع صديقه التركي الأستاذ ياسين قرنفيل .
– محمد حسين بزي والبعد العرفاني في الأدب الروائي ما بين الشعرية والتفكيك والتأويل والمقاربات، ما الذي تستدعيه من هذه الزوبعة العرفانية الآن؟
صدقيني لم أنوِ ولا نويت استدعاء أية زوبعة ولا أي شيء من هذا، وأقولها لأول مرة، إن كل ما في الأمر أنني اعتبرت أن مولانا الرومي قد استدعاني وكتبت قصيدتي الأولى فيه “غادرني فيَّ وإليَّ” ثم كُتِبت الرواية من تلقاء روحها الأولى بالنسبة لي في قونية، ومن روحها التي سبقت في بلخ بالنسبة لمولانا.. هكذا بكل بساطة وشفافية جرت الأمور رغم طول المدة التي استغرقتها، أنا لبّيت النداء بما استعطت وأديت من عليّ بما فهمت، ويبقى الحكم الأول والأخير للقارئ الكريم في تصنيفها.
– رواية عرفانية فلسفية بتجريد الذهن من الشوائب لتضعه أمام منطلقات سردية بعيداً عن ما هو مجسد ما الذي تريد أن يدركه القارىء؟
أريد للقارئ أن يعلم ثم يعرف ثم يدرك أن حقيقة الأمور لا تظهر إلّا بالاندكاك فيها، بحبها، بعشقها، وحقيقة مولانا الرومي وأحواله وأفكاره وتصوفه وفلسفته كذلك، وأن حقيقته ليست تلك التي أشيعت حوله وكتبت عنه في العشر سنوات الأخيرة، اللهم إلّا ما رحم ربي.
فهذا الرجل الذي أصبح في دوحة العلياء العالمية، وفكره وشعره قد ترجم إلى معظم لغات العالم، وانتشر انتشار النور الساطع في القلوب والعقول، من الجدير بنا أن نوصله إلى القارئ العربي كما أراد هو (مولانا الرومي)، لا كما أراد ويريد البعض. وهنا في المقام العلمي خلاف الرأي حتى مع الرومي نفسه لا يفسد وداً أو محبة، ولكن لنكن فقط أمناء على فكره وعلى تراثه الأصيل.
– رؤية تجريبية تغرز النظام العرفاني، وكأنها نظام كوني دائري مدخله المقامات لماذا هذا النوع من الأدب الموجه للقارىء الجيد فقط؟
في الحقيقة لم أتعمد هذا الأمر بداية، وإن تضمنه النص، ولكن الرواية أخذت مسارها وشقت طريقها، وكما ورد عن الرومي: “وإذا ما تفجر الماء وجد طريقه.
– لا يمكن أن يكتب هذه الرواية إلا من غاص في علوم القرآن واللغة، هل اعتبر هذا نوعا من البلاغة الإيمانية لإبراز آلية القرآن وجوهر جهة الإدراك الحسي الإيماني وأنت محيط بكل هذا لتفك التعقيد عن ما قدمه شمس التبريزي؟
ليس سهلاً ادعاء هكذا غوص، ولكن في أغلب الأحيان النص يعكس ثقافة الكاتب ويُجلّي بيئته المعرفية، وهذا فعل تراكمي في حياة الكاتب، ولا ريب أن يظهر في نصوصه، ولربما كان لثقافتي وبيئتي بعض التأثير أو الظلال المخيِّمة على نص الرواية من حيث بنية السرد لا من حيث المصادر الينبوعية للرواية.. ويبقى المرء ابن بيئته، وما برح القلم روح صاحبه.
– أعرف أنه صدرت لك أربعة دواوين شعرية وغيرها من الكتب الفكرية والتاريخية والأبحاث العلمية والأكاديمية، ولكن في محضر الرواية أسألك: هل من فرق يجده محمد حسين بزي بين روايته الأولى شمس (أميرة عربية عاشقة) والتي أخذت شهرة واسعة، وكتب عنها عدة أطاريح جامعية وصدر حولها كتاب “دراسات نقدية في رواية شمس” وبين روايته الجديدة “أيام مولانا”.
لا يجمع بين الروايتين سوى أنني كاتبهما، فرواية شمس ولدت من رحم ظروف مختلفة كلياً عن الراهن، لقد كتبتها ولم أتجاوز حينها الـ 22 سنة من عمري، ولم أنشرها إلا بعد أكثر من 20 سنة على كتابتها. أما رواية أيام مولانا فتأتي وأنا في هذا العمر، وقد مرّ عليّ من الحياة ما مرّ، فضلاً عن التجارب ومخاضات الأفكار ومحطات الدراسة والبحث العلمي والصخب الملازم له، خاصة في مجالي الفلسفة والتصوف، حيث درست شيخ الإشراق السهروردي، وكتبت عنه كتاباً وترجم إلى أكثر من لغة، إضافة إلى عدة أبحاث أخرى عنه، وبعضها قد نشر.
أما رواية أيام مولانا فتأتي تحت عنوان رواية العمر المرتجى، أو رواية عمري، وهذا ما كتبته في مذكراتي التي أعدها للنشر بإذن الله، حيث أوضحت ظروف كل كتاب ألّفته، وكل بحث قدمته، وكل قصيدة نشرتها، أو قصة كتبتها، أو تاريخ أجريت فيه قلمي.. لأنّ شرح الظروف قد يوفر على الكاتب وعلى القارئ الكثير من الشرح، ويُيسّر الفهم في الوصول إلى المراد، خاصة تلك النصوص التي تأخذ الطابع الفلسفي أو الصوفي، وبالأخص عندما لا يعود الكاتب على قيد هذه الحياة، فيكثر التأويل من أفواه المتأولين، وحتى من غيرهم.
– لقد أقيمت مؤخراً ندوة فكرية حاشدة حول روايتك “أيام مولانا” وحفل توقيع للراوية في المكتبة الوطنية في وزارة الثقافة برعاية وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى الذي كانت كلمته ملفتة جداً، فماذا تحدثنا عن هذا الحفل المهم؟
صحيح، كان حفلاً مميزاً بكل المعايير ولله الحمد، وبرعاية كريمة من معالي وزير الثقافة الذي فعلاً كانت كلمته مؤثرة جداً، إضافة إلى بلاغتها العالية، فقد بثت ثقافة المحبة وثقافة الحوار وقبول الآخر أياً كان دينه أو معتقده، ثم كانت قراءات نقدية قيّمة في الرواية لكل من الدكتور طراد حمادة والدكتورة منى رسلان والدكتورة دلال عباس، وحتم الحفل بتوقيع الرواية.
– كيف كانت أصداء الرواية لحد الآن، خاصة بعد نفاذ طبعتها الأولى خلال أيام؟
يبدو أن لطف الله تعالى قد شمل الرواية، وبركات مولانا كانت من ضمن تلك الألطاف، فنفذت الطبعة الأولى خلال عشرة أيام من صدورها، وتكاد الطبعة الثانية أن تنفذ، وأعد حالياً للطبعة الثالثة. وقبل أيام تواصل معي أحد الأصدقاء الأتراك وعرض عليّ ترجمة الرواية إلى اللغة التركية، لكنني لم أحسم الأمر حتى الساعة.
– لاحظنا أن التغطية الإعلامية التي حظيت بها الرواية وسرعة ما كتب عنها من مقالات، وقد عمّ خبر إصداراها العالم العربي بشرقه وغربه رغم بعض متناقضات السياسة، حتى كتب أحدهم: “الإعلام العربي يتوحد ثقافياً حول رواية أيام مولانا، العشق باب وحدة العرب، لقد وحدهم قيس ذات عهد في التاريخ، وبعد أربعين عاشق وحدهم محمد حسين بزي في روايته أيام مولانا”.. فما السر في الأمر؟
إنه الحبّ يا سيدتي، وبالمحبة تصبح كل الآلام شافية.. لا زال هناك من بذور الخير والنور ما يكفي لنزرع المحبة في النفوس بين البشر، وليعم الخير والسلام.. فالأرض لا تحتاج إلى من يحرثها بقدر ما تحتاج من يطأها بأقدام المحبة.. وبين هذه وتلك يبقى السعي إلى الخير والعمل الصالح هو سفينة النجاة الحقيقية للبشرية مهما اختلفت معتقداتها وأديانها وأعراقها.
مجموعة صور خلال رحلة الروائي د. محمد حسين بزي الى قونية
نقلا عن جريدة الزمان العراقية