أدب وفن

الرَّائدُ العِصَاميُّ الشَّيخ أَحمَد عَبَّاس الأَزْهَرِيّ (1853-1927) (الحلقة الأولى) ما قبل الولادة

حِكايَةٌ عن مرحلةٍ وأجيالٍ ولَيْسَت أبَداً حِكايَةً عَن شَخصٍ

الدكتور وجيه فانوس

الشيخ أحمد عباس الأزهري

تمهيد:

إنَّ المصدرَ الوحيدَ المتوافِر، حتَّى اليوم، عن سيرة الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، هو نَصٌّ أَثْبَتَهُ الشَّيخ «مُحمَّد رشيد رضا»، في مجموعة «مجلَّة المنار»، المجلَّد رقم (28) ذو الحجَّة – 1345هـ/ 1927م. بعنوان «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري البيروتِيّ وفاتُه وترجمته»؛ وذلك نَقْلاً عن خِطابٍ ألقاهُ الأستاذ «عبد الباسِط فتح الله» (1871-1928)، في الاحتفال الذَّهبي التَّكريمي الذي أقيم سنة 1926، في مدينة بيروت للشَّيخ «الأزهري»؛ لمناسبة مرور خمسين سنة على اشتغاله بالتَّعليم؛ وقد صاحبَ هذا الاحتفالُ رَفْعُ صورة الشَّيخ، في قاعة «المكتبة الوطنيَّة في بيروت».
كان الأستاذ «عبد الباسِط فتح الله» تلميذَ «الأزهري» ومرافقه ومساعِدُهُ طيلةَ سنواتٍ؛ وقد أخذ عن هذا المصدر، كلُّ من تناول سيرة «الأَزْهَرِيِّ»، بقليلٍ أو كثيرٍ؛ ويُمْكِنُ التَّرجيحُ أنَّ المادَّةَ المعرِفِيَّة في الخِطاب، وخاصَّة في ما تُشير إليهِ من تفاصِيلٍ لأحداثٍ وأمورٍ تعود إلى مراحل مِنْ طُفولةِ «الشَّيخ» وصِباه وشَبابه، مُسْتَلَّةٌ مِن ملاحظاتٍ وإشاراتٍ مَصْدَرُها الشَّيخُ «الأزهريُّ» شخصِيَّاً؛ خاصَّة وأنَّ الأستاذ «فتح الله»، كان يَصْغُرُ «الشَّيخ» بحوالي عِشْرين سَنَةٍ.
انْحَصَرَ جهدي، هَهُنا، في وَضْعِ هذه السِّيرة، للشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأَزْهَريِّ»، بالعَمَلِ على تَوْثِيقِ المادَّةِ المَعرِفِيَّةِ التي قدَّمَها الأُستاذ «فتح الله» وتَحْقِيقِها، والإضافةِ المُوَسَّعَةِ والمُوَثَّقِة، إلى كَثيرٍ مِن مَضامِينها وخَلفيَّاتِها؛ وتالِيَاً، تَحْليلِ المُتَحَصِّلِ مِنْ كُلِّ هذا، بِما قد يُؤَمِّنُ مَزيداً من الضَّوء والوضوحِ على سِيرَةِ «الشَّيخ»، من جهة، والبِيئتين الاجْتِماعِيَّةِ والثقافيَّةِ حَيْثُ عاشَ وتَفاعَل، مِن جِهَةٍ أُخرى.
انْمازَت مَسِيرَةُ حياةِ «الشَّيخ أَحمَد عَبَّاس الأَزْهَرِيّ»، بعاملين أساسَين؛ انتظما، فيما بينهما، معظم إنْ لَمْ يَكُنْ كلَّ مسيرة حياته. يتمثَّل العامل الأوَّل، بما يمكن تسميته «الحدث العام»؛ وقد يكون «حدثاً» ذا طابعٍ إيجابيٍّ أو سلبيٍّ، بالنِّسبة إلى «الشَّيخ». ويَتَجلَّى العاملُ الثَّاني، في «مواجهةِ الحَدَثِ»، مِن قِبَلِ «الشَّيخِ»، والإفادةِ القصوى منهُ؛ بوضوحِ الرُّؤيا الشَّخصيَّة والتَّصميم المُصرِّ على تحقيق هذه الرُّؤيا. يُشيرُ واقعُ الحالِ، أنَّ ما مِن أمرٍ واجَهَهُ «الشَّيخ أحمَد عبَّاس الأزهري»، مُنذ يَناعَةِ طفولته وحتَّى وَهَنِ شَيْخُوخَتِهِ، إلاَّ وتمكَّن من استخدامِه لصالحِ رؤياه الفِكْرِيَّة والعِلِمِيَّة والثَّقافيَّة الاجتماعيَّة؛ ساعِياً، بتصميمٍ مُكِدٍّ وإصرارٍ عنيدٍ، إلى تحقيق هذه الرُّؤيا، بمثابرة السَّير في رحابِ الحَدَثِ والإفادةِ من إيجابيَّاتِهِ، وتَحَدِّي سلبيَّاته، مِن ثَمَّ، بتحويلها إلى إيجابيَّات.
تشكَّلت أحداثُ حياةِ «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، ضمن لوحةِ وجودٍ إنسانيٍّ رحبةِ الانفتاحِ على الآخرِ، أكان آخراً مناطقيَّاً أو دينيَّاً أو اجتماعِيَّاً؛ لكن هذا الانفتاح، ما كان له أن يكون مُساهِماً في تحقيق ما يراه «الشَّيخُ»، لولا التمسُّكِ الفّذِّ بجوهر الوجودِ الذَّاتيِّ لـ «الشَّيخ»؛ وهو الجوهرُ المنبثقِ، كذلك، مِن وضوحِ رؤياه الشَّخصيَّة ومن تصميمه المُصرِّ، وباستمرارٍ وعنادٍ، على تحقيق هذه الرُّؤيا.
تبدأ مطالع حكاية «الشَّيخ أحمد عبَّاس الأزهري»، قبل ولادته بثلاث وعشرين سنة؛ إذ تنفتحُ ستارتها على «إبراهيم باشا»، ابن خديوي مصر «محمد علي باشا»، يوم انطلق في حملته على بلاد الشَّام سنة 1831؛ وتمكَّن خلال هذه الحملة، من إنفاذٍ للحُكمِ المصريِّ على مناطِقِ «جَبَلِ لُبنان» و«بيروت»؛ غير أنَّه، ولأسبابٍ عديدةٍ معروفةٍ في غالِبِها، أضطُرَّ إلى انهاء هذه الحملة، سنة 1840؛ ومغادرة البلاد؛ مُخْتَتِماً حكمه فيها، في أواسط شهر كانون الأوَّل من سنة 1840. (محمد فريد: 468).
تَلُوحُ بعضُ ملامحِ حكايةِ «الشَّيخ» عِنْدِ واقعٍ أوَّلٍ، كان بمثابةِ نَثْر بذورِ ما سيكوِّنُ الخيوطَ الأوَّلِيَّة لمنطلق نَسْجِ هذه الحكاية؛ إذ يُقرِّرُ عددٌ لا بأس به من الجُند، الذين كانوا مع «إبراهيم باشا»، في الحملة المصريَّة على بلاد الشَّام، أن لا يرجعوا معه إلى مصر أو سائر البلدان الأخرى التي قدموا منها. صَمَّمَ هؤلاء على البقاء حيثُ كانوا يخدمون عسكريَّتهم؛ أكانت هذه الخدمة في «بيروت» أو في «جبل لبنان». ولمَّا كان من تقاليد الجيش، وكثيرٍ منَ النَّاسِ، زمنذاك، أن يُنْسَبَ الجنديُّ خاصَّةً، أو الشَّخصُ العاديّ عامَّةً، إلى مدينته أو بلدته؛ فإنَّ أسماءَ عائلاتٍ مثل «الجيزي» و»المصري» و«الدُّسوقي» و«الاسكندراني» و«الدِّمياطي» وسواها، المنتشرةِ حتَّى اليوم في «بيروت» وبعض المُدن والبلدات في لبنان، تَشْهَدُ لهذا الأمرِ وتؤيِّده.
كانَ «عبَّاس سُليمان»، وهو أحد هؤلاء الجنود المصريين الذين آثروا البقاء في مدينةِ «بيروت»؛ وهو، في الوقتِ عينهِ، ما سيكوِّنُ الأمرَ الواقعَ الثَّاني مِن بذورِ حكاية «الشَّيخ»؛ إذ يبدو أنَّ المناخ قد طابَ لعبَّاس سليمان في هذه المدينة؛ خاصَّة أنَّ «بيروت» بدأت، إثر الحُكم المِصريَّ فيها، تَتَحَوَّلُ مِن مدينةٍ قديمةٍ محصورةٍ داخلَ سورِها العتيق، إلى مدينةٍ مُتَطَوِّرةٍ تَنْهَدُ بثباتٍ إلى خوضِ مساراتِ الحداثة. لقد أنشئ فيها، إبَّان حُكْمِ إبراهيم باشا، مجلسُ الشّورى والمحاكمُ المَدَنِيَّة وديوان التِّجارة والمَحْجَرِ الصّحيّ، كما ازدهرَ فيها المرفأ، واشتد العملُ على توسعةِ «حرج الصَّنوبَرِ» القائم عند مدخلها الجنوبي (الغول، بيروت خلال حكم محمد علي باشا). 
مِن جِهَةٍ أُخرى، يبدو، أنَّهُ لمَّا لم يُبْدِ إبراهيم باشا اهتماماً بتحصينِ «سُورِ بيروت» القديم، أو حتَّى ترميمه؛ فكأنَّ هذا الأمر ألغى، عند بعضِ «البيارتة» آنذاك، مفهومَ «المدينة المُغْلَقَةِ داخِلَ سورٍ تَتَقَوْقَعُ ضمنهُ؛ فَشَرَعَ القومُ يتعاملونَ مع «بيروت»، بمفهومِ «المدينة المنفتِحة» على ما يُحيطُ بها وبناسِها من مناطق وأوضاع. وكأنَّ إهمال أمرِ السُّور، ساعدَ على تحفيزِ النَّاس للسُّكنى خارجه؛ فتمدَّدت مساكنُ بعض «البيارتة» إلى ما هو أبعد مِن موقعِ السُورِ، وبدأ إقبالٌ واعدٌ على السُّكنى في المناطق المحيطةِ بـ «بيروت ذاتِ السُّور»، مثل «رأسِ النَّبعِ» و«الباشورة» و«البسطَّة» و«المصيطبة» و«برج أبي حيدر»، وسِوى ذلك من المساحات، التي كانت، في معظمها، مجرَّد بساتين أو مزارع محيطة بالمدينة.

وكانَ أنْ تزوَّج الجُندي المصريُّ «عبَّاس سُليمان»، المُسْتَقِرّ في «بيروت»، في هذه المرحلة، بفتاةً مِن أُسرةِ «الشَّامي»؛ وأقامَ معها في واحدةٍ من المناطقِ المُسْتَحْدَثَةِ للسَّكن، وهي «البَسْطَة الفَوْقا». ما لَبِثَ أَنْ رُزِقَ الزَّوجان عدَّة أولاد؛ كانَ منهم صَبِيٌّ، وُلِدَ لهما سنة 1853؛ بَعْدَ ثلاثَ عشرةَ سنةٍ مِنْ بِدءْ استقرارِ والدِهِ، الجُنْدِيِّ المصريِّ، في بيروت، وأسميَاهُ «أَحْمَد»؛ فهوَ «أحمد عبَّاس سُلَيْمان».
(وإلى اللِّقاء مع الحلقة التَّالية: الدِّراسة في بيروت)

المراجع:
– محمد فريد بك المحامي، تاريخ الدولة العليا العثمانية، دار النفائس، بيروت، 1981.
– زكريا الغول، بيروت خلال حكم محمد علي باشا، جريدة «اللِّواء»، 11 تشرين الأول 2019.
——————–
 رئيس المركز الثقافي الإسلامي

  • نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى