أدب وفن

تكريماً للذكرى السنوية التاسعة والخمسين (5 والأخيرة)لوفاة شاعر الشعب «عمر الزعني»: «الناقد السياسي.. النهاية»

الدكتور وجيه فانوس

فندق النورماندي، في منطقة الزيتونة، حيث ألقى الزعني قصيدة «جَدِّد له ولا تفزع» 

 كانت الحياة السِّياسيَّة في لبنان تعاني كثيراً من التَّجريب، وكان المجلس النِّيابي اللُّبنانيُّ من أسس هذه الحياة السِّياسيَّة، بل ومن ركائزها الكبرى؛ إذ هو السَّاحة الأرحب لتمثيل ناس الوطن على مختلف انتماءاتهم السِّياسيَّة، واختلاف مناطقهم الجغرافيَّة وتعدُّد أديانهم السَّماويَّة وتنوُّع مذاهبهم الرُّوحيَّة. ومن هنا، فقد خضع «المجلس» إلى عددٍ من التَّغيِّرات التي طالت الجانب التَّمثيلي فيه، ومنها العمل المستمرُّ على زيادة عدد النُّوَّاب بادِّعاء تمتين التَّمثيل النِّيابيِّ للشَّعب وتحسين الأداء السِّياسي(1). ولكن الزّعنِّي كان يرى أنَّ جميع التَّغييرات، التي حصلت في عدد النُّوَّاب، لم تكن هي الحل الحقيقي لحسن انتظام الفاعليَّة الوطنيَّة للمجلس النيابي. 
النُّوَّاب، كانوا عشرين
عملوهم خمسة وخمسين
زادوهم سبعة وسبعين
وكمان إم اربعة وأربعين
قالوا بكره ستة وستين
ولو صاروا تسعة وتسعين
ودركبوهم عالمِيِّه
الحاله، هيِّيّ هيِّيِّ
يُنتخب الرَّئيس بشارة خليل الخوري، أوَّل رئيس للجمهوريَّة اللبنانيَّة، بعد انتهاء الانتداب الفرنسي على لبنان، وإعلان لبنان جمهوريَّة مستقلَّة؛ وتأخذ دورة الحياة السّياسيَّة في البلد مساراتها المتعدِّدة والمتنوّعة. نظر معظم اللبنانيين إلى رئيس الجمهوريَّة، بشارة الخوري، ورئيس الحكومة، رياض الصُّلح، على أنَّهما من دعامات الاستقلال الأولى ومن كبار مؤسِّسي دولة الاستقلال. ولذا، ومع انتهاء الولاية الرئاسيَّة الأولى للرَّئيس الخوري، فإنَّه حصل على تجديد لولاية ثانية؛ لكن هذه الولاية شهدت تراجعاً في شعبيَّة الرَّئيس الخوري وتراخياً في قدراته على إدارة شؤون الدَّولة(2). وقيلَ كلامٌ كثيرٌ في المجالس السِّياسيَّة والاجتماعيَّة اللبنانيَّة في هذا الموضوع، كما تناقلت معظم الصُّحف المحليَّة في تلك المرحلة كثيراً من مضامين هذا الكلام. وكانت صالة «فندق النُّورماندي»، في منطقة «الزَّيتونة» من مدينة بيروت، مقصداً لكثير من أهل السِّياسة والإعلام، يلتقون فيه ويتداولون في لقاءاتهم هذه أوضاع البلد، وأحوال الرئيس الخوري في ولايته الجديدة هذه.
كان عمر الزعني، كما سواه من أهل الفكر والإعلام، من روَّاد صالة فندق «النُّورماندي»؛ وفي إحدى جلسات تلك الصَّالة، وكان النِّقاش بين المجتمعين حول الولاية الرّئاسيَّة المجدَّدة للرئيس بشارة الخوري قد أخذ مداه من الجدال والانتقاد، نهض الزّعني وألقى قصيدة، غير مغنَّاة، مطلعها «جدِّد له ولا تفزِع»:
جَدِّد له، ولا تفزع
خلِّيه قاعد ومربَّع
بيضل أسلم من غيره
وأضمن للعهد وأنفع
وِشْ عرفناه وجربناه
وعرفنا غايته ومبداه
ووافق هوانا هواه
قدَّام خصمه، يا محلاه
ما زال ظهرت نواياه
ما عاد في مانع يمنع
جَدّد له ولا تفزع
هوي بأمنيته ظفر
ومدامته شبعت سفر
والمحروس نال الوطر
واخوانه شبعوا بطر
ما عاد في منهم خطر
ما عاد إلهم ولا مطمع
جدِّد له، ولا تفزع
وضجَّت بيروت، ومعها لبنان من أقصاه إلى أقصاه، إذ انطلقت شرارات هذه القصيدة ناراً في هشيم السياسة اللبنانيَّة، مبيِّنة للنَاس موقف الزِّعنّي السّياسي من إدارة الرئيس الخوري. كانت الإشارات التي أطلقها الزعني شديدة الوضوح، ولم تكن تحتمل أي تأويل أو تمويه أو مواربة. هي صرخة كبرى في وجه العهد؛ وهي صرخة ساخرة لكن مبكيَّة ومحرّضة إلى أبعد حد. وهنا تثور ثائرة الرَّئيس ومن معه في إدارة العهد؛ ويصدر حكم قضائي يقضي بسجن عمر الزِّعني؛ وهي المرَّة الأولى التي يواجه فيها عمر الزّعني السّجن.
يُلْقى القبضُ على عمر الزعني، ويودع في «سجن الرَّمل»، من مدينة بيروت؛ مع نزلاء في السجن من أصحاب الجرائم والسَّوابق. وهنا، يشمخ الزعني بكرامته إلى أقصى ما في الشُّموخ من اعتزاز وكِبر؛ فهو ليس بمجرم وليس بسارق ولا بمهرِّب ولا بقاتل، بل هو مُدافِعٌ حرٌّ عن حقوق الوطن وحقِّ المواطن؛ وهو، أيضاً، مواجِهٌ فَذٌّ للمسؤول الذي لا يراعي مصالح الشعب وحقوقه. وبعد أسابيع قليلة جدَّاً من هذا الإحباط، يُصاب الزعنّي بداء «السُّكري» الفتَّاك في جسده؛ فتضجُّ النَّاس بهذا الأمر، وتتوالى الوفود الشَّعبيَّة مطالبة بالإفراج عن عمر الزِّعنِّي ورفع الظُّلم الذي أحاق به؛ ولا يلبث الزعنّي، بعد أربعين يوماً من الاعتقال في «سجن الرَّمل»، إلاَّ أن يغادر السِّجن بعفو خاص أصدرته الحكومة بحقِّه.
يبقى، أخيراً، أنَّ عمر الزعني، السَّاخر والضَّاحك، الشَّاعر والمُلَحِّن الموسيقي، نجمُ السَّهرات الاجتماعيَّة ومحورُ كثيرٍ من اللّقاءاتِ السّياسيَّةِ العامَّةِ منها والخاصَّة، الإنسانُ الذي عاصر أحداثاً كثيرةً في حياته وعايشَ تغيُّراتٍ دوليَّةٍ واجتماعيَّةٍ وثقافيَّةٍ وسياسيَّةٍ عديدةٍ، والمثقَّفُ الذي تسنَّى له أن يكون شاهداً لزمنه وعليه، يَخْتَصِرُ تجربته الشَّخصيَّة في كلِّ هذا، بصورةٍ تحمل كثيراً من الألمِ والإحباطِ ولكن بِعُمقِ الرُّؤيةِ ورجاحةِ الرَّأي:
وبيقولوا لي، غَنِّي غَنِّي
غَنِّي وفرفِح يا زعنِّي
كيف ممكن غَنِّي وإشرب
واتهنَّى بكاسي وأُطرَب
 والجو مسموم ومكهرب
من هالجو ما في مهرب
 نفسي وروحي عطشاني
ومالي وصول للسَّبيل
بتضحَّك من غير عازه
برقص، وماشي بجنازه
 بِسْكَر، والسَّم بقزازه
وعضام جدودي مازه
 والخشخاشه خمَّاره
والسَّاقي عزرائيل
حياتي هم ونكد
وطول عمري عايش كمد
مالي في الدُّنيا سند
وغريب بوسط البلد
محروم لذَّات الدُّنيا
وفي بلادي عايش ذليل

هوامش
1 – بدأ مجلس النواب في لبنان وجوده بتسمية مختلفة في 22 أيلول 1920، إذ عرف تحت اسم «اللجنة الإدارية»، وكان عدد مقاعده 17 ودامت ولايته حتى تاريخ 8 آذار 1922. وتعدّلت تسميته سنة 1925، إذ أصبح «المجلس التمثيلي» الأول من 24 أيار 1925 حتى نهاية 1925 وكان عدد مقاعده 30؛ ثمَّ أصبح «مجلس الشيوخ» من 24 أيار 1926 وحتى تشرين الأول 1927، وكان عدد المقاعد (16) أي بانخفاض 14 مقعداً عن المجلس التمثيلي؛ ثمَّ تتالى العمل بالمجلس وفاقاً لما يلي:
– مجلس النواب الأول، وعدد مقاعده 46 من 18 تشرين الثاني 1928 وحتى 13 أيار 1929.
– مجلس النواب الثاني من 15 تموز 1929 وحتى 10 أيار 1932 وعدد مقاعده 45 أي ناقص مقعد واحد؛
– مجلس النواب الثالث من 30 كانون الأول 1932 حتى تاريخ 5 حزيران 1937 وكان عدد مقاعده 25 أي ناقص عشرين مقعداً.
– مجلس النواب الرابع فكان من 29 تشرين الثاني 1937 وحتى 21 أيار 1939 وكان عدد مقاعده 62 أي زيادة 37 مقعداً وحتى هذا التاريخ فإنَّ كل مجالس النواب كانت مختلطة، أي إن عدداً من النواب كان منتخباً والعدد الآخر كان معيناً.
– مجلس النواب الخامس فكان من 21 أيلول 1943 وحتى 7 نيسان 1947، حيث أصبح عدد مقاعده 55 على قاعدة كذا أضعاف العدد 11 وهو الرقم الأساسي الذي يعطي ستة مقاعد للمسيحيين وخمسة مقاعد للمسلمين؛ ومن هذا التاريخ وصاعداً أصبحت جميع المجالس اللاحقة منتخبة بكاملها وبالتالي لم يعد هناك من نواب معينين.
– مجلس النواب السادس فكان من 25 أيار 1947 وحتى 30 آذار 1951 وكان عدده كالسابق 55 مقعداً.
– مجلس النواب السابع فكان من 5 حزيران 1951 وحتى 30 أيار 1953 وأصبح عدد مقاعده 77 مقعداً.
– مجلس النواب الثامن فكان من 13 آب 1953 وحتى 20 آب 1957 وخفض عدد مقاعده إلى 44 مقعداً.
– مجلس النواب التاسع فكان من 20 آب 1957 وحتى 18 تموز 1960 وكانت زيادة عدد مقاعده إلى 66 مقعداً.
– مجلس النواب العاشر فكان من 18 تموز 1960 وحتى 8 أيار 1964 وتم زيادة مقاعده إلى 99 مقعداً.
– مجلس النواب الحادي عشر فكان من 8 أيار 1964 وحتى 9 أيار 1968 وبقي عدد مقاعده 99.
– المجلس النيابي الثاني عشر فكان من 9 أيار 1968 وحتى 3 أيار 1972 وبقي عدد مقاعده 99.
2 – إنتخب الشيخ بشارة خليل الخوري، في 21 سبتمبر 1943، رئيساً للجمهورية اللبنانية؛ وظل في هذا المنصب لغاية 11 نوفمبر 1943؛ إذ اعتقله الفرنسيون مع رئيس الحكومة رياض الصلح وعدد من أعضاء حكومته في قلعة راشيا، بسبب طلبهم الاستقلال عن سلطة الانتداب الفرنسي على لبنان. ثارت البلاد، جراء هذا الاعتقال، الأمر الذي أكره الفرنسيين على الإفراج عن الرئيسين الخوري والصلح ورفاقهما من معتقلي قلعة راشيَّا، والاعتراف باستقلال لبنان في 22 نوفمبر 1943، إنتخب بعدها رئيساً للجمهورية وكان بذلك أول رئيس للبنان بعد الاستقلال. وضع مع رياض الصلح الميثاق الوطني، الذي نظم أسس الحكم في لبنان. شهد عهده، الذي استمر مدة 9 سنوات، تشكيل 15 حكومة و9 رؤساء حكومات. في عام 1952 أجبر على الاستقالة بعد مظاهرات ضخمة على خلفية اتهامه بالفساد. 


  رئيس المركز الثقافي الإسلامي

*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى