التعدد الدلالي في كتاب “برقعد” للروائي محمد إقبال حرب
بقلم الروائي محمد فتحي المقداد – سوريا
مع كلّ عنوان مُنجَزٍ؛ تتجدَّد اِحْتفاليَّة الثَّقافة والمعرفة، بما يُضيفه للمكتبة العربيَّة، ويُعدُّ مَنجَمًا زاخرًا بأشكالٍ معرفيَّةٍ عديدةِ، منها العلميَّة والأدبيَّة والسياسيّة.. إلخ. وهو ما لامَسَتُ بعضًا من جوانبه عند الأديب “محمد إقبال حرب“. عرفته بكتاباته الأدبيَّة مُتنقِّلًا ما بين الشِّعر والرِّواية والقصَّة القصيرة والقصيرة جدًا، ومُؤخًّرًا خرج علينا بكتاب “برقعد” كلمة عربيَّة غريبة، ويبدو أنَّه نَحَتَها، وكيَّفها؛ لتُصبح عنوانًا لافتًا، مُحيِّرًا لمن أراد تفسيره
ولا يتأتّى للقارئ اِسْتكناه المصطلَح مهما تعدَّدت معارفه إلَّا بتفسير الكاتب؛ ففيها ما يفتح الباب أمام القارئ على مِصراعيْه؛ لرؤية بعيدة المنظور في سَبْر أعماق اللَّغة العربيَّة، واِسْتكشاف أغوارها الغائصة في دلالات من الصَّعب الإحاطة بها جميعًا؛ وبتتبُّع موادِّ الكتاب “برقعد“، والوقوف على ناصية الخاطرة ذات الرَّقم مئة وثلاث وستِّين من الكتاب: (“كُن برقعد” أي بَرْقًا ورعدًا! فمن سمات البرق أن يملأ الفضاء نورًا ويكشح الظلام، ومن سمات الرعد، الزمجرة، هنا الزمجرة بصوت الحرية والكرامة الإنسانية، ورفع الصوت المدوّي التماسا للتحرر من مختلف أنواع العبوديات، وما أكثرها في أيامنا هذه، حيث يُنكّل باللبنانيين ويُسامون جميع أنواع القهر والعذاب ولأهمية هذه الدعوة “كُن برقعد”).
ليس ببعيد على الكاتب المُثقَّف، بتساؤل بسيط، كيف يُصبح الإنسان كاتبًا، إذا لم يكُن مُثقَّفًا عارفًا بما سيكتبه..!!. والكتاب الذي بين أيدينا يُصنَّف في أدب الخواطر القديم المًتجدَّد، وبتدقيق بسيط في العبارات المُحكمة الواردة، لهي خير دليل على ثقافة الكاتب الوازنة بأحمالها المعرفيَّة، المُستخلَصة من دروس الحياة وخبراته، فهي واعية بتأشيرها الدَّقيق على نقطة أو أكثر، ونتيجة منطقيَّة بعد مرحلة حياتيَّة حافلة، كوَّنت رؤى “محمد إقبال حرب” الخاصَّة بتشكيل نمطه التفكيريِّ بأبعاده العقلانيَّة والفلسفيَّة.
وبمقاربة فكرة الخاطرة بأبعادها الفكريَّة والأدبيَّة المبنيَّة على مُقاربات ربَّما تتقارب أو تتباعد مع تعريفات مماثلة تختلف بآراء من عرَّفوها بكثير أو بقليل؛ فقد عرَّفتها موسوعة الويكيبيديا(الخاطرة من الأنواع النثرية الحديثة التي نشأت في حجر الصحافة ولكنها تختلف عن عدة وجوده: فالخاطرة ليست فكرة ناضجة وليدة زمن بعيد ولكنها فكرة طارئة. وليست فكرة تعرض من كل الوجوه بل هي مجرد لمحة. هي مقال قصير يخلو من كثرة التفصيلات يعرض فيها الكاتب فكرة حول موضوع ما، ذاتياً أو موضوعياً).
فما يخطر على في بال الكاتب هو خاطر مُنتَج عاطفته، إذا اِهْتاجت أحساسيه، واِلْتهبت خيالاته بجُموحٍ مُثيرٍ؛ تجعل خفقان القلب المَشُوق حُرقة لموقف ما، أو على ذاك الموقف المُشابه لحالته تلك.
في العصر العبّاسيِّ تتضح معالم أدب الخواطر في كتاب “رسائل” عبد الحميد الكاتب مؤسس هذا الفنّ الأدبيّ المُرتكِز على مراسلاته للكُتَّاب، ورسائله بوصف الصَّيد وغيرها من المواضيع، ويُعتبَر كتاب “صيد الخاطر. للإمام ابن الحوزي” هو من أجود وأنفع مؤلفات كتب القرن السادس الهجريِّ، في جميع الآداب الاجتماعية والدينيَّة السُّلوكيَّة والتربويَّة.
كما أنَّ العالم “ابن جنيِّ” اللَّقب الذي اشتُهر به “أبو الفتح عثمان” اتَّخذ تسمية “الخاطريات” لأحد كتبه الذي يعتني بالمسائل اللَّغويَّة واللِّسانيَّة.
وعلى سبيل المثل فقد اطَّلعتُ على بعض من كتب الخواطر، وأشهرها على الإطلاق كتاب “من وحي القلم. مصطفى صادق الرّافعي“، وكتاب “هكذا علَّمتني الحياة. للدكتور مصطفى السِّباعي“، وكتاب “كتاب “خواطر. الدكتور طه حسين”. وغيرها الكثير من المؤلَّفات في هذا المضمار الأدبيِّ. وقد كان لكتاب “أقوال غير مأثورة. محمد فتحي المقداد” نصيب المُشاركة في هذا المضمار الأدبيِّ الجليل الواسع باتِّجاهاته وتوجُّهاته.
ومن دلالة الخاطرة السَّابقة فيما يخصُّ تفسير الكاتب لفكرة العنوان: “من سمات البرق أن يملأ الفضاء نورًا ويكشح الظلام، ومن سمات الرعد، الزمجرة، هنا الزمجرة بصوت الحرية والكرامة الإنسانية، ورفع الصوت المدوّي التماسا للتحرر من مختلف أنواع العبوديات“. وبالاستناد لهذا يمكن استخلاص بعضًا من محاور الدلالات.
وبداية نتوقَّف عند قضيَّة الظلم والاستبداد السياسيِّ والدكتاتوريَّات، التي عانت منها البشريَّة عبر تاريخها الطَّويل، ونضالها التحرُّري المُقاوم في سيبل الخلاص والنُّزوع إلى الحريَّة. ونتلمَّس مجموعة من الخواطر الواردة في كتاب “برقعد”:
-“أعمارنا قصيرة والحاكم ينهش أطرافها“.
-” في معبد الحاكم شموع من بشر، عمدانها أجساد وفتائلها رقاب!“
-“أيها الحاكم ستستمر الحياة من دونك عندما ترحل، فكن مطمئنا“.
-“أفيقوا، رحمكم الله.. قد أشرقت شمس هذه الدعوة إلى استفاقة النيام من سباتهم العميق، بل من قبيل تحريضهم على استعادة حريتهم المهدورة. ولا بد لهؤلاء النيام المستعبدين أن يُحطّموا أغلالهم، في رحاب الحرية، التي أشرقت شمسها، وذلك بعد طول أسر!“.
-“يمرح الذئب المفترس، عندما تُصفّقُ له الكلاب الضالة، كحال زعماء أمتنا“.
أما الدلالة الأعظم هي المحراب الإنسانيُّ عمومًا، الشَّامل لجميع دروب التواصل والتراحم والعطاء على محمل من الوئام والسَّلام، والتواصل البنّاء الذي يخدم المصلحة العامَّة، ونبذ الأنانيَّة الشخصيَّة والمصالح والمنافع الضيِّقة: ومما ورد في هذا الخصوص كشفًا للحقائق المخفيَّة خلف ظواهر الطِّباع البشريَّة:
-“أيها الإنسان من أجل قلبك الأبيض عشقتُ ألوانكَ الأخرى“.
-“أنادم الليل، وأتحاشى البشر. موسومٌ برذيلة عشق القمر“.
-“ضعيف الحُجَّة سلاحه الغدر“.
-“دروب الدهشة تصفع الوجدان بصوت الحقيقة“.
-“قداسة دموعك قدر جراحاتك“.
-“رغيف الشوق ينضج في مخبَر الغربة“.
-“لم يحزن عليها يوم رحلت، فقد بكاها كثيرًا يوم دفنها في قلبه“.
-“ضمور الشوق أمات رجع الصّدى“.
-“نواميس الشرّ تبثّ السمَّ الزّعاف مُعطّرًا بذكر الله“.
وقد وردت بعض الخواطر في الكتاب المُتسائلة عن القلق الوجوديِّ عمومًا:
-“كلّما سكنتُ إلى نفسي تساءلتُ إن كان لوجودي مكان أو لمكاني وجود”.
-“ما زلتُ أتساءل عن مفارقة أرقى المخلوقات، يدّعي السّلام، ويقتات على بني جنسه”.
-“بين البداية والنهاية أسكُنُ جسدًا لا يُشاركني فيه سواكِ”.
-“ويلٌ لأمّة تتوضّأ بدماء أبنائها؛ لتُصلّي صلاة الشّكر”.
-“أعيشُ في ظلّ طغيان، أتنفّسُ عفانة زريبته رُغمًا عن شمس الحرية”.
-“لا أتغيَّر مع المكان، لكنّ المكان يتغيّر لأجلي، ذلك هو الفارق”.
هذه الاقتباسات من كتاب “برقعد” لتدعيم فكرة عنوان المقال، وللإشارة
هذه الاقتباسات من كتاب “برقعد” كانت على سبيل المثال لا الحصر، ليست بحاجة لتفسير وشروحات لكيلا ينخدش بهاؤها، وتبقى زاهية مفتوحة على عوالم من تأويلات كلِّ قارئ على حِدَة؛ أوردتُها لتدعيم فكرة عنوان المقال، وللإشارة للعديد من مسارب ومداخل الكتاب، وللتدليل على عمق ثقافة ورؤى “محمد إقبال حرب”، جميعها جاءت نتيجة طبيعيَّة لخبرته وتجاربه الحياتيَّة. وفي كتابه هناك الدلالات الروحيَّة وعلاقة الإنسان بالخالق، والدلالات الاجتماعيَّة.
أدب الخواطر انتقالات سريعة بين فكرة وأخرى، وبسرعة الومض بين مكان وآخر، وزمن زمن حاضر أو ماضٍ أو مستقبل. والكتاب علامة فارقة بأسلوبه ولغته، أوصي بالعناية به من خلال جلسات الحوار والنِّقاش لتجلية الأفكار، وتتبُّع أبعادها الإصلاحيَّة على كافَّة المُستويات الحياتيَّة