أدب وفن

آخر ظهور / بقلم القاصّة هند يوسف خضر

آخر ظهور
في جو عاصف كما كانت تحب بدأت جوليا بكتابة مذكراتها، كان الجو يميل إلى الفرح المفرط في توقيت عقلها و أما أوراق القلب فقد تمزقت على رمال الجوى فتطايرت حولها قصاصاتها…
أمسكت جوليا قلمها وخطت على صفحات دفترها الصغير مذكرات حكاية كانت بدايتها أشبه بألوان قوس قزح و لكنها انتهت بلون الحزن:
صادفته عندما كانت الهلوسات تعبث بخيالاتها وفي لحظة حسبت فيها أن أحلامها أفلتت من يديها وتاهت منها على رصيف الأيام،لم تكن تتراءى لها غيوم الوصال فقد حجبها عنها زحام كلمات ارتدت ثوب الخديعة، كان جمال شاباً في مقتبل العمر، التقت به عندما كان يستلم شهادته الجامعية من كلية الطب، وكانت تتواجد في حرم الجامعة لتقدم آخر مقرر للتخرج من كلية الصيدلة..
اللقاء لم يكن عادياً أبداً رغم أنه حدث للمرة الأولى وبالصدفة، بينما كانت تسير على عجلة من أمرها – فجأة – ارتطم بها أحد المارة ،ارتمت محاضراتها أرضاً، استشاطت غضباً كانت على عتبة الصراخ في وجهه ولكن شيئاً ما أوقفها، في هذا التوقيت كان قد انحنى الشاب و أعطاها محاضراتها وقدم لها الاعتذار ، شعرت بشيء ما اهتز في داخلها، لن تنسى نظرة جمال وكأنه غسل وجه وحدتها برشقة من ماء الحب، بعد التعارف قررا أن يلتقيا مرة ثانية وثالثة و… ريثما يأتي موعد سفره من أجل التخصص في أمراض القلب في إحدى جامعات فرنسا…
في حضرة الحب يسقط كل شيء، يسافر الحلم المعتق كنبيذ في خوابي الزمن وتجثو الرغبات فوق صدر مشبع بغبار الانتظار…
ما تذكره أنها أحببته حباً لا يتسع لشهوة إنسان على الأرض و الشيء الذي لن تنساه هو يده التي امتدت لها لتقذف بحيتان الضياع خارج غرقها-الأمان الذي عاشته معه لا يقدر بثمن- جاء موعد السفر، غلبتها دموعها حينها، بحة أغرقت حبالها الصوتية، ضمها في تلك اللحظة بذراعيه الملهوفتين، ألقى برأسها فوق زنده ثم مسح دموعها الشقية وآخر ما قاله لها: أريدك قوية سنلتقي إن كان لنا في اللقاء نصيب
ودعها وكلاهما نام على جمر الشوق واللوعة، كانا يتواصلان يومياً عبر الهاتف الجوال، ربما هذا ما خفف من العناء الذي لحق بهما وأكثر طمأنينة عاشتها هو وعده بالزواج منها…
مر عام و كان من المقرر أن يأتي إجازة لمدة شهر، كانت تستعد لتناول فرحة قدومه بشراهة، كتب لها وقتها: هناك على هذه الأرض من يستحق عنائي و سفري، كان كلامه بمثابة جرعات أوكسجين لرئتيها المتعبتين، قبل مجيئه بيوم راسلها قائلاً: لا تحزني يا جوليا إن لم يكتب لنا لقاء على الأرض لأننا بالتأكيد سنلتقي في السماء..
شعرت بدوار في رأسها وقلق ينهش دماغها، إنه لأول مرة يراسلها بهذه اللهجة، سألت نفسها: يا ترى هل تغير ولن يعود من السفر أبداً ؟هل أقام علاقة مع أخرى ولذلك قرر عدم الرجوع؟
ثم نفت كل ما فكرت به لأنها كانت تعرف مدى حبه لها..
كان موعد الحجز بالطائرة بتاريخ ٢ أيلول الساعة الحادية عشر، نهضت في ذاك اليوم صباحاً عند الساعة السادسة والنصف ،وجدته قد كتب لها سآتي إليك ولن أعود أبداً، قامت بالرد عليه بأنها لم أفهم ماذا يقصد، لكنه لم يستلم الرسائل، انتظرت ساعات طويلة لم يصل منه الرد، فكرة الموت استحوذت على تفكيرها و الخوف بدأ يمزق ضلوعها كلما رأت آخر ظهور له بتاريخ ٢ أيلول الساعة السادسة صباحاً..
بعد فترة تواصل معها أحد أصدقائه، أخبرها أنه عانى مدة طويلة من مرض في قلبه ولم يستطع الأطباء علاجه و أنه لم يصارحها بحقيقة مرضه كي لا تغرق في حزنها مرتين…
جمال الذي ذهب ليتخصص بأمراض القلب ويداوي الناس توقف قلبه ولكنه وفى بوعده وعاد ليكونا معاً..
وضعت جوليا القلم وغابت في سبات لا نهاية له.
هند يوسف خضر..سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى