“أصداء الطوفان: صوت غزة في زمن الانكسار”، عن دار مؤسسة أفرا للدراسات والأبحاث،للكاتب و الصحفي المغربي عبد الحي كريط

صدر حديثًا للكاتب والصحفي المغربي عبد الحي كريط عمله الجديد “أصداء الطوفان: صوت غزة في زمن الانكسار”، عن دار مؤسسة أفرا للدراسات والأبحاث، بوصفه نصًا يتجاوز تصنيفات الكتابة التقليدية، ويستعيد للغة دورها التاريخي كقوة مواجهة ضد انحلال المعنى وانكسار الإنسان. فالكتاب لا يقدَّم بوصفه مجرد إصدار ثقافي، بل باعتباره موقفًا وجوديًا وأخلاقيًا من زمن عربي يتآكل، وشهادة توثيقية لمرحلة ما بعد لحظة الانفجار الكبير في السابع من أكتوبر، حين أصبحت غزة، مرة أخرى، مرآة لعجز العالم وصمت الكلمات.
في تجربة تنأى عن نمطية التقارير وتبتعد عن نبرة المقال العابر، يُقدّم “أصداء الطوفان” بنية ثلاثية تتكوّن من حوارات معمقة، مقالات تحليلية، ونصوص شعرية، ليعيد الاعتبار للثقافة بوصفها سلاحًا موازٍ للرصاصة، وحائطًا نفسيًا في وجه التلاشي. يتوغّل المؤلف في قلب المأساة لا بصفته مراسلاً من خلف الشاشات، بل بصفته شاهدًا منحازًا للإنسان، وراصدًا لنبض المعاناة من داخل الجراح، لا من شرفات التحليل البارد.
يركّز المحور الحواري من الكتاب على استنطاق ذاكرة المقاومة من خلال أصوات كتّاب ومثقفين فلسطينيين وعرب وإسبان، ممن لم يكتفوا بوصف الفاجعة، بل حمّلوا نصوصهم وجدانًا متمرّدًا على الصمت، فصار الحديث عن غزة، في هذا العمل، طقسًا تطهيريًا للذاكرة الجماعية، ورفضًا ضمنيًا لمنطق الوصاية الخطابية الذي يُنطق غزة من خارجها.
أما في القسم التحليلي، فيتخذ عبد الحي كريط من المقال أداة تشريح نفسي وسياسي لما بعد الطوفان، حيث يقارب بوعي نقدي بُنية الخطاب العربي الرسمي، ويُسائل صمت الأنظمة، ويكشف كيف تم استثمار القضية في فضاء الإعلام الموجَّه، حيث تتحوّل المأساة إلى “محتوى”، ويتحوّل الإنسان إلى مشهد متكرر. تلك النصوص لا تحلّل فقط، بل تحاكم، وتكسر نماذج التواطؤ الرمزي مع الكارثة.
وفي الجانب الإبداعي، يكتب كريط نصوصًا شعرية متوترة، كتبت كما لو أنها نُزفت من ذاكرة محاصرة، تستحضر وجوه الأطفال، أنقاض البيوت، ونواح الأمهات. لكنها لا تُغرق في الميلودراما، بل تصنع من الألم شكلًا فنيًا يُربك القارئ ويستفزه أخلاقيًا. إنه شعر ضد الشفقة، ضد البلاغة المُخدّرة، شعر يرفض أن تُروى غزة كقصة حزينة، ويُصرّ أن تُكتب ككفاح مستمر ضد المحو.
هذا العمل يشكّل استمرارًا للمشروع الثقافي المتكامل لعبد الحي كريط، الذي عرفناه سابقًا في أعماله مثل “مدارات ثقافية: الشمس تشرق من المغرب” و”نوافذ حوارية في الأدب الإسباني”، حيث يتقاطع الفكر مع الالتزام، واللغة مع الموقف. لكنه في “أصداء الطوفان” يبدو وقد انتقل من التحليل إلى ما يشبه الإنشاد، ومن التفسير إلى الصراخ الواعي الذي يفضح العبث.
في مقدمة الكتاب، يعلن كريط أن صمته لم يعد مقبولًا، وأن الحياد في زمن المذبحة خيانة للضمير. يقول بصراحة: “أنا لا أروي الحكاية كراوٍ محايد، بل كشاهد تكسّرت فيه المرايا، ولم يعد يطيق الصمت…”، جاعلًا من الكتاب فعل مقاومة، ومن الكتابة فعل شراكة في الألم، لا مجرّد تضامن رمزي عابر.
“أصداء الطوفان” ليس كتابًا عن غزة فقط، بل عن امتحان الضمير في زمن الخذلان. هو سفر ثقافي في قلب الجرح الفلسطيني، ومحاولة لترميم الذاكرة حين تتآكل بفعل الصورة المتكررة والدعاية الممنهجة. بهذا المعنى، يتحوّل الكتاب إلى أرشيف إنساني حي، لا يُقدّم خطابًا سياسيًا بقدر ما يوقظ الأسئلة في حضرة العجز الجمعي.
ومن المنتظر أن يُعرض هذا العمل في عدد من المعارض الثقافية العربية خلال الموسم القادم، ضمن موجة من الأعمال التي تعيد للثقافة العربية بُعدها الأخلاقي، وتمنحها إمكانية أن تكون شاهدًا ومؤرخًا ومحرّضًا في آنٍ واحد.

