العالم الإفتراضيّ و تأمُّل النصّ الشعريّ
” العالم الافتراضيّ وتأمُّل النصّ الشعريّ “
{ ليس من ديدَني أن أُدوِّنَ الحلول ، أو أُقدِّم نضيجَ إجاباتٍ برسم العنوان ، وإنّما هي
شرنقةُ تساؤلاتٍ تحملُ دعوةً لنسج الحرير الثقافيّ ، وجيناتِ البحث الهادف ، وهُرموناتِ السعيّ الدّؤوب ، للوقوف وقفةً تأمّليّة على إشكاليّة النصّ الشّعريّ وجَودة مُنتجه الإبداعيّ في ظلّ سطوة العوالم الافتراضيَّة وسيطرتها على فواصل الحياة الثقافيّة ومفاصلها .
وكأنّه النّزوع ، مع سبق الإصرار ، إلى واقعٍ موسومٍ بوسميِّ المواسم الآخذ بتلابيب آليّات الكتابة ومجامع الحَراك الثّقافي بمختلف تلاوينه ، نحو الطّوفان وحكائيّته القادمة.
بالطّبع لقد تغيّرت مُعطيات الكتابة ، وانفلتت القصيدة من حِجر هالتها وهيبتها ، ومن سكينة طُقوسها الصَّومعيَّة ، إلى قُزَحيَّة الفضاءات ، واصطخاب احتفاليّاتها وضجيج كرنفالاتها ، وأصبحت منصّات التّواصل مَشاعًا شعشعتْ فيه مختلف التجارب الشّعريّة والمواهب الخبيئة ، بغضّ النّظر عن نوعيّة المُنتَج وقيمته الإبداعيّة وصِدقيّة الموهبة ، وازداد الإيمان بأحقيّة المشاركة وحُريّة التعبير في عالمٍ ودَّعَ ما فُطِم عليه من فرادة الكلمة ونُخبويّة روّادها ، وتخلّى عن القصائد المُجَمْركة بأعلى رُسوم الجماليّات ، ليُصبحَ مُتاحًا بتوعُّك الكتابات لكلّ الأطياف الأدبيّة ، ومُباحًا بالقصائد المُفبركة لكلّ الأوساط الشّعريّة ، فتصادمت الرّؤى واختلفت المعايير وأصبحت المنابر المفتوحة للهواة وعاءً لأجناس شعريّةٍ هجينةٍ تغشّت بسُخامها المشهدَ الشّعري واستذأبت على الكتابات الاحترافيّة الأصيلة ، وزاحمتها في كلّ الميادين الافتراضيّة .
إنّ عشوائية الكتابات في العالم الافتراضي انسحبت دون شكّ بظلالها ودلالاتها على الواقع ، ونفذت إلى أعماق حقيقته ، وامتطت صهوة الحياة اليومية ، وذلَّلت عقَبَتَهُ الكأداء ، وأطلقت لأطيافها العنان في التفاصيل المجتمعيّة الصغيرة ، والحقّ ـ وبالرّغم من تغوُّل الوسائط الالكترونيّة الحديثة ، وما عنكب في شبكاتها من سرقات وخيانات أدبيّة ، وما تحمله سُيولها من غُثاء المُنتَج ، وتوغّلها الحثيث في البيئة الشّعرية ومُعتركاتها الفنيّة ـ فإنّه لا مناص لنا من غِواية العصرنة وفتنة الذكاء الاصطناعيّ ومواكبة عجلة التطوّر وسيرورة التقدُّم ، وإلّا فاتنا قطار الافتتان ببريق اللَّحظة الشّعريّة وعبيق وميضها .
لقد تحرَّرت القصيدة في العالم الافتراضيّ من أسر القوالب الفنيّة والمفاهيم الشّعريّة المُتعارف عليها والتي تُشكّل مرجعيّةً مُتأصّلة ، وأضحت إحدى أهمّ لوازم الحياة اليوميّة ، فانتخبت مفرداتها الخاصّة ، وتداولت على مزاجها أُنموذجها الفنيّ ، وإيقاعاتها المتحرّرة من أيّ التزام ، والمُنعتقة من كُلّ عُرفٍ ونظام ، واعتبرها الكثيرون مرآةً صادقة لتطلّعاتهم وخيباتهم ، فتنفسّوا هواءها ، وأدمنوا عشقها ، وعلى خفقانها خفقت قلوبهم ، تلك علاقاتٌ شعريّةٌ جديدةٌ لها طابَعها الخاصّ ، وبلا توازنٍ واتّزان ، أوقعت القصيدة بين مطرقة الخِذلان وسندان الإتقان ، وليس هُناك من مَلمحٍ واضحٍ نتيجة هذا التبايُن والاصطراع يلوح في الأُفق ، لكنّ هذه العلائق تعكس ببساطةٍ الصورة الجليّة لطغيان العالم الافتراضيّ على المسيرة الشّعريّة ، وتشي بواقع القصيدة ومسارها المُستقبليّ .
ولا أعتقدُ أنّ الشِّعرَ سيتخلّى يومًا عن فِطرته وطبيعته ، ويرتضي الاستسلام لغائلة العوالق الحاسوبية وخشخاش كتاباتها بيُسرٍ وسُهولة ، فهو وإن تعالق مع الذّكاء التّقنيّ وتماهى معه ، فذاك لكونه السبّاق لخلع جلده وتجديد لبوسه ، إلّا أنّه ، وفي الوقت نفسه ، يأنف الرُّضوخ لكتاباتٍ لقيطةٍ صعَّرت خدّها وهي القاصرة عن الوصول إلى نُبوغ الفِطرة ، وتفتقد أدنى أدوات التعبير المُوحي ، وتفتقر إلى أبسط فنّيات الخَلق الشّعريّ ، وبعيدةٍ كلّ البعد عن الإسهام في المُقاربات الإبداعيّة .
فهل تستطيع القصيدة الصّمود بمنظومة قيمها وإرث تاريخها وقدرتها الهائلة على التغيير والانفتاح والتجدُّد أمام طوفان التكنولوجيا ورياح العوالم الافتراضيّة ، وفِخاخ شعبويّتها الشِّعرية ، وانتفاخ مُنتدياتها ، وطاووسيّة مُرتاديها ؟! وهل ما تزال القصيدة قادرةً على حبك مشهديّتها ، واستمالة الوجدان ، وسبك سبائكها تحت الشّمس وفي الهواء الطّلق في ظل تنمّر الأجهزة الذّكيّة والشاشات المرئية على مناحي الحياة الإبداعيّة ، وفرض طابَعها الثقافيّ وفق أدبيّات الوسائط التواصليّة الحديثة ؟! ..
هذه العوالم الحديثة لم يعُد بالمقدور الاستغناء عنها ، أو القفز ببهلوانيّةٍ من فوق أفلاكها ، وهي التي حملت في طيّات أعتامِها جوانبَ مُضيئةً من نتاجاتٍ إبداعيّةٍ ما كُنّا من قبلُ لنستطيعَ الولوجَ إلى جماليّاتها أو الاستلهام من شُعلتها ، أو الاهتداء بفوح رؤاها ، وهي التي أماطت اللِّثام أيضًا عن العديد من الشّعراء والكُتّاب المبدعين بل والمُحلِّقين في آفاق الدهشة .
إنّها الحاجة الماسّة للتّعاطي مع فضاءات الأدب التفاعليّ المُتحرِّرة من سطوة النُّظُم ومِقصّ الرّقيب وقسوة ضبطه وتحكُّمه ، ومع ما يُشكّله وجهُها الإيجابيّ من كُوى استشرافيّة تطلّ على مستقبل القصيدة ، وتُؤسّس لأدبيّات التعبير والبوح والتواصل والحوار في ظلّ انقطاع الأواصر الفكريّة وانهدام جسور التواصل المعرفيّة بين المؤسسات الثقافية في الوطن العربي ، وفقدان الحميميّة والألفة بين الثالوث الثّقافيّ ، المُتلقّي ـ المبدع ـ والنصّ الشّعري ، والحقّ تلك حاجةٌ لا غنىً عنها في خِضَمّ واقعٍ مرصودٍ بالصِّراعات ، موصودٍ على الطَّوطميّات المُقدّسة والتابوهات المُحرّمة ، مشدودٍ للرّدة على مُريديه حتّى النُّخاع .
من هُنا يتأتّى دورُ الشُّعراءِ في الدِّفاع عن الكلمةِ وسيرورتها الإبداعيّة وقُدرتها التّفاعُليّة وصون تاريخها المُضيء عبر تشجيع بواعث النتاجات الشّعرية وعدم الانجرار وراء بهرجة الأضواء الخُلّبيّة وجمهرة خطاباتها النّمطيّة ، ومن خلال توظيف الرّؤى النّاقدة والمواقف الأدبيّة البنّاءة والمُكاشفات الجريئة ، للحفاظ على الهويّة الشّعريّة وسُموّ مكانتها في الذاكرة الإنسانيّة ، والحقّ إنّه لدورٌ تناظُريٌّ خطير بسبب التناقض الجوهريّ والعلاقة المُلتبسة بين هذه الفضاءات الافتراضيّة بماديّة عوالمها التّقنيّة ، وسعيها الدّؤوب إلى بلورة صورةٍ صحّيةٍ لبيئةٍ شعريةٍ تنطوي على أمداء شاسعة من رهافة المشاعر ورقّة الأحاسيس ، فثمّة فروقات هائلة وبونٌ شاسع بين غُرور التقنيات الحديثة وعنجهيّتها ونظرتها الاستعلائيّة ، ومعماريّة القصيدة الجماليّة وما تنطوي عليه من عوالم روحانيّة صوفيّة ، لعمري ذاك دورٌ فيه الكثير من الحساسيّات الأدبيّة والرّهانات الدّقيقة ، يُناط بالمُثقّف ويجب أن يلعبه بجرأة كونه يُمثِّل الحدّ الفاصل والسُّور المنيع بين غوغائيّة الكتابات الشعرية وفرائد نتاجاتها المُلهمة .
على المُثقّف اليوم أن لا ينساق وراء الانطوائيّة وأن لا يتّسم بالرّؤية الحياديّة والمواقف الرّماديّة ، مُتذرِّعًا بحُجَجٍ واهيةٍ لينغلق على فضائه الخاصّ وسط زحمة الفضاءات واحتشاد عوالمها ، مُتسلِّحًا بمقولة نابليون ” أنا ومن بعديَ الطُّوفان ” ، فكما تحمّل المُثقّف مسؤولية الكلمة وهي من أنبل وأسمى المسؤوليات على مرّ الزّمن ، عليه بحكمته وعميق بصيرته أن يُجابه مكامن هواجسه ليكون قادرًا على التّحدي ومُواجهة مخاطر المرحلة وصُعوباتها بكلّ أمانةٍ ونزاهةٍ وعصاميّةٍ ونكرانٍ للذّات ، كما وعليه الذّود عن اللحظة الشّعرية بكلّ ضميرٍ وشجاعة ، فلا يندفع بأحلامه كثيرًا صوب هذه الفضاءات مُتأمِّلًا منها مواسم الجنى والحصاد ، ولا يُقاطعها ويتنكّر لها ويتّخذ منها موقفًا عدائيًّا ، وهي التي طالما ألهمته وألهبت مُخيّلته وحرّكت في أعماقه روح التحدّي لسيكولوجيّة كائناتها وتقلُّبات مسلكياتها الأدبيّة ، ودفعته إلى الكشف عن عظيم المُفارقات في حُقولها الفنيّة ، فمن سواهُ الأقدر على جذب الأقطاب الإبداعيّة مهما تباعدت ، والمُؤهّل لمُحاسبة الخارجين على كينونة الجماليّات الشّعريّة ، والمُتبصّر في تصويب المسارات وحياكة العُرى المُنقطعة في النسيج الثقافي .
من المُؤكَّد والحتميّ ، إنّ العوالم التقنية الحديثة وشبكاتها العنكبوتيّة أصبحت واقعًا ملموسًا لا فكاك منه ، وتجربة جديدة ضمن سياقات التجارب الإبداعيّة المُتنوّعة ، تخطّت الواقع وخطوطه الحمراء لتخطّ بواقعيّةٍ شديدة حضورها المُؤثّر في فضاءاتٍ مُطلقةٍ تجاوزت “الزمكانيّة ” بسُرعاتٍ موازية لسرعة الضّوء ، مُشكِّلةً ظاهرةً طبيعيّةً لها القدرة على تفجير الطاقات الخارقة التي مزّقت بدورها الأغشية التقليدية وأحدثت بفعل ارتداد تموّجاتها انقلابًا في البنية الثقافية عامّةً والشعريّة على وجه الخصوص .
في كيانات طُوباويّة غير منظورة يغلب عليها مناجاة الذات والتسليم بتعميات المُطلق وفرضيّاته ونوازعه وقُواه الخفيّة ، وأبعد ما تكون عن النقد والنّقض ، ينبري الشّاعر للاندماج والتّكامل مع مرآة مجلوّة لا تعكس سوى نُبوءة شاعريّته وقداسة رؤاه ، فيما يتوسّل الشِّعر سُبُلَ الفضاء الاحتماليّ عبر
تشفير رسائله التواصليّة مع بدائل مجتمعيّة يرى فيها عالمه المثاليّ وقصيدته البتول التي لم يطأ فضاءها سواه ، ولم يكتشف قارّتها إلّاه ، تلك هي المُفارقة بين الحقيقة والمِثال ، وتبقى مُشرَعةً على منصّةٍ سابحةٍ في المجرّة العنكبوتية ، إنّه التَّوق للعودة إلى الفردوس الشّعريّ المفقود ، والشّوق لإحياء الإرث الإبداعيّ ، واستنهاض الطاقات اللغويّة والتخييليّة ، وسط الكمّ الهائل من القصائد الاستهلاكيّة المُحلّقة في الفضاء الأزرق والعوالم الافتراضيّة .
هذا غيضٌ من فيض ، وقبسٌ من مشكاة أنواركم ، أحببت من ورائه استنطاق الظلال ، والإيماءة بالماء ، واستسقاء الغرق في عوالم لا ولن تنتهي جدليّة معالمها .}
الشاعر محمود صالح
بتاريخ 26 ـ 4 ـ 2020
نقلا عن مجلة “القوافي ”