منتديات

الكونفوشيوسية بديلا عن الرأسمالية العالمية

  • تم نشر هذا المقال في مجلة اوان الكويتية /2 نوفمبر 2008
    الكونفوشيوسية بديلاً عن الرأسمالية الليبرالية


الكاتب سركيس أبو زيد

2 نوفمبر, 2008
لم ينتهِ التاريخ بعد. وسقوط الشيوعية وانتصار الرأسمالية لم يحل الأزمة العالمية. فالقطب الأميركي الأقوى عالميا تلقى ضربة اقتصادية قاصمة، وصلت إشعاعاتها السامة إلى دول العالم كافة، وإن بنسب متفاوتة.
طيلة 25 عاما، هيمنت على الولايات المتحدة الأميركية، ومن خلالها على العالم، الرأسمالية الليبرالية القائمة على غياب الدور التدخلي التنظيمي- التخطيطي للدولة، وصب النقد في السوق «ولو عبر هليكوبتر» على حد قول ميلتون فريدمان (أستاذ مادة النظرية الاقتصادية الذي بنت الولايات المتحدة اقتصادها على أساس نظريته)، وترك السوق حرة إلى مداها من خلال حركتها الذاتية مع خفض الضرائب الى حدودها الدنيا. وكانت أبرز إرهاصات الأنموذج الأميركي على العالم: أسواق العمالة غير المنظمة والتحرير المالي والتكامل الاقتصادي العالمي والاستقرار في الاقتصادات الكبرى المعتمدة على معدلات تضخم منخفضة، مقابل خسارة الاقتصادات الصغيرة لمواردها وطاقاتها البشرية ووقوعها في فخ الديون والتبعية، ومن ثم تلقيها ضربات موجعة هي ترددات «الضربة الأم» التي تلقتها واشنطن.
ما حصل في وول ستريت أنه جرى التعامل مع الفورة العقارية الأميركية التي بلغت قيمتها الدفترية 62 تريليون دولار (الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، 14 تريليوناً)، والتي سجلت الخسارة الأولى للقطاع العقاري الأميركي في سبتمبر 2006 خلال مسار عشر سنوات، على انها أزمة طارئة ومؤقتة
لكن الأزمة تفاقمت وكبرت وصولاً إلى انهيار أسهم البنوك الاستثمارية الكبرى مثل «ميريل لنش» و «ليمان براذرز» في الأسبوع الثاني من سبتمبر الماضي، ما شكل إعلاناً عن الدخول في أزمة اعتبرها آلان غرينسبان، حاكم البنك الفيديرالي الأميركي السابق، «الأخطر منذ أزمة 1929».
وقد نالت الدول المرتبطة اقتصاديا بالولايات المتحدة نصيبها من الخسائر الفادحة، كما كل دول العالم وإن بدرجات مختلفة.
إذ توقع صندوق النقد الدولي في تقريره نصف السنوي عن الاقتصاد العالمي ركود النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة في الربعين الثالث والرابع من هذا العام، والربع الأول من العام المقبل، مع حدوث بعض الاستقرار في الربع الثاني، وتسجيل نشاط دون المستوى المطلوب معظم عام 2009، مقللا من توقعات نمو الاقتصاد الأميركي بشكل كبير.
كما أشار الصندوق الى أن نمو إجمالي الناتج المحلي لعام 2008 لن يتعدى 1.6 %، مضيفا أن اقتصاد أميركا لن يعود قادرا على تحقيق نمو إلا في العام 2010. وبمزيد من التحديد، يذكر الصندوق أن خسائر القطاع المالي في الولايات المتحدة قد تبلغ 1.4 تريليون دولار، وأن العجز المالي في الاقتصاد الأميركي يرتفع بشكل كبير ويتوقع أن يصل إلى 4.5 % من إجمالي الناتج المحلي في عام 2009، وهي أعلى نسبة بين دول مجموعة السبع الصناعية التي تضم إضافة إلى الولايات المتحدة بريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان.
كذلك حذر الصندوق من أن العالم يقف على حافة كساد اقتصادي بسبب الأزمة المالية التي من المستبعد أن تنتهي قبل عام 2010، خافضا توقعاته بالنسبة للنمو الاقتصادي العالمي في العام 2009 من 3.9 % إلى 3 % فقط (والمعلوم أنه في حالة انخفاض معدل النمو عن 3 % فإن ذلك يعتبر ركودا اقتصاديا).
وبما أن الرأسمالية أثبتت فشلها، والشيوعية سبقتها إلى ذلك لتثبت أنها حلم مثالي أخلاقي، هل تكون الكونفوشيوسية الصينية هي الحل؟
يعد كونفوشيوس من أكثر فلاسفة الصين تأثيرا في بلاده كما في اليابان وكوريا، وقد عاش بين عامي 551 ق.م. و479 ق.م.، حتى أنه لقب بـ«نبي الصين».
ويقوم مذهب كونفوشيوس على بناء نظام اجتماعي أخلاقي اقتصادي على أساس التقاليد الصينية التي تركّز على المحبة وحسن المعاملة واللطف والأدب ونظافة اليد واللسان، وطاعة الصغير للكبير. كما يؤمن كونفوشيوس بأن وظيفة الحكومة هي خدمة الشعب، وواجب الشعب احترام القانون والنظام، لكنه يرفض بشدة الطغيان والاستبداد.
والواقع أنه عندما ظهرت أفكار كونفوشيوس في البداية، لم تتحول إلى مذهب أساسي فورا، إلى أن أصبحت الصين دولة موحدة قوية مركزية السلطة خلال العصر الاقطاعي في القرن الثاني قبل الميلاد . فقد جعل الحكام من الكونفوشيوسية المذهب الرسمي للدولة كونها الايديولوجية المثلى لتماسك الدولة، لما تحويه من أفكار طبقية صارمة ومسوغات للطاعة في ظل مجتمع طبقي، ما يساعد على استقرار المجتمع بعد عقود من الصراعات وتفكك الصين الى دويلات.
وقد سجل «كتاب الحوار» أفكار كونفوشيوس وكلامه وسلوكه، واعتبر كتابا مقدسا يقتدي به المواطنون ، ويتوجب على من يريد تولي منصب رسمي دراسته بدقة والخضوع لامتحان فيه.
وقد عرفت الكونفوشيوسية الجديدة نهضتها الحقيقية أثناء القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وظلت تتمتع بهذه المكانة المنيعة على أي تشكيك أو تحدٍ لمدة سبعة قرون من الزمان. وقد اعتبرت بمثابة الإيديولوجية الأساسية للدول المجاورة للصين ـ اليابان، وكوريا، وفيتنام، التي ظلت تحت سطوتها حتى نهوض الغرب، كون عقائدها ملائمة تمام الملائمة للحضارات الزراعية الراقية المستقرة التي سادت شرق آسيا في فترة ما قبل القرن التاسع عشر. كما اعتُمدت شريعة كونفوشيوس كمنهج دراسي.
كما قدمت الثقافة الكونفوشيوسية المدنية الأساس لتاريخ طويل من الحكم الذاتي الناجح. فقد نجح أهل شرق آسيا، على نحو يتسم بالوعي الذاتي، في الدخول إلى عالم الدول القومية الحديث في وحدات علمانية متفردة، على عكس شبه القارة الهندية، ذات الديانتين الرئيستين والمجموعات اللغوية التي تزيد على عشر مجموعات رئيسة، والتي عجزت عن الاتحاد خلال العصر الحديث إلا تحت الحكم البريطاني.
في الواقع، كانت القرون التي تطبّعت بالكونفوشيوسية، بالنسبة إلى نهوض اقتصاد شرق آسيا المفرط النمو، على القدر نفسه من الأهمية التي كانت لظهور البروتستانتية واقترانها بنشوء الرأسمالية في الغرب. وقد ظلت العقائد الكونفوشيوسية تزوّد غالبية أهل شرق آسيا ببوصلة داخلية هادية في عصر ما بعد الكونفوشيوسية، تماماً كما ظلت نصائح الكتاب المقدس تمثل المعايير التي يتبناها الغرب في عصر ما بعد التديّن.
وعلى الرغم من أن دول ما بعد الكونفوشيوسية تمكنت أثناء القرن المنقضي من التكيف مع عالم متعدد الأقطاب ذي دول قومية متكافئة على المستوى النظري، الا أنه لا يمكن الجزم أن هذه الدول التي زرعت فيها الكونفوشيوسية ديناميكية نشطة إلى الأبد، سترضى بزعامة الغرب عليها بذريعة أنه كان السبّاق إلى عصر الصناعة منذ مئتي عام. والدليل أن الصين اليوم باتت تنافس أميركا ودول أوروبا بقوة، ومن المرشح أن يصل الاقتصاد الصيني إلى مرتبة أفضل من مثيله الأميركي.
اليوم، وبعد أن انحسرت الفلسفة الكونفوشيوسية نسبياً في الصين على اثر تحولها إلى الشيوعية وابتعادها عن التقاليد الموروثة التي تعتبر عماد المذهب الكونفوشي، يعود الحديث عن «الكونفوشيوسية اليسارية» التي تدمج ما بين الموروث الصيني الكونفوشي والأفكار الشيوعية، بما أن لا بديل آخر كون الصينيين حساسين تجاه كل ما يأتي من الغرب، ومن المعروف أنهم لا ينجذبون أبدا لمقولات «الديمقراطية الليبرالية». والجدير بالذكر هنا أن زعيم الشيوعية في الضين ماو تسي تونغ لم يحارب يوما الكونفوشيوسية، بل إنها حتى اليوم ما زالت سائدة في الاوساط الشعبية الاجتماعية كمعايير أخلاقية ونموذج للحياة.
فبعد أن فقدت الشيوعية قدرتها على إلهام الشعب الصيني، تعالت أصوات حكومية وأصوات عدد من المفكرين والمواطنين العاديين تدعو إلى «إحياء» كونفوشيوس. ومن أبرز اليساريين الكونفوشيوسيين الجدد، المفكر غان يانغ الذي دعا إلى تأسيس «الجمهورية الاشتراكية الكونفوشيوسية».
أما «الكونفوشيوسية اليسارية» ، فتؤكد على التزام أهل الفكر بانتقاد السياسات الرديئة، وتلزم الحكومات ببذل ما يلزم من جهد لتوفير الرخاء المادي للناس ودعم المحرومين من النفوذ، وتدعو الحكومات إلى تبني وجهة نظر أقرب إلى العقلية الدولية والاعتماد على القوة الأخلاقية بدلاً من القوة العسكرية في ملاحقة الأهداف السياسية. وفيما يتعلق بالالتزامات الغيبية التجريدية الأساسية، فهي تتركها مفتوحة وتتبنى وجهة نظر جمعية ومتسامحة مع الحياة الدينية. كما تشدد الكونفوشيوسية اليسارية على المساواة في الفرص في التعليم والاعتماد على الجدارة والكفاءة في اختيار أعضاء الحكومة، فضلاً عن توزيع المناصب القيادية على أكثر أفراد المجتمع فضيلة وأعظمهم تأهيلاً.
وعلى هذا فإن الكونفوشيوسية اليسارية تحابي الإصلاح المؤسسي استناداً إلى اقتناعها بأن استقرار وشرعية المؤسسات السياسية على الأمد البعيد يستلزمان تأسيسهما على التقاليد الصينية. ويدعو كبار معلمي الكونفوشيوسية اليوم جيانغ كينغ إلى تأسيس نظام تشريعي ثلاثي، يضم الأجانب والأقليات، فضلاً عن إنشاء مجلس للتواصل الثقافي يتلخص عمله في الحفاظ على الأديان والتقاليد المتعددة في الصين.
لكن اليوم مع كل هذا التوجه الى دراسة النموذج الصيني واعادة احياء التراث الكونفوشي فيها تحديدا، لا بد من التساؤل عن سر النجاح و«التفوق الصيني». هل هو عائد الى طبيعة الشعب الصيني المصمم والمنظم والنشيط؟ ام الى «شيوعية» الصين؟ ام الى «كونفوشيتها»؟ الأرجح أن «الخلطة الصينية» هي السر، فقد جمعت التقاليد الموروثة ونظم العدالة الاجتماعية، مع اقتصاد السوق الليبرالي تحت سلطة سياسية شيوعية.
فهل تجدد الكونفوشيوسية شبابها من جديد على نطاق أوسع من الصين، وتقدم حلا لعالم أرهقته الليبرالية الأميركية والمادية الغربية؟
عن جريدة أوان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى