أحداث من السِّيرة النَّبويَّة في مرايا معاصرة (الحلقة الخامِسَة)
أحداث من السِّيرة النَّبويَّة في مرايا معاصرة
(الحلقة الخامِسَة)
تنظيمُ العَمَلِ التَّطوُّعي
[غـزوة الخندق]
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)
لعلَّ نظام “العمل التَّطوُّعيّ” يقف بين أبرز ما تعتزُّ به المجتمعات الإنسانيَّة المتحضِّرة، من أنظمةٍ، في زمننا المعاصر. إنَّه المحاولة الإنسانيَّة الرَّاقية، للحضارة الإنسانيَّة، للعمل على دمج النَّاس، فيما بينهم، ضمن أنشطة هم يختارونها ويقبلون عليها؛ وهم من يسعى، تالياً، إلى خدمة المجتمع من خلالها. فالعمل التَّطوُّعيُّ،، وبنظر كثيرين، يشكِّل القفزة، القفزة الثقافيَّة الحضاريَّة الكبرى، من دنيا السُّخرة المُذِلَّةِ في بناء مجتمع ما، إلى دنيا تحقيق المنفعة الإنسانية العامة عبر العمل التَّطَّوُعِيّ الحُر.
لَمْ تمضِ سنواتٌ خمسٌ على الهجرة النَّبَوِيَّة إلى “المدينة المُنَوَّرة”، إلاّ وقد ارتعدت أوصال اليهود مما حققه المسلمون خلالها من أمور. نعم، لقد اشتد عود المؤسسة الإسلامية، وازداد التحام الناس حولها، وأصبح للمسلمين ما يبشِّرهم بخير عميم، إن كان على المستوى الدِّيني، أو على المستويين الاجتماعيِّ والسِّياسيِّ، أو حتَّى على المستوى العسكري. هنا أحسَّ “يهود المدينة”، الذين طالما تمتَّعوا بالسَّيطرة السِّياسِيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة على ناسها، أنَّهم باتوا في خطر شديد؛ ولمَّا لم يكن بمستطاع “اليهود” أن يتغلبوا بمفردهم على قيادة المسلمين، فإنهم بدأوا يحرِّضون بعض القبائل العربيَّة على التَّحالف معهم ضدَّ النَّبيِّ محمَّد (ﷺ) ومن معه من المسلمين. وبالفعل، فقد استطاع “اليهود” أن يجيّشوا بعضاً من “قريش” و”غطفان” لحربِ النبي (ﷺ)؛ وبدأ هذا الحِلف يأخذ استعداده لقتال المسلمين في “المدينة المُنَوَّرة”.
كان لا بدَّ للمسلمين من تدابير وقائيَّة يتَّخذونها ضدَّ هذا الحِلف من “اليهود” وبعض العرب. وكان لا بدَّ من إدراكٍ عسكريٍّ واضحٍ للموقع الذي يحتلُّه المسلمون في ساحة المعركة باعتبارهم:
• الأقلَّ عدداً
• الأقلَّ سلاحاً
• الأقلَّ قدرةً على الحركة؛ نظراً إلى إقامتهم ضمن أسوار “المدينة” وحدودها
• الأضعف في الحصول على الإمدادات من الخارج؛ بِحُكْمِ وجود عدوِّهم في أرضٍ منفتحة على المناطق المختلفة، ووجودهم ضمن أرضٍ محاطة من قِبَلِ هذا العدو
ارتأت القيادة المسلمة أن لا بدَّ من حفرٍ لخندقٍ يُحيط بأطراف “المدينة”، ليمنع عنها الهجمات المتوقَّعة من قِبل الأعداء؛ أو، على الأقلّ، يؤخِّر المهاجمين عن الوصول إلى حيث يبغون. وكان لا بدَّ من ناسٍ تمارسِ الحَفْرَ وتعملُ على إنجازه في أسرع ما يمكن مِن وقت.
لم يكن للمسلمين، وقتذاك، هيكليَّة وظيفيَّة تنظِّم وجودهم العملي؛ ولعلَّهم كانوا، في تلك المراحل الأولى من حياتهم المجتمعيَّة والتَّنظيميَّة، أقرب ما يمكن إلى مجتمع يتعاون ناسه فيما بينهم بالمودَّة والألفة أكثر من تعاونهم وفاقاً للقوانين والأنظمة. فكان لا بدَّ، تالياً، من مبادرةٍ ما للبدءِ في حَفْرِ الخندق. ويأخذ الرَّسول (ﷺ) المبادرة، ويسارع بشخصهِ، حاملا أدوات الحَفْرِ، إلى العمل في شَقِّ الخندق المطلوب؛ وما أن شاهد القوم نبيَّهم (ﷺ) يعمل بيديه في الحَفْرِ، حتَّى هرع كثير منهم يعاونونه ويعملون معه.
لم يكن هذا النوع من الاندفاع التَّطوُّعيِّ كافيا في مثل هذه الحال؛ إذ قد يشعر بعض القوم بالتَّعب؛ ولعلهم يتباطأون غير مقدِّرين لمسؤوليَّة ما هم فيه؛ كما قد تغلب حاجة حياتيَّة ما لمتطوعٍ على ما تطوَّع من أجله، فيترك حَفْرَ الخندق إلى ما قد يلبِّي له حاجته،؛ وقد يكون من الناس من لا يستطيع أن يقدِّر خطورة المسؤوليَّة التي هو فيها، فيقع في أخطاءٍ تنفيذيَّةٍ أو مجالات إهمال لا يمكن التَّغاضي عن مسؤوليَّة الوقوع فيها. واقع الحال، إنَّ ما كان على القوم القيام به، ههنا، لم يكن من باب النُّزهة أو من نوعِ الأمر الذي يمكن أن تُصَحَّحَ أخطاؤه في لاحق من وقت. إنَّه عملٌ عسكريٌّ مصيريٌّ؛ ولا بدَّ فيه مِن تحمّلٍ للمسؤوليَّة، ولا بدَّ مع المسؤوليَّة من تنظيمٍ واضحٍ ومسؤولٍ لمراحلِ تنفيذ العملِ في الأوقات المحدَّدة أو المرتقبة له.
كان لا بدَّ، في ظلِّ غياب أيِّ تنظيمٍ وظيفيٍّ إلزاميٍّ يدفعُ بالنَّاس إلى حَفْرِ الخندقِ، من تأسيسٍ لعملٍ تطوُّعيٍّ يقبَلُ القومُ من خلاله على الانتظام في حَفْرِ خندقٍ هو مسؤوليَّة عسكريَّة وحياتيَّة، بل مسؤوليَّة مصيريَّةٌ بالنسبة إليهم وإلى دينهم وإلى الآتي من أيَّامهم والمتحصِّل من مسارات وجودهم. صحيح أنَّ العمل التَّطوُّعِيَّ ينطلق من مبادرة شخصيَّة، لكن الصَّحيح أيضاً أنَّ بعض الأعمال التَّطوُّعيَّة هي أعمالٌ جَماعيَّة؛ وبمجرَّد كونها أعمالاً جماعيَّة، فهذا يعني ضرورة خضوعها للتَّنظيم، وارتباطها بالمسؤوليَّة الواضحةِ لكُلِّ عنصرٍ متطوِّعٍ.
مع بدء المسلمين حَفْرِ الخندق، حصلت أمور أثبتت ضرورة تنظيم العمل التَّطوعي:
• أقبل قسم على العمل بكل رحابة صدر
• تثاقل قسم آخر في متابعة العمل لأسباب من تعبٍ أو عدم تقدير لخطورة المهمَّة
• تهربت جماعة من الحفر بداعي الانشغال بأمور شخصية، أو عائلية،أو صحية، أو تجارية.
لم يستطع بعض الأفراد إدراك المسؤوليَّة القياديَّة التي كانت للنَّبيِّ (ﷺ)، في هذا العمل التَّطوُّعيِّ؛ ولم يعتقدوا، تاليا، بإلزاميَّة الانتظام بتوجيهات القيادة في هذا الشأن. واقع الحال، إنَّ العمل التَّطوُّعيَّ الجَماعِيَّ، في أيِّ زمانٍ كان أو في أيِّ مكان، ليس مجرَّد عملٍ مِزاجيٍّ أو عفويٍّ. إنَّه عملٌ لا يكون إنجازه قائماً بحقٍّ إلاَّ ضمن المسؤوليَّة الجماعيَّة، التي لا بدَّ من تنظيمها؛ بصورة عمليَّة، ووفاقا للمفاهيم المرجوة من حُسْنِ تنفيذ القيامِ بالعمل. وبصورة عمليَّة، ووفاقا للمفاهيم المعاصرة المعتمدة في أي واحد من مخيمات العمل التطوعي، فهذا يني ضرورة:
• تعييِّن مسؤول عن النَّشاط التَّطوُّعي
• توعية المتطوِّعين حول أهميَّة الموضوع الذي يتطوَّعون للعمل فيه
• احترام أفراد العمل للمسؤوليَّة المعيَّنة لكلِّ واحد منهم؛ وتحديد عواقب تجاهل هذه المسؤولية
تَظْهَرُ العنايةُ الإلهيَّةُ بالمسلمين، عندما يُوحي اللهُ، سبحانه وتعالى، أصولَ تنظيمِ العمل التَّطوُّعيِّ، الذي كان يقوم به المسلمون وقتذاك، وكلُّ عملٍ تطوُّعيٍّ جَماعيٍّ آخر. لقد أُنزلت على النَّبيِّ محمَّد (ﷺ)، آنئذٍ، بعض آيَّات من القرآن الكريم تذكر هذا الأمر، وتحدِّد أصوله؛ إنَّها تلك الآيات التي نزلت في النَّاس الذين عملوا على حَفْرِ الخندق وأُثبتت في سورة “النُّور” ، إذ كان إنزال الأيات التَّالي ورودها، ووفاقاً لما يُجْمِعُ عليه معظم الدَّارسون، إبَّان هذه الغزوة تحديداً:
تمكن الملاحظة أن ما ورد في هذا النَّصِّ القرآنيِّ، قد إختصر أصولَ التَّنظيم المعتمد اليومَ في أعمال ورش العمل التَّطوُّعيِّ؛ وهو، كذلك، من أبرز الأمور التَّنظيميَّة التي ساهمت في نجاح المسلمين في وضع الخندق حول المدينة.
من هنا، يكون القولُ إنَّ “غزوة الخندق”، هذه، كانت:
• مناسبةَ تأسيسِ أوَّل مخيَّمِ عملٍ تطوُّعيٍّ جَماعيٍّ في الإسلام
• مناسبة تنزيل الآيات القرآنيَّة الخاصَّة بتنظيم مثل هذه المجتمعات
• شهادة حقٍّ على أسبقيَّة الإسلام، في هذه الممارسات التي تساهم في إنقاذ المجتمع من أخطار تحدق به، لكن من خلال العمل التَّطوُّعيِّ الجَماعِيِّ، وضمنَ مفاهيمِ الثَّواب الدِّيني والدُّنيوي؛ وبعيداً عن مفاهيم السُّخرة والإذلال، التي كانت تتعرَّض لها الجماعات، تحقيقاً لمصالح هي في غالبها إمَّا لصالح الحاكم، أو خدمةً مفروضةً لِقويٍّ أو متنفِّذٍ.