أدب وفن

قافلة النقد: مع نزار قباني بقلم أحمد السيد

قافلة النقد :
مع نزار قباني
بقلم : أحمد السيد

كتب إليّ أحدهم معاتبا : أنت تقوم بتلميع نزار قباني و السيّاب .
و هذا بحد ذاته وهم
فنزار قباني – شاﺀ من شاﺀ و أبى من أبى – ألمع شاعر عربي إلى الآن لا يشاركه هذه المكانة سوى المتنبي .

  • أسباب شهرة نزار :
    ه……………………….
    و من أسباب شهرة نزار ذكاؤه و موهبته المتفردة و ميله إلى المجاز و الصور القريبة إلى النفس و بعده عن المفردات و الأساليب العربية القديمة و إغراقه في موضوعين يستحوذان على إعجاب الناس الشديد و هما : الغزل و الشعر السياسي . و عبارته المموسقة حتى لتكاد أن تغنّي بين يديه قبل أن يلحّنها الملحنون و افتتان المطربين و الملحنين بشعره …
    فهذه عوامل نادرا ما يتأتّى بعضها لغيره .
    بل إن شهرة نزار بلغت حدا غير مسبوق .. ففي أحد مؤتمرات القمة العربية دعي شاعرنا لإلقاﺀ شيﺀ من شعره في الزعماﺀ العرب .. و توقع كثيرون أن يرد نزار هذا الجميل بامتداح مستمعيه المميزين
    و لكنه نزار
    فاقرأ قصيدته الشهيرة ( أنا يا صديقة متعب بعروبتي ) التي تركتها لك في التعليقات

و قد عرف شعر نزار و عانى من مقصّ الرقيب و تمّ منع شعره و بعض دواوينه في أكثر من مكان و ما زلت أذكر توجيهه كتابا مفتوحا إلى وزير إعلام في دولة عربية صغيرة حظرت ديوانا له إذ سأله نزار على صفحات مجلة الناقد اللندنية التي كان يصدرها الصحفي الشهير رياض نجيب الريس :

صديقي معالي الوزير الأستاذ طارق المؤيد
هل تعرف اسم وزير الإعلام الإنجليزي أيام شكسبير ؟

و وصل الأمر أن بعض الإذاعات العربية حظرت بث الأغاني التي كتبها نزار

و هذا المنع و الحظر و القص و الرقابة صب كله في ذيوع شعره و انتشاره
إذ كل ممنوع مرغوب

  • قالت لي السمراﺀ :
    درس نزار آقبيق ( و هذا هو اسمه أساسا ) الحقوق في جامعة دمشق و شارك – إذ كان طالبا جامعيا – في مسابقة شعرية لنيل جائزة عمر أبو ريشة .
    فاز بالجائزة صديق الشاعر طالب الطب آنذاك عبد السلام العجيلي
    و أظهر نزار عدم إعجابه بقصيدة صديقه الفائزة : أنا في انتظارك .

غيّر نزار – بذكاﺀ – اسم عائلته من آقبيق ( و تعني بالتركية : الشارب الأبيض ) إلى القباني ضاربا عصفورين بحجر واحد :

  • نفي شبهة العجمة عن أصل أسرته ( و هو في الحقيقة عربي شامي دون ريب )
  • و التيمّن بعمّ والده رائد المسرح العربي أبي خليل القباني .

و في العشرينيات من عمره عزم على إصدار ديوانه الأوّل ( قالت لي السمراﺀ )
فلم يقبل ناشر واحد أن يطبعه له و ينشره لأنه في رأيهم ( شاعر مغمور لن يلتفت إليه أحد )
و موّل نزار طباعة ثلاث مئة نسخة !!!
و هذه الحادثة التي أكتبها أرويها عن أستاذي الدمشقي الناقد الدكتور الراحل فهد عكام ( ت: 1999م )
و قام نزار بوضع كل نسخة في مغلّف رسالة بريدية و أرسل كل نسخة إلى أحد خطباﺀ مساجد دمشق
و مع النسخة رسالة كتبها نزار فحواها :

فضيلة الشيخ
هذا الشاعر المدعو نزار قباني يكتب هذه القصائد الغزلية الفاضحة مبتغيا إثارة الشباب و الصبايا و المراهقين و توجيههم نحو الحرام
فالمطلوب منكم تغيير هذا المنكر بألسنتكم
و تذكير المؤمنين يوم الجمعة لمنع أبنائهم من شراﺀ أو قراﺀة هذا الشعر المشبوه الفاتن المثير للشهوات !!!
التوقيع :
فاعل خير غيور على دينه و أمته

و هبّ الناس بعد صلاة الجمعة للبحث عن نسخة من هذا الديوان بدافع الفضول
و انتهز نزار الفرصة ففرض على الناشر شروطه و مرّ وقت يسير و ملأت النسخ البيوت ..

نام مغمورا
و استيقظ مشهورا

فلا تفعل ذلك مقلدا فلا يقلّد سوى القرد
فإن مثل هذا لن يجبر قصورك الشعري
لأن نزارا شاعر موهوب
و أما الشاعر الموهوم فأضعف من أن ينتشر بمثل هذه الألاعيب و لا غيرها

  • و ديوان ( قالت لي السمراﺀ ) قصائد غزلية لكن ختامها قصيدة مختلفة هي ( خبز و حشيش و قمر )
    فشعر الهمّ العام ليس طارئا في تجربة القباني
    بل إنه مكوّن أصيل في حياة نزار الإبداعية .
  • ناقش بعد ذلك مجلس النوّاب السوري صدور ديوان ( قالت لي السمراﺀ ) فطلب بعض النوّاب للتيقن من سرّ الحملة على هذا الشاب أن يسمعوا بعض قصائد الديوان
    و قرأ لهم الدكتور الفقيه السوري الراحل مصطفى الزرقا رحمه الله شيئا مما طلبوا قراﺀةً صحيحة فصيحة بصوت جمّل الشعر

و صفق النوّاب في ختام كل قصيدة قُرئت !!!

  • لماذا هذه الحملة ضد نزار قباني ؟
    ه………………………………
  • أولا لأنه شاعر المرأة
    و تولى ذلك الناقد الموسوعي الكبير عباس محمود العقاد الذي قال عن نزار :
    دعوه .. فقد دخل مخدع المرأة و لن يخرج منه !

و العقاد الذي عرف بالكتابة عن الشخصيات العبقرية هو واحد من عباقرة الأدب العربي
لكن هذا لا يعني أنه لم يخطئ
فنزار – شاعر الغزل الشهير – هو نزار صاحب قصائد الشعر السياسي القومي الوطني الحماسي ..
هو نزار ثلاثية الحجارة
و هو شاعر الحرية أيضا في كثير من قصائده التي أسهمت في تشكيل الوعي الحضاري العربي المعاصر
و في آخر حوار معه وصف الصراع العربي الصهيوني بأنه صراع وجود لا صراع حدود
و قال : لو طبّع كل العرب مع العدوّ الصهيوني لبقيت أكتب لفلسطين ضد هذا الكيان الغاصب !!

ثم إن الغزل ليس عيبا
فالشعر دون غزل شجرة جافة يابسة لا فائدة لها إلا في مواقد النار

و لذلك كان الشاعر العربي يستهل قصيدته أيا كان غرضها بالغزل
حتى ضاق المتنبي بذلك قائلا :

إذا كان مدحٌ فالنسيبُ المقدَّمُ
أ كلُّ فصيح قال شعرا متيَّمُ ؟!

و حين دخل كعب بن زهير المزني المسجد النبوي الشريف و مدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بلاميته الشهيرة:

بانت سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ
متيّمٌ إثرها لم يفد مكبول

ألم يستهل قصيدته تلك بغزل جسدي في حضرة خير الأنام عليه السلام ؟

ألم يكافئْه رسول الله عليه السلام بعباﺀته الشريفة ؟

  • الشعر التفعيلي
    ه…………………….
    و السبب الثاني لرفض بعض متلقي الشعر تجربة نزار قباني أنه أكثر من كتابة الشعر التفعيلي

و في الحقيقة كان العقّاد – نفسه – قد رفض الشعر التفعيلي و عدّه نثرا
بل حوّل القصائد المقدّمة إليه بصفته رئيسا للجنة الشعر إلى لجنة النثر

فهجاه أحد شعراﺀ التفعيلة و هو أحمد عبد المعطي حجازي جراﺀ ذلك

و أثبت الزمان أن الشعر التفعيلي شعر حقيقي دخل المناهج الدراسية و الجامعات العربية و له حضور عند متذوقي الشعر لا ينكره منصف

و نزار و السياب و نازك و درويش و سميح القاسم و فاروق جويدة و أحمد مطر و غيرهم شعراﺀ مبدعون لا ناثرون يتوهمون أنهم شعراﺀ

  • نزار و الدين :
    ه………………….
    و الإشكال الثالث أن قسما من الناس يقيس هذا الشاعر و غيره بمقياسه الشخصي و فهمه الذاتي للدين
    فيرى أنه ( شاعر ضال ) لا يستحق الاهتمام
    و هذا من كوارث التفكير
    و من سقم النظر
    و من أمراض بعض الناس

ففي الشعر و الفن – عموما – لا يمكن أن يكون الدين هو المقياس !!

هذا فهم القاضي الجرجاني في وساطته

فنحن في إطار الشعر نقرأ لامرئ القيس الوثني و للسموﺀل اليهودي و للأخطلين النصرانيين و لطاغور الهندوسي و لشوقي المسلم …. كما نقرأ لشكسبير و غوته و ماياكوفسكي و دعبل و المتنبي و المكزون السنجاري و سميح القاسم …
و في كل ذلك لا نتذوق شعرهم بمنظار العقائد و المذاهب
فهذا في عرف الشعر من ألوان الحماقة و ضعف البصر و البصيرة

أرأيت لو أنك اشتريت سيارة يابانية أكنت تصف تصميمها و جمالها و انسيابيتها بشيﺀ له علاقة بعقيدة المهندس الياباني البوذي مثلا ؟

ألا ترى أن هذا من السخف ؟

  • نزار شاعر الروائع :
    ه…………………………
    لا أزعم أن القباني شاعر فوق النقد .. بل إن للنقد في شعره عملا كبيرا
    لكنه ليس كأمثال شويعري الفايسبوك الذين إن كتبوا أربعة أبيات اقترفوا كل الموبقات !!!
    و للذين لا يعجبهم سوى النموذج الخليلي في شكل القصيدة العربية اخترت لنزار عدة قصائد تجدها في التعليقات إحداها رثاؤه لطه حسين ( سارق النار ) و الأخرى عن دمشق ( من مفكرة عاشق دمشقي ) و الثالثة قالها في بغداد ( إفادة في محكمة الشعر ) و غيرها .

و في تراثنا العربي عرف شعراﺀ بقصيدة واحدة كاليتيمة المنسوبة لدوقلة المنبجي
في حين ترك نزار عشرات القصائد على نظام الخليل تميزت بالروعة و التفوق و مع ذلك يلوي التقليديون وجوههم عن نزار امتعاضا و تأففا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى