قصة قصيرة / قفز الروح
قصة قصيرة / قفز الروح
بقلم بختي ضيف الله – الجزائر
يعصر قلبها الندم والحسرة، كيف سمحت لحفيدها أن يخرج من البيت ليبحث عن علبة بسكويت تسعده عند كل مطلع شمس؛ تخاف عليه من المسيرات اللعينة؛ تصطاد الأطفال كالعصافير، تفرغ غضبها على أجساهم الضعيفة لتحرق أكباد أمهاتهم. يسألها كل ليلة: هل أنا كبدك أم أبي الشهيد؟ فتبتسم ابتسامة تملأ وجهها الوردي. يلح عليها بأن تجيبه بكلمة تسر قلبه الحزين بعد أن ترك المدرسة التي كان أحد المتفوقين فيها. تلتزم الصمت لعله ينسى سؤاله المكرر.
يجتمع حولها الأبناء والأحفاد، يصبرونها، وقد مرت على روحها أوجاع تهد الجبال؛ فكيف لهذا الطفل أن يأخذ كل هذا الحب في قلبها الذي مرت عليه صور مختلفة؛ لم تنس كيف استشهد إخوتها أمامها رميا بالرصاص وأحرقت كل بساتين برتقالهم وزيتونهم، وقد هربت من العصابات الصهيونية حافية قبل أن تمسها فتنهش لحمها الطاهر الشريف. هكذا يعيدون عليها مسيرتها الطويلة، يسردون عليها قصصا روتها لهم صغارا وكبارا كي لا تموت بذرة الحب في صدورهم، وهم تحت قبضة شيطان مارد يلهيهم عن بيت المقدس.
يهمس أحدهم: أششش، دعوها تنام، لقد قضى عليها حزنها الشديد. لكنها فتحت عينيها وسألتهم بصوت مبحوح: هل عاد الولد؟
يغلقون نوافذ حجرتها لعلهم يصنعون ظلمة تصنع غيابا لروحها عن عالمها الموحش. تشير بيدها أن دعوها مفتوحة يخترقها النور، تأمرهم بأن يأتوها بصورة الحفيد لعل نفسها تسكن قليلا،لكن عينيها فاضتا دمعا حارا أدفأ خديها في ذلك اليوم البارد جدا. تسألهم: لماذا سمحت له بالخروج من أجل قطعة بسكويت والناس يبحثون عن قطع الخبر اليابسة في الطرقات؟ لماذا لم تمنعوني؟ لماذا لم تخبروني أن الحرب استأنفت سرديتها؟ فليس بين نارها المشتعلة متسع للحب…اِئتوني بحفيدي..اِئتوني بابني..
بعد أن أخذت حقنة مهدئة، أخبرهم الطبيب أنها سترتاح بعد أن تنام نوما عميقا ..
“- جدتي الحبيبة، أنا عدتُ لكنك لم تنتبهي لي، ألم تسمعي صوتي وأنا أصرخ في وجه المسيرة التي كانت فوق رأسي طول الطريق وأنا أبحث عن بسكويتي المفضل.. وجدتُ كلّ الدكاكين خرابا، كانت الشوارعُ حمراء، تلوّنتْ عجلتا دراجتي بلونها، لم تخفني الدماءُ؛ هي لأحبتنا؛ تركوها على الأرض بعد أن رحلوا إلى هناك.. في نهاية الشارع، أطلقت المسيرةُ صاروخا، فسحقتْ دراجتي البيضاء سحقا ..وقفزتُ أنا بأعجوبة..بعيدا..بعيدا ..بعيدا جدا..”
بعد أن استيقظتْ، سمعتهم يقولون: أدخلوا حفيدها الشهيد..بهدوء..لتلقي عليه نظرة الوداع..