الروائي صفاء محمد يقرأ و ينبشُ في ” علبة الأحلام ” للكاتبة عزة عز الدين
نَبْشٌ في “علبة الأحلام”
كتيّبٌ نحيلُ الحجم، ربّما يُقارب الثمانين صفحة من الحجم المتوسط، لكنه يزنُ في عالم القصِّ كثيرًا. هذه هي حقيقة الميزان، إنْ في الدنيا أو الآخرة. فربّما تجد جرامًا واحدًا من مادة نفيسة أثقلُ من قناطير من الغثّ، وربما تنجيني حسنة واحدة لحظة إيمانٍ حقيقيّ، ولا تنجي راهبًا عبادته مدى الدهر.
14 قصة قصيرة تسكبُ فيها الكاتبة من روحها بين الصفحة والخمس صفحات بكل قصة. هي على التوالي: لحظةٌ فارقة، حنين، كواليس ألوان، حفل جمال، وشوشات روح، علبة الأحلام، سياج الورد، دفء الشوارع، ديوان شعر، العسل المصفى، راندا، في رحاب القمر-1 ، في رحاب القمر-2 ، وعابر سبيل.
لستُ ناقدًا ولا كاتبًا، ربّما أنني أفهم في الجولوجيا، طبقات اللغة ومعادن الأبجدية. لا أروع من أبجدية تخاطب الإنسان، تلامس الروح، تحمل الناس إلى حيث يحلمون، تحفر السعادة الآنية في غرف القلوب. هذا ما فعلته الرائعة عز الدين.
بداية من اختيار اسم المجموعة “علبة الأحلام” وهو نفس اسم القصة السادسة، فهو يذكرني بالفانوس السحري الذي يحلم كل منا أن يمتلكه ينهل من جوفه، أو المحارة التي نحلم باصطيادها والفوز بما فيها، وهذا هو الفلك الي تدور فيه الكاتبة في معظم القصص، بعد أن أدركت هموم النفس الإنسانية وتطلعاتها. فلعبت على أوتار الروح بحرفية سردية سلسة ومباشرة، كرّزت للمباديء الإنسانية الفطرية، والعلاقات الروحية النبيلة، عززت قيم العطاء والتضحية. باختصار يمكننا القول بأن الكاتبة سبرت أغوار النفس البشرية، وأدركت مقتضيات السعادة، ولم يبق للإنسان إلا الممارسة السليمة.
وتعريجًا على تصميم الغلاف الذي يوحي بنفس المضامين السابقة، ويبعث على الأمل والتشويق لما في داخل تلك العلبة السحرية.
في القصة الأولى “لحظةٌ فارقة “، تركز الكاتبة على عطاء المرأة اللامحدود، وتضحياتها حين ترى الأمل والمستقبل في ابنها، فتكرّس حياتها له بعد أن فقدت زوجها وأخيها السند الوحيد لها في الدنيا.
في القصة الثانية “حنين”، تؤكد الكاتبة على واقعٍ إنساني: أن الروح تعشق مرةً واحدة، لكن النفس تسعى في الأرض في طريقٍ مرسوم ومحتوم. وأن السعادة تكون في الرضى بالحاضر، والحلم بالتحليق في آن.
في القصة الثالثة “كواليس ألوان”، رسمت الكاتبة ببراعة، كيف أن القسوة والأنانية تجعلنا نكفر بالمسلّمات وحقيقة الأسماء والألوان، وتقتل الحياة ذاتها.
في القصة الرابعة “حفل جمال”، تحملك الكاتبة لسيمفونية عشق الطبيعة، لتسبح معها في أفلاك من الجمال الإلهيّ التي تجعل النفس كطائرٍ يغرّد ولا يأبه بمن حوله.
في القصة الخامسة “وشوشات روح”، فهي مزمور سماوي يكشف عن طبيعة النفس البشرية الفطريّة، طبيعة الروح حين تحلّق عاليًا، بعيدًا عن الترابي، حين ترفض حياة البراري والمنفعة وتجنحُ للطبيعة والنقاء والصفاء والعطاء، حين تعتنق الحب وترفض الكفر. حقًا لقد برعت الكاتبة في استخدام أدوات سردٍ فلسفي عميق يلمس الروح، وأترك لكم متن القصة لتسبحوا في صورها الذهنية البارعة.
(هي واحة أمان خضراء، أدركتها بقلبها من خلف أسوار الواقع، وأحاط بها الجمال من أربع جهات. يقف صانع الواحة في مركزها ينظم الحدود، يرتبها ويحكم وصلها، يأبى أن تتسلل منها ذرة جمال واحدة، فجميع الذرات ملك لهذه الواحة، يبحث فيها عن أيقونة الروح، ويراقب كافة الجهات في شغف. ينظر لجهة فيجد كلمات ذهبية كتبت بحروف من نور، يغزلها ليصنع منها أجمل قصائد الحب وترنيمات السلام. يلتفت بعينيه لجهة أخرى فتبهره باقات الزهور اليانعة، يستمتع بزهوها الفطري فهي ليست بحاجة لمن يعلمها جمال الألوان. يأبى أن يودعها قبل أن يشبع صدره بعبيرها الأخاذ، يلتفت للجهة الثالثة فيستمع لأجمل الألحان التي أرسلها واستقبلها فتثير شجونه تارة وأفراحه تارة أخرى، ثم يغادر هذه الجهة ليستقر بقلبه في الجهة الأخيرة فيجد على طرفيها ينابيع الأمل المتدفقة، يتأملها بكل جوارحه، ويستقي منها ما يشاء. وفي المنتصف( إطلالتها) التي حوت معه كل هذا الجمال، تتطلع اليه بشوق وشغف وتترقب الدخول…
تُرى سيسعده ذلك؟ ربما أصبحت جزءا من أيقونة الروح التي يبحث عنها وتبحث عنها هي الأخرى. كان لإطلالتها سحر تجلى لصانع الواحة، رآه بريقا نافذا لقلبه فتعجل النداء، أنت أيقونة الروح التي طالما بحثت عنها وحتما ستصبح واحتي بك جنة، اقتربت قليلا نحو مدخلها ورمقتها بنظرة شاملة أنعشت روحها. أسعدته شحنة الأمل والاصرار التي بادرته بها، وابتسم ابتسامة رضا حوت كل المعاني، أشرقت الشمس وبسط الصباح رداءه الأبيض يضيئ كل شيئ، ويحوي قلوبا نبضت شوقا للقاء مرتقب دارت قبله الحكايات. وخلف جذع شجرة في منتصف الواحة كان أميرها قد أعد طاولة مستديرة أحاطها بمقعدين فوق الطاولة شموع بيضاء تحرك شعلتها نسمات رقيقة باردة، وفي منتصف الطاولة زهرة الياسمين التي تشع نورا وعطرا ودفئا ونعومة، دعاها للجلوس فجلست، وأطالت النظر حولها لتحفظ تفاصيل واحتها في روحها، ثم حولت عينيها اليه تخبره كم كانت تفتش عنه في الأروقة وفي ملامح الغرباء حتى أدركته هنا في هذه الواحة، سألها ان كانت احبته فلم تجب، فقد فاق شعورها هذا المعنى وارتقى حتى احتارت فيه فلم تجد له وصفا، أهداها زهرة الياسمين، ستسقيها من روحها بماء الود وستجزل لها العطاء، فهي الشاهد الوحيد على هذا اللقاء. كانت تخشى قرب النهاية وأبت أن يفسد عليها هذا الخوف ساعات اللقاء الجميلة فتجاهلته وأمسكت بزهرة الياسمين علها تمتص هذا الشعور بجمالها الأخاذ. تنهدت وابتسمت وتركت له الحديث. نظر إليها مبتسما متأملا وقال:
أنتِ يا أيقونة الروح يا مدينة القلب، إن كنت قد فتّشتِ عنّي في ملامح الغرباء، فقد فتّشتُ عنك بين طرقات المدن، وسطور الكتب وأجنحة الفراشات. كنت أرى إطلالتك ملاكًا من نور يطل لتشرق به الحياة من جديد، كان طيفك سلوتي التي اكتفيت بها، وحضورك حلمي الذي تمنيته حتى تجاوزت الأربعين، وها نحن قد التقينا، لست أدري يا حوريتي كيف يمكنني أن أبقيك لؤلؤة مكنونة في صدفة تائهة لا يعرف سرها غيري.
لم تتشابك الأيدي بعد وإنما تشابكت الجمل والعبارات حتى سالت العبرات.
أما هو فقد عقد خيوط وجدانه بوجدانها في ملحمة صاخبة من الأحلام المؤجلة حتى إشعار آخر. ثم أخبرها كم تمنى أن يشاركهما الواحة الحمام والنخيل ومن الخيل زوجين، وتمنت هي الطاووس والطيور المغردة وسلال العنب والرمان ونهرا رقراقا من الماء العذب، تلك كانت أمانيهم في واحتهم الخضراء. مر الوقت سريعا، انتهى اللقاء وأيقنوا انه لا مفر من الخروج. خرجا من الواحة لأرض الواقع، يتألمان ويتمنان لو استطاعا البقاء، ولكن هيهات هيهات فلا بد من الرحيل.
تشابكت الأيدي واتفقا على المضي سويا في طريق المحبين، يتخطان العثرات ويتحديان الإخفاقات، يتذكران الواحة كلما قست عليهما الحياة، ويحبسان في صدورهما عبق عبير ظنا يوما انه من نسمات الجنة، يغلقان جفونهما على آية من آيات الجمال ويتعاهدان ألا يفترقا أبدا.
وهكذا انتهت روح من كتابة روايتها الحالمة “وشوشات روح” والتي تنوي المشاركة بها في المسابقة ، عاشت روايتها أثناء الكتابة بكل جوارحها، ابتسمت وبكت وحلقت بوجدانها في فضاء وردي رحب، انفعلت بكل ذراتها مع كل كلمة حتى ذابت في حلمها المكتوب… ثم أغلقت آخر الصفحات ووضعت الأوراق في حقيبتها واتجهت للباب فإذا بزوجها عائدا، قابلها بوجه “سمج” فهو رجل فظ غليظ القلب تحملته ولا زالت فقط من أجل أطفالها. تعيسة الحظ هي أوقعها القدر مع من لا يقدر القيم، حارب نجاحها وتفوقها وأجهز على حلمها وطموحها حتى خارت قواها سوى من هذه الرواية الأخيرة التي كتبتها بعيدا عنه أثناء سفره، وها هو حظها العثر يواجهها به في اللحظة الأخيرة.
حدثها بانفعال: “رايحة فين” ؟
أجابت: مكتبة القاهرة لتسليم روايتي.
أي رواية؟
“وشوشات روح”، كتبتها كاملة أثناء سفرك حتى لا أضايقك بانشغالي، وسأشارك بها في المسابقة.
وفي لحظة مؤلمة خطف الحقيبة وأخرج منها الأوراق، مزقها، وألقى بها من شرفة المنزل.
نظرت إلى قصاصات الورق المتناثرة وصرخت في وجهه: “طلقني”، ثم غادرت…)
وتتابع الكاتبة القصّ بنفس الأسلوب الحالم الشفيف، تخاطب الروح وتتجنب الترابي، حتى آخر الكتاب.
أتمنى لها التوفيق في القادم، فلديها موهبة حقيقية، تملك أدواتها وتعرف كيف توظفها، لغتها نظيفة وأبجديتها سليمة وسلسة.
صفاء محمد / روائي مصري
عضو اتحاد الكتاب