أدب وفن

موسيقا/ قصة قصيرة/ بقلم القاصة هند يوسف خضر- سوريا

موسيقا
ليل طرطوس يجمع ملفات الحياة السرية ويلقيها في بحره خفيةً عن العيون لعله يكون أرحم من قلوب البشر، وسط المدينة الناظرة للبحر كانت تسكن دنيا، تذهب كل صباح إلى مدرستها ولا تتمنى لحظة العودة إلى البيت…
دنيا ابنة العاشرة من عمرها لم تعرف لون الضوء منذ أن حرمها القدر من أمها، لطالما أثارت شفقة من يعرفها فهي لم تعش كغيرها من الإناث اللواتي ينهضن صباحاً ليتباركن بقبلة والدتهن، لم تأخذ من اسمها إلا نصيب الألم، وفاة والدتها كان بمثابة ضربة قسمت ظهرها، شطرته إلى نصفين بلا رحمة حيث اضطرت للعيش في كنف زوجة أبيها الظالمة، أقسى لحظة عندما تعود من المدرسة لأنها تعلم أن السوط سيستقبلها على الباب، تنعزل في غرفتها أغلب الوقت، حتى وإن جلست على مائدة الطعام فإنها توجه لها اتهاماً بأكل حصة أولادها، لطالما سحبت منها كأس الماء لتسقيهم، كانت تغفو على دمعة وتصحو على وجع، تقترب من والدها خلسة تسأله: لماذا لا يحميها من بطش زوجته ولكنه كان ضعيفاً أمام جبروتها ولم يكن لديه جواباً .. كل ما يفعله النظر إليها بصمت قاتل و شفقة…
يا ترى هل هان عليه أربع وعشرون ضلعاً ليلقيه لقمة سائغة في فم ذئب؟
كبرت دنيا وهي على هذا الحال، توفي والدها بعد دخولها الجامعة، أين ستذهب من عنجهية تلك الظالمة وما السبيل للخلاص؟
بعد تفكير عميق قررت الذهاب للعيش في منزل جدها…
انقضت فترة من الزمن علمت أن زوجة والدها أصيبت بالعمى وأن أولادها سافروا خارج البلد، لم تستطع دنيا في تلك الليلة النوم وهي تفكر بها كيف ستمضي باقي عمرها وقد انطفأ النور في عينيها…
استيقظت صباحاً وأبلغت جدها بأنها ستذهب لتعتني بخالتها، ربت على كتفها مباركاً أصلها…
انطلقت دنيا، وضعت أكفها في جيوبها لتتقي البرد القارس، عندما صعدت على الدرج استرجعت شريط الذكريات في رأسها، تذكرت عندما كانت تطرق الباب و تفتح لها حاملة بيدها السوط، دارت كل المشاهد العنيفة والجائرة في رأسها، وقفت قليلاً، ترددت،أصيبت بالتعرق كما لو أنها في الصيف، تراجعت خطوة ثم طرقت الباب وقد اعترتها رجفة من رأسها حتى أخمص قدميها، فُتٍح الباب بعد أن عُرِف الطارق، هذه المرة مغايرة إنها زوجة الأب نفسها ولكنها تحمل عصا بدل السوط،بدت مكسورة الجناح وكأن الموت يدنو منها شيئاً فشيئاً…
دخلت دنيا، أمسكتها بيدها لتجلسها على الأريكة، جلست بجانبها، سادت لحظات من الصمت لبعض الوقت…
سألتها :لماذا جئت؟
أجابتها :أتيت لأكون معك وأعتني بك …
انهمرت الدموع من عينيها حد الانهيار، بدأت تسترجع في رأسها الشريط الظالم وهي تتمتم: أستحق العمى …أستحق أكثر من ذلك…
دنيا: لقد سامحتك ونسيت ما مضى…
كان صوت دنيا موسيقا صحوة الضمير بعد فوات الأوان كلما سمعته زوجة والدها جعلها تعيش مفارقات لا نهاية لها…
إنها دنيا نموذج لكثير من الناس الذين يعفون عند المقدرة رغم غرابة ما يجري في هذا الكون ولكن لا يهم طالما تفوقت عدالة السماء.
هند يوسف خضر ..سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى