أدب وفن

سكون القلم / قصة قصيرة/ بقلم الشاعر و القاصّ زين الدين ديب

سكون القلم


كان يمشي لا وعياً ولا هرباً , هائما يقطع الوقت ويحتطب الألم , تائها حتى عن ذاته , هو يعرف مساربها القديمة وأسماء الشواهد وحتى ملامح الأحجار المغروسة في دروب الذاكرة.
كان يدندن بما يشبه اللحن , وكانت تحوم على مخيلته كنحلة أضاعت القفير ،وتاهت في شقوق الزهور , كلما دخلت يطبق جفنيه ليقتطف اللحظة , كلما لامست الرحيق يحس بالوجع , كلما رفرفت تشبث بالهواء حتى لا يحملها إلى خمائل السيسبان المزهر على تخوم الحلم .
كانت حلمه قبل أن تتكون الأنثى بداخله , كانت تقاسيمها جزءاً من رسوماته الأولى حين تعلم كيف يتهجأ امرأة … كان قلمه بلا مداد , حين خط أول سطر في صفحة أنثى , وفي سكون القلم على السطور المهيأة , نقش أول لوحة له بلا تقاسيم , وكم كانت دهشته كبيرة , حين احتلت ملامحها سطور الحكاية.
هي لا تعرف بعد أنه رآها وقت التكوين وقرأ الكتاب المسير لحياتها ونبضها، و قرأ كل ذلك قبل أن تتجسد أمامه من طين وشهوات.
قرأ مرة أنها تتقشر على غلاف الحاجة , فأعطاها حتى فاضت ينابيعها وارتوت آبارها بالعذب من الحياة والنشوة والسعادة , وعلى هامش الصفحة كان مكتوباً أنها ستعود للإستجداء من أبوابها القديمة.
بالأمس عادت من منفاها , وعلى كتف وعد هارب تلاقيا , أسرّت له أنها كانت في مرعى غزلان تعرفها من زمن , تحيّر , لأن لا عِشب هناك ،ولا أزاهير، ولا سهول قمح ،ولا مغارة على كتف وادٍ، ولا كلمات أسرى تحررها , لتخط أمثولة إبداع ،أو معزوفة نجوى.
أحسّ أن جوعها القديم عاود الصراخ , وأن العشق الأخرس يومئ للعودة إلى منابت القطاف المتهور.
على بيادر الماضي عادت تتأرجح بأغصان لم تلفظ النسغ الأخير , عادت لتروي بالزيت أيقوناتها المعتقة على جدران ذاك المعبد القديم.
إن تك ذبلت الأزاهير فيها , فالجذور تحييها قطرات الماضي , وذاك القنديل المعلق على صفصافه العودة لم يشح نوره , به قبس من رجوله تحاول التشبث بأهداب العطاء , يغري المتسكعين من عسس الانتقام.
ها هي ترتمي بكيانها على دفء ذراعيه …
ها هي تغتصب أنفاسه ولفتاته وبريق عينيه …..
ها هي تسل زهوته تداعبها , تدغدغها برموش نعسه, تهدهدها بأنامل واثقة , تبث نسغ الشهوة في مفاتنه دون أدنى رعشة إحساس في عينيها ،أو دهشة على لسانها, أو إتساع لمفارق حاجبيها, أو حتى انتفاضة بسيطة لأصغر مفاتنها.
أحس أنها انثى ارتوت من فيض عزيز ….
أحس أنها إمرأة نالت وطرها من عصف بديل….
أحس أنها كون مطفأ من غيوم غابرة ،مثقل بنشوة عابرة , تحمي مواتاً آنياً, وتستر فوضى إحساس مكهرب المعاني , ملحاح النشوة , مستذئب الشهوة.
لم تكن على طبيعتها الأنثوية , كانت مرمّدة الرغبة !هكذا وشت بها مسامها , وقال ضياعها ما لم تقله عيناها….
أحس أنها مثقلة بأريج تكامل , معطرة برحيق رضى , مفعمة بطيوب إنتشاء , ومبللة بهطول وافر.
إنه يعرفها ….!
يعرف أنها متهورة, جريئة , لا تخشى التجربة ولو على مدى الخطر …
إنها على خط النار الأزلي , لواقطها سجلت إشارات نداء قديمة الترحال في فضاءات الدعوة المستمرة البث , وإستشعاراتها لا تفوت كبيرة أو صغيرة, وصفحاتها البيضاء تحتاج مجسات للنقش والتسجيل , آثرت التماهي مع البث الطويل , وأهدت مفارقها ليكتمل المشهد على هامش صفحاتها المرصودة بأيقونات الوعد المقدس.
كم يشبه اليوم الأمس …
كم هي سافرة دعسات العمر على رمال النشوة العابرة .
هو لا يعرف ماذا تريد ؟!
هو لا يدري كم إسود من جدرانها بعد الحرائق الأخيرة ؟!
هو لا يستبعد أبداً أن تلجأ إلى خشبة خلاص تعلق عليها ستراتها المبللة من دمعها المالح.
هو يعرف أن المسرف يلجأ دائماً إلى دفاتره القديمة ليغوص في حساباتها السرية تعويضاً عن خسارات وهمية أو ربح غير أكيد.
هو يعرف أيضاً أن مراكبها تتسع دائماً لبحارة ملّت التشرد وأضناها السفر تبحث عن مرافىء غامت في النسيان….
هو يدرك أن مرفأها الدافئ الهادىء, يحن إليه كل من تذوق السكينة في الركون، وابيضت أشرعته من خطوط العمر وعمق التجارب.
حن إلى البحر , وعلى رماله المتفككة كحياتها , أخذ يجمع بعض الحبيبات ويضعها في كفه . فتتشكل منها نقاسيم يعرفها , كاد أن يدع الماء يتذوق جسده المشتعل, لكن الأفق أهداه رسوماً أبتدعها إمتزاج الغيوم مع أشعة المغيب, وكانت الزرقة تخطف ومضة ريح لتظهر أبهتها وجلالة نفسها ،ذكرته هذه التفاعلات بلوحاتها المبدعة التي علقها على مفارق عمره منذ الهبوط الأول لكيانها في مداره, كانت متعددة ألإنتماء , لا تستقر على مدرج , شبقها القديم لا ترويه مدارات الجهات الأربع.
كاد الظلام أن يبتلع معالم المكان ….
كادت أن تهطل عليه من شقوق الأفق…
هي سنونوة في ترحالها وهجرتها بين الماضي والحاضر , ربيعها يزهر حيث تسكب أمطارها….
هي خفيفة القامة يحملها قوام تتكئ عليه فخداها حين يلدغهما منقار وردي يربض على حافة عش تشتهيه الطيور المهاجرة.
بالأمس هاجرت إلى معالم كادت أن تدرس من ماضيها ….
عادت مثقلة بالجنى والرضى والتحدي .
تحدّت واقعها واتحدت مع نفسها بعد أن هجرتها وركنت إليه منذ ربع قرن.
عاد يسأل نفسه عن ماهية تلك الموءودة في رمال نفسه المحلقة, هي غضب مسنن اللحظات , وأفعى سمها ترياق , ونعومتها مهالك , ولونها مقبرة السنين وعيناها فخّان لا ينجو منهما إلاّ من أثقلته التجربة وناداه الرمق الأخير: “اذا مررت باختها فحد … “.
لن يلتفت إلى الخصوصية, فالمشاع أقرب للراحة، وتعدد المرافىء يَنهي مأساة الحمل الثقيل.
اذهبي !! فالشباب مثقل بالتجربة , والعمر لم يعد فيه فسحات للعتب.
اذهبي !! …..
شباب الأمس على مفارق الغفلة , تقتنص اللحظات , تشد أوتارها الواهية وتتوكأ على ألسنتها, لأن الكلام الأخير هو ثمرة شجرة الحياة . إن بعض الألسنة أمضى من عصا موسى, وأن الشهقة لحظة إنبلاح اليم من معجزات كهنة المفارق على رصيف الماضي.
ليس بوسعه سوى طلاء الجدران , فالنقوش لا يخفيها سوى اللون القاتم.
أعد العدة وسافر في ثنايا الإنتظار.
ها هو الآن يكتب باللون القاتم , وترجوه الأوراق ألاّ يغادر. …لكنه يغادر.


*مختارة من مجموعة قصصية للكاتب -22- 01 – 2011

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى