التعليم عن بعد بين النعمة والنقمة!
التعليم عن بعد بين النعمة والنقمة!
د. ليلى شمس الدين
باحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام
منذ تفشي جائحة Covid-19 عالمياً، والأسئلة تتوالى من دون انقطاع عن جدوى التعليم عن بعد، وعن هذا الأسلوب المترافق مع صدى غريب لم نعهده في عالم التعليم الذي اعتدنا خوضه يومياً. فمنهم من يجده مرهقاً، ومنهم من يراه دعوة مفتوحة للعمل والتحدّي وفرصة للتغيير، وآخرون يعتبرونه مخرجاً لواقع طارئ وقاهر، وفرقة تصنّفه مأزقاً يجب تلافيه بشتى السبل.
في عالمنا الرقمي اليوم، تعدّدت إذاً كما اختلفت طرائق التعليم عن بعد، ومن ثمَّ تعدّدت واختلفت الأسئلة المطروحة حوله، وحول مدخلاته ووظيفته ودوره، ومدى انعكاسها على المخرجات المطلوبة أو المتوقّعة من وظيفة التعليم وأهدافه.
لطالما عُدّ الذَهاب إلى أماكن التعلّم ومقرّاته أفضل أداة عامّة متاحة لاكتساب المهارات وتطويرها، لا سيّما فيما يخص المهارات الاجتماعية والوعي الاجتماعي، وحتى وقت قصير نسبيًا كان يُفعل ذلك.
مع مفاجأة كورونا المستجدة، الحاكمة بأمرها، طفت على السطح منظومة تعليم جديدة قديمة، شهدناها منذ أكثر من قرن، لكنّها عادت لتكتسي حلّة جديدة تتماشى مع عصر تكنولوجيا المعلومات وإدارة المعرفة.
في هذا السياق، تُطالعني نتائج وآثار هذا النمط من التعليم المستجد، فهناك نتائج رصدتها من خلال تجربتي، المتواضعة نسبياً في هذا الإطار، فعمدت إلى مقارنتها مع ما قرأت من أبحاث ودراسات أجريت خلال بضع سنوات مضت.
أبحاث ودراسات تطال التعليم عن بعد
شهدت تلك الفترة دراسات تناولت حال الاضطراب الشديدة التي شعر بها العديد من العائلات في جميع أنحاء العالم؛ فالتعليم من المنزل لم يشكّل صدمة هائلة لإنتاجية الآباء فقط، بل ترك آثاره على الحياة الاجتماعية للمتعلّمين من أطفال وشباب على حد سواء.
بين هذا وذاك، تراودني أسئلة كثيرة، بعيدة عن جدوى التعليم عن بعد، أسئلة تصطدم بالآثار الناتجة عن طرقٍ ووسائلَ أسفرت عن تبعات شتى. قد لا تترك مجرد مشكلات قصيرة المدى، بل يمكن أن تكون عواقبها طويلة المدى على المجموعات المتأثرة بها والمنضوية تحت كَنَفها.
نعلم أنّ هذا النمط من التعليم طرق أبواب عدم تكافؤ الفرص، واللامساواة المفروضة في الاستخدامات، والإمكانات المتوفّرة وعلى أكثر من مستوى، وفتح الباب على مصراعيه أمام العديد من النقاشات والطروحات.
نحن من اعتدنا حدوث معظم أدوارنا الاجتماعية في أماكن مختلفة، لكن فجأة ومن دون سابق تحضير أو إنذار، نشهد تلاشي هذا السياق تدريجياً. ما نقوم به الآن شعور غريب لم نعتده في حياتنا العملية من قبل؛ إذ أصبحنا محصورين في مساحتنا الخاصة، في سياق أزمة تثير القلق للغاية. ومساحتنا الوحيدة للتفاعل هي النافذة الرقمية، من خلال شاشات الكمبيوتر أو الهواتف الذكية. أمر ينتج عنه دون شك تردّدات تتعلّق بالآثار الاجتماعية، كما في غيرها من ميادين حياتنا.
في هذا الإطار، أفاد خبراء تدريس موادَّ تتعلّق بـ “رفاهية مكان العمل، وفعالية العمل الجماعي” ببعض النتائج المتأتية جرّاء هذا الأمر:
يتطلّب إجراء مكالمة فيديو تركيزاً أكثر من المحادثة وجهًا لوجه.
تعني الدردشات المرئية أننا بحاجة إلى العمل بجدّية أكبر لمعالجة الإشارات غير اللفظية، مثل تعابير الوجه، ونبرة الصوت ولغة الجسد؛ وهي مرتكزات أساسية في تحقيق التواصل البنّاء والاتصال الفعّال.
يستهلك الاهتمامُ الزائدُ لبلوغ الأهداف المرجوة الكثيرَ من الطاقة.
لذلكَ نحن أمام جهد مبذول قد ينتج عنه شعور بالإرهاق، بغض النظر عن الإيجابيات الناتجة عنه.
الجدير بالذكر، أنّ دراسة أجريت عام 2014 لباحثين ألمان، بيّنت أن التأخير في التواصل الهاتفي، أو ما يحصل في أنظمة المؤتمرات ـــــــ بسبب الرداءة في الاتصال، أو لأسباب تقنية متعدّدة ــــــــ تُشكّل وجهات نظرنا تجاه الأشخاص بشكل سلبي، وتجعل الناس ينظرون إلى المستجيب على أنه أقل ودية أو تركيزاً.
في مقلب آخر، تُشير الدراسات المتعلّقة بتبعات وجودنا أمام الكاميرا: إذ تعرف أنّ الجميع ينظرون إليك. وعلى المسرح، نحن على دراية تامة بمراقبتنا، بمراقبة أفعالنا وتصرّفاتنا، كما ردود أفعالنا، وسبل معالجتنا للأمور المتناولة، وطرق نقاشنا وطرح معرفتنا؛ لذلك يأتي الضغط الاجتماعي والشعور بأنّنا بحاجة إلى الأداء الأفضل. وعلينا أن نكون مؤثرين، أمر قد يكون محطّماً للأعصاب ومصدراً للتوتّر.
في سياق متصل، نطل على نتائج دراسات سابقة تناولت توقّعات الطلاّب عن هذا الاتجاه من التعليم الذي ساد منذ سنوات في أكثر من جامعة من العالم، لنجد أنّهم:
• يتوقعون أن يكون الأساتذة “تحت الطلب” طوال الوقت بما في ذلك عطلات نهاية الأسبوع.
• يشعرون بأن أعضاء هيئة التدريس مسؤولون عن تحفيزهم.
• يكتسبون أحياناً إحساسًا زائفًا بالإنجاز.
إضافة إلى ما ورد، تبيّن أنّ الطلاب يفتقرون إلى الانضباط خلال التعليم عبر الإنترنت.
طروحات واستنتاجات
نحن إذن أمام مؤشرات عن تبعات هذا النهج، وعن انعكاسه على تصرّفات الطلاب أنفسهم، وعلى كيفية تعاملهم مع الأمور التي تعترضهم، إضافة إلى مردوده على إنتاجيتهم، ونظرتهم وتعاملهم مع ما يحيط بهم من مستجدات وأحداث ترتبط بحياتهم، وعلى صعد متعدّدة.
في المقابل، يوفّر التعليم عبر الإنترنت عوامل أخرى تتمثّل برضا الطلاب، والراحة في التواصل مع معلّميهم، ويحقّق التفاعل والتعاون بين الطلاب أنفسهم؛ حيث يتم استخدام التفاعل والتواصل بين المشاركين في هذا الاتجاه من التعليم على نطاق واسع. ونتيجة لذلك يرشح تعلّم أكثر فاعلية بمستويات عالية من المرونة والاستقلالية في آن.
صحيح أنّ المتعلّمين يشعرون أحيانًا بنقص الدعم والطمأنينة، خصوصاً في اللحظات التي يكون فيها محتوى التعلّم أكثر صعوبة بالنسبة لهم، وهو ما يترك تبعاته عليهم في غير اتجاه؛ إلاّ أنّه في الوقت ذاته يعزّز لديهم التفكير الابتكاري، الذي ينعكس على:
• قدرتهم على التكيف وإدارة التعقيد.
• فضولهم ومستوى الإبداع والمجازفة.
• تنمية معرفتهم وأساليب المنطق السليم.
• تطوير التواصل الفعّال الذي يؤدي إلى مهارات العمل الجماعي والتعاون.
ولأنّ التأثير الاجتماعي هو التأثير الذي تحدثه الإجراءات المنظّمة على رفاهية المجتمع، أرى أنّه من الأهمية بمكان التوقّف عند ما يوفّره هذا النمط من التعليم، من التغلّب على بعض القيود المفروضة على مجموعات معينّة من الناس، عادة ما تكون مهمّشة، ومنهم كبار السن والأشخاصُ ذوو الإعاقة، ومن يعيش في أماكن نائية، وكذلك الأشخاص المُجبرون على العمل في أماكن لا تسمح لهم بمغادرتها للتعلّم.
ندرك جيّداً أنّ الفجوات التكنولوجية الموجودة بين الريف والحضر، والمسنين والشباب، والمعلمين والطلاب، وبين المتعلمين وغير المتعلمين، والعاملين والعاطلين عن العمل، والأفراد المهرة وغير المهرة في المجتمع، تنعكس عليهم جميعاً تردّدات هذا التعليم بمستويات مختلفة.
إلاّ أنّنا ندرك أيضاً أنّ هذا النوع من التعليم عن بعد، قد ساعد أيضاً الكثيرين على الاستفادة من التكنولوجيا، من خلال الجمع بين التعلّم والوظائف والمهام التي يشغلونها في آن واحد، متجاوزاً عائق الفضاء الجغرافي، ما أدّى إلى تحقيق دمج الناس من مختلف الفئات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
فمن بيئة فريدة وجزئية ومعقدّة لا يمكن للتعليم بشكل عام، بما في ذلك التعلّم عن بعد، أن يعمل على فرض التجانس بين المتعلّمين كما المعلّمين. لكنّه في الوقت ذاته يطال الأثر الاجتماعي الإيجابي للتعلّم القائم على التكنولوجيا، والهادف إلى تنمية الأفراد العاملين، مفعّلاً مبدأ “إمكانية التعلم مدى الحياة”.
في ظل هذا النظام من التعليم المنزلي العالمي الذي نعيش، سنشهد من دون شك بعض اللحظات الملهمة، وبعض اللحظات الغاضبة، وبعض اللحظات الممتعة وبعض اللحظات المحبطة وبعض من اللحظات التائهة التي تحاول لملمة أحاسيسها دون أن تلوي على شيء.
ما لا يمكننا إغفاله طبعاً، هو القلق الذي يسود حول هذا النوع من التعليم، بدءاً من الاعتقاد أنّه يزيل العنصر الاجتماعي والتفاعلي الذي يوفّره التعليم وجهاً لوجه. ويجعلنا نُدرك جيّداً، صعوبة مساعدة الآخرين على تعلّم شيء قد لا نفهمه بأنفسنا.
نتيجة لذلك، قد يؤدّي هذا النمط من التعليم إلى زيادة عدم المساواة في نمو رأس المال البشري للفئات المتضرّرة. ولكن، اسمحوا لي أن أقرع هنا جرس المنبّه بقوّة، لأقول، التعليم عن بعد لن يفاقم هذه المشكلة، بل سيسرّع في كشف آثارها وانعكاساتها بشكل جلي وواضح.
كثيرة هي الأسئلة التي تُطرح حول تقنيات التعليم عبر الإنترنت، أسئلة تطال أكثر من جانب على غير مستوى وفي أكثر من اتجاه، وهو أمر يستوجب البحوث حولها. فهل تقلّل التقنيات الرقمية، أو هل تهدم هذه التقنيات، المسافات التي تفصل الناس والمجتمعات فيما يخص الفرص التعلّمية، وهل يُمكن لهذه المسافات أن تكون أيضاً اجتماعية، واقتصادية، وثقافية، أو معرفية وفيزيولوجية، وضمن أي أُطر وسياقات؟ لا شك أن النتائج هي من ستحدّد الإجابة.