“دروز بلغراد” لربيع جابر بين الصّدفة والقصد
الدكتورة درية فرحات
الصّدفة والقدر والخطأ، حالات يستند إليها الكتّاب في بناء العمل الأدبيّ عمومًا والسّرديّ منها خصوصًا. ويحضرني الآن ما كتبه شكسبير في مسرحيته الهزليّة، كوميديا الأخطاء التي تعتمد على القدر الذي فرّق بين زوجين من التّوائم: شقيقين سيدين، وشقيقين خادمين، وتشاء الصّدفة أن يلتقيا في مدينة ايقيزوس في آسيا الوسطى، حيث ينشغل الناس في ذلك اليوم بتجوال التوائم الاربعة زوجين زوجين زارعين سوء التفاهم والفوضى في حياة الناس، وتعتمد الأحداث على أخطاء في التّعرّف على بعض الأشخاص، فيوضع الشّخص في موقف لغيره، وهكذا تتوالى الأحداث. وإذا كان وضع الشّخص في غير مكانه بنى نصًّا هزليًّا عند شكسبير للوصول إلى غايته، فإنّ ربيع جابر في روايته “دروز بلغراد” يبني روايته على عبثية التّواجد في المكان الخطأ والزّمان الخطأ، ما يؤدّي إلى قلب مسار حياة بطل الرّواية رأسًا على عقب، ونعيش مع أحداث مؤلمة تصوّر مرحلة مهمة من مراحل التّاريخ في لبنان.
فينهل الكاتب من ذاكرته التّاريخيّة الأحداث التي رافقت جبل لبنان في القرن التّاسع عشر، وينقلنا إلى معركة عين دارة وما تلاها من أحداث 1860، ويحدّثنا عن نفي 550 درزيًّا إلى طرابلس الغرب وبلغراد، ذلك بأمر من السّلطان العثماني، عقابًا لهم على قتل الموارنة المسيحيين، ومع تحديد هذه التواريخ والأمكنة الحقيقيّة فإنّ الكاتب يفتتح روايته، بأنّها من نسج الخيال، فكيف نجمع بين الخيال والتوثيق التّاريخي، فهل ما كتبه ربيع جابر وثيقة تاريخيّة، أم أنّه عمل فنيّ من نسج خياله؟
إنّ “دروز بلغراد” رواية تجمع بين أمرين، يمتزج فيها التّاريخ بالخيال، تهدف إلى تصوير عهد من العهود أو حدث من الأحداث الضخام بأسلوب روائي سائغ مبني على معطيات التاريخ، هي تاريخ في قالب روائي هدفه تصوير المجتمع، أمّا العنصر الاجتماعيّ فنـجـده يـصـطخب في النّماذج التي تـحركهـا شخوصـاً، وتـرسم صورة الحياة الاجتماعيّة، والطّبقات القائمة في المجتمع.
والّلافت أنّ الرّواية حملت عنوانين الأوّل منها هو “دروز بلغراد”، وثانيها عنوان فرعي وهو “حكاية حنا يعقوب”، وندرك جميعًا ما للعنوان من تأثير في العمل الأدبيّ، فجيرار جينت يرى بأنّ العنوان مجموعة من العلامات اللسانيّة يمكن أن توضع على رأس النّص لتحدّده، وتدلّ على محتواه، لهذا فهو يعدّ من أهم النّصوص الموازية للنّص إذ أنه أوّل ما يصافح بصر وسمع المتلقي، وهو المفتاح الذي ستُفتح به مغاليق النّص، العنوان مفتاح أساسي يتسلّح به المحلّل للولوج إلى أغوار النّص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها.
والوقوف على هذين العنوانين يقودنا إلى حقيقة حبكة الأحداث في الرّواية، فأحداثها تنفتح على حنا يعقوب، بائع البيض المسيحي الذي ينتظر بيع ما معه من بيض مسلوق في سلّته ليعود إلى زوجه هيلانة وابنته الرضيعة ابنة الأحد عشر شهرًا، لكنّ الصّدفة أو الخطأ أو حظّ حنا يقوده إلى أن يكون مع 550 درزيًّا شاركوا في مذابح جبل لبنان، اقتيدوا إلى سجون الإمبراطوريّة العثمانيّة في بلغراد، والمصادفة أو الخطأ الذي وقع، لأنّه كان بديلًا من شاب آخر، دفع والده الشيخ غفّار عزّ الدّين رشوة للضّابط العثمانيّ ليفكّ أسر أبنائه الخمسة، فسمح له فقط بواحد وهو سلمان.
وتستمر لعبة تبادل الأدوار، فتتغيّر حياة حنّا رأسًا على عقب ويتحمل رحلة عذاب ومعاناة مع السّجناء الذين قضوا في تخوم بلاد البلغار والصّرب والجبل الأسود لأكثر من 12 سنة، واجه فيها هؤلاء السّجناء أقسى ما يمكن أن يتعرّض له السّجين.
وتكتمل مصادفة تبادل الأدوار، أن يُحرم حنا من زوجه وابنته الرضيعة، ويعود سلمان غفّار عز الدين إلى زوجه وابنته الرضيعة ذات الأحد عشر شهرا كابنة حنا. يضعنا الكاتب بين هذا التّبادل في الأدوار مصادفة، لكنّه في المقابل يقدّم لنا الكثير من الحقائق التّاريخيّة وينقل أحداثًا يتقصّد من خلالها عرض الجوانب الإنسانيّة، فيصوّر كيفية استغلال المساجين فيتحوّلون إلى عمّال بالسّخرة مرّة لجني محصول عشيقة البيك، ومرّة لبناء سور حجريّ.
كما يعرض لنا ما له علاقة بنتائج التّحالفات السياسيّة والصراع بين الإمبراطوريات، وما تهدف إليه. فلم تكن مأساة حنا إلّا أنّها نتيجة التّخاذل التّركيّ الذي كانت دولته العثمانيّة في آخر عهدها، ووجودّ القنصل الفرنسيّ صاحب السّلطة استنادًا إلى اتفاقات تدخلّ القنصليات لحماية الأقليّات.
أمّا من النّاحية الفنيّة فقد بنى الكاتب ربيع جابر روايته مستندًا إلى سرد ينقسم بين حكايتين، الأولى حكاية حنّا مع المساجين في البلقان، وحكاية الزّوجة هيلانة، لكنّ الرّاوي في الرّواية واحد معتمدًا ضمير الغائب، فهو ليس من أبطال الرّواية، أي كما يُقال في تقنيات السرد هو الرّاوي العليم الذي يكون على معرفة بكلّ الأحداث، مدركًا لكلّ ما يجول في خاطر الشّخصيات، وقد يجعل الشّخصية تعبّر عمّا في داخلها من خلال الحوار الدّائر بين الشّخصيات.
ويكتمل السّرد والحوار مع الوصف الذي اعتمد عليه الكاتب بشكل لافت، والوصف كما يذكر قدامة بن جعفر هو “ذكر الشّيء كما فيه من الأحوال والهيئات” ، والوصف هو تصوير الأشياء المراد التّعبير عنها بأسلوب فنيّ، والهدف من ذلك تقريب الموصوف للقارئ، ويمكن تقديم صورة دقيقة للمتلقي من دون الاعتماد على إعطاء معلومات عاديّة. والوصف مكوّن مهم من مكوّنات الرّواية والكتابة السّرديّة لأنّه يعوّض الديكور في المسرح، ويستفيض الكاتب في وصفه، فنراه في مقاطع عديدة يسهب في وصف عجينة البرغل، أو طبخة السبانخ التي أعدّتها هيلانة لزوجها، وليس ذلك حشوًا أو استطرادًا، إنّما فيه إظهار لمشاعر هيلانة وشوقها في عودة زوجها، من خلال نقل دقيق لكلّ حركة منها، فتكون خاتمة ذلك خيبة أمل، لأنّ حنّا لا يعود، فتبدأ مأساة الانتظار، والصّراع بين أمل عودته، وما يخبرها به القسيس من وفاة زوجها استنادًا إلى ما نُقل عن بعضهم أنّه سمع أحد المساجين يقول إنّه قتل حنا يعقوب المسيحي الذي يسكل خلف الكنيسة، مع أنّ العبارة هي ذاتها التي قالها حنّا رافعًا صوته علّ القنصل الفرنسي يسمعه وينقذه من الخطأ الذي جعله يكون مكان الدّرزيّ سلمان.
إنّها رواية الصّدفة وتبادل الأدوار، التي أراد منها ربيع جابر أن يضعنا في مواجهة حقيقة ما نواجهه من إرث طائفيّ لا بدّ أن نخرج منه، في عمل أدبيّ متكامل في مضمونه وبنائه.