دم طازج 6-/ قصة قصيرة/ بقلم الكاتب محمد سرور / مصر
دم طازج 6-
أول من فعلها, هم أصحاب ذلك البيت الطيني على أطراف القرية. في البداية لم يفهم أحد ما يحدث حولهم. كل أسبوع, يعود أصحاب هذا البيت محملين بأكياس الطعام الكثيرة, في حين بيوت القرية, كل البيوت, شبه خاوية, إلا من كسرات خبز يقتاتون عليها.
منذ فترة, ليست بقليلة, وأهل القرية يعيشون على الخبز والماء. ولذلك الكل كان يراقب بدهشة, كل انواع الطعام الأخرى التي تقفز داخل ذلك البيت كل أسبوع. يراقبون بحسد وغيرة, يقضون أول ستة أيام في الأسبوع في اعادة سرد انواع الطعام المنسية التي شاهدوها وهي تمر امامهم, كذكرى جميلة من حلم قديم. البعض احيانًا يتبارز ويدخل في جدال, عما اذا كان الكيس الذي يحمله الأب فاصوليا ام كوسة. كل طرف يقسم بأنه ما زال يذكر شكل الفاصوليا أو الكوسة. في اليوم السابع, من كل أسبوع, يخرج كل أهالي القرية, يقفون في صف واحد على أطراف المدينة, ينتظرون عودة الأسرة من رحلتها السرية, يلمحون من بعيد, أربعة أشباح هزيلة تتقدم في بطء, أب وأم وأبن وأبنة, تسبق خطواتهم روائح الطعام الشهية, تطير لأنوف الأهالي فتسكرهم, وتهيج بطونهم الفارغة. أحد الأطفال, ذات مرة, قال بصوت عال” دي ريحة لحمة مشوية” ظن الأب ان لحسة أصابت رأس ولده, فجذبه بعنف من جلبابه للوراء, أخضعه لأستجواب فوري, عن كيفية معرفته برائحة الللحم المشوي, في حين هو نفسه لم يتعرف عليها. أجاب الولد بخوف, انه جرب ذات مرة أن يتعرف على تلك الرائحة التي طالما سمع عنها من أحاديث جدته, فأحضر جزء مقطوع من قطة متعفنة و ألقاه في النار, وأشبع صدره برائحة الشواء العفن الجميل, ومن يومها والرائحة لا تفارق باله, أعجب والده بذكاء ابنه الفطري, ووعده أن يكرروا التجربة مرة أخرى مع العائلة مجتمعين.
يوم بعد يوم, كانت الحيرة تطير بعقول أهل القرية, كان لديهم اعتقاد راسخ, بأنه في خلال أسابيع قليلة, سيتحول شكل تلك الأسرة الصغيرة إلى كومة من اللحم المتحرك, وسيزداد بروز بطونهم فيما كان يعرف قديمًا ب ” الكرش” لذلك لفت رؤوسهم من التفكير, وهم يرون عكس ذلك ما يحدث. معظم أهل القرية أصحاب عود رفيع, غابت الدهون عن معظمهم, الخبز والماء رسما خريطة تلك الأجساد. لكن شيء غريب كان يحدث لتلك الأسرة. كانت أجسادهم تزداد نحولا وضعفا يوم بعد يوم. وكأن كل تلك الفترة كانوا يأكلون الهواء. برزت عظام أجسادهم, حتى كادت أن تقطع الجلد. بل أحد أهل القرية أكد أنه أخر مرة مروا فيها, شاهد عظم كتف الأب وهو يقطع الجلد بالفعل, بل سمع صوت القطع ايضًا, صوت يشبه تمزق القماش, ولكن العجيب, أنه لم ير أي دم يسيل. بل شيء آخر نز يشبه الماء, أو ربما هو ماء بالفعل.
شغلت تلك الحالة أهل القرية, الحالة الغريبة التي تحدث للأسرة, التي أصبحت مجرد عظام متحركة, تزحف بدلًا أن تمشي. في اجتماعهم اليوم, قال أحدهم أن السبب هو هذا الطعام ” أكل ملعون, ينزل في المعدة يهريها” و أوضح نظريته أنه ربما يحصلون عليه بطرق مشبوهة, لذلك فهو لعنة عليهم. وظهرت نظرية مضادة من أحد آخر, مفادها هري البطون ولا الموت من الجوع, إذا كان الموت في النهاية متحقق, فما الفائدة من الموت خاوي البطن. وفي نهاية اليوم, قرر الأهل ارسال جاسوس صغير خلفهم, يستطلع و يبدي المخفي.
زرعوا الولد من الليل, زرعوه خلف البيت الطيني, تستروا في الظلمة و تسللوا, وبجانب الشجرة الضخمة, خلف البيت, سمروه. وكان الولد نبيها و ذكيا, تسمر في الأرض ولم يبد أي صوت, حتى الصباح, ولم يلاحظ أي من أفراد الأسرة, الذين خرجوا يزحفون, مع أول خط ضوء يشق الليل, أن طفل صغير يتبعهم في خفة ورقة شجرة. تبعهم حتى خرجوا من القرية, ووصلوا للجبل, وداروا حول الجبل, وزحفوا وراء الجبل مزحفة ساعتين, حتى وصلوا لعربة ضخمة, تقف وسط الصحراء, وبجانبها مقاعد خشبية, موصول بها انابيب رفيعة, تنتهي و تختفي عند بطن العربة. وقف الولد خلف نخلة ضخمة يراقب في ذهول, رأى بعض الأشخاص ينزلون من العربة فور وصول الأسرة, يجلسونهم على المقاعد الخشبية, يوصلون بهم الانابيب, ويشفطون الدم من الأجساد. وفي النهاية يسلموهم أكياس الطعام الشهية, التي ضربت رائحتها رأس الولد فداخ قليلًا, قبل أن يسحب نفسه ويطير لأهل القرية يبلغهم ما رآه.
انتشر السر بين البيوت, وجرى الريق على الألسنة, الكل يحلم, والرائحة تداعب الصبايا والنسوة في الليل, فتزحف اياديهن في الظلمة تداعب اجسادهن الجائعة, يستحضرن الروائح التي دوختهن الأسابيع الفائتة, روائح شهية لأطعمة غير معروفة, لكنها كافية لتهييج البطون و العقول, الروائح تصعد للرأس والأيادي تنزل لأسفل, حتى الصباح, تختفي الروائح, وتهدأ الأجساد.
قرر رجال القرية عدم الذهاب لذلك المكان, واتفق الكل على ذلك. لكن أحدى النسوة, التي لم تهدأ ابدًا, بعد ليل طويل مع الروائح, أقنعت رجلها أن يذهبوا سرًا. تسللوا وراحوا في الخفاء, ولكن الروائح فضحتهم, تسربت للبيوت المجاورة, سحبت معها للخارج كل أنف تسكنه, وفي اليوم التالي, كانت النسوة تدفعن الرجال دفعًا للذهاب, فخرجت أشباح كثيرة تركض تحت ستارة الليل.
ثقلت البطون, وعم الجميع شعور الشبع. الكل الآن, يعرف طعم اللحمة, ويعرف عدة طرق لطهيها, وأطعمة أخرى كثيرة, صار الحديث عنها هو كل ما يدور مع أكواب الشاي مع اجتماعات أهل القرية, الذين اصبحوا بعد كل صباح يزدادون ذبولا وهزلانا , دون أن يلاحظ أحد ذلك. الوحيد الذي لاحظ, هو ذلك الشاب الذي رفض الذهاب أو دس أي لقمة في فمه, كان يرى أن هذا الطعام, شر و لعنة. كان يلف كل مساء على البيوت, ينصح الناس, وبيده مرآه, يريهم أشكالهم بها, وكيف أصبحت. وفي الأغلب, كان يُقذف أو يُركل. لم يستمع له أحد…
ايضًا لم يهتم أحد أو يبال, بما حدث مع أسرة البيت الطيني, اول ناس فعلوها. كانت الشمس حارة, تلفح الأجساد و الرؤوس, وكانت تلك الأسرة عائدة من رحلتها – التي لم تعد سرية منذ زمن – الأخيرة. العرق ينز من أجسادهم, والأب يسحب الأكياس بصعوبة, وخلفه باقي الأسرة, تزحف فوق التراب الملتهب, يزحفون خطوة, وتقع رؤوسهم على الرمال مجهدة في الخطوة الأخرى. بعد عدة خطوات, سقطت الرؤوس للأبد. كان يراقبهم من بعيد, بعض أهل القرية, الذين فطنوا للنهاية المحتومة, وما أن همدت الأجساد, حتى أخذوا يركضون, قفزوا على الأكياس, فرحين بالجرعات الأضافية المجانية. تاركين مهمة التخلص من عظام الأسرة لطيور جائعة تحوم في السماء.
اسبوع تلو اسبوع, أخذت الأجساد تسقط, ولا أحد يهتم, لا أحد يبالي. كان الكل مستمر في الجري وراء الأكياس الشهية, وكانت العربة مستمرة في شفط الدم, حتى وجد ذلك الشاب – الذي رفض دس أي لقمة- نفسه وحيدًا. اختفت رائحة الأطعمة الشهية, وحل مكانها رائحة الموت, والأجساد المتعفنة. كان يسير وسط الأجساد, والحزن يغلبه, لا يدري ما يفعل.
وذات صباح غائم, سار ذلك الشاب, حتى وصل للجبل ودار حوله, ووصل لمكان العربة الضخمة, جلس على الكرسي الخشبي, مد ذراعه الأيسر امامه, ورفع كفه الأيمن, ليمسح دمعة هاربة, حاول ألا يفلتها, وهو يرى الدم الأحمر الطازج وهو يجري في الأنبوب, ليختفي في بطن العربة.