الليلة العظيمة ، بطولة و خيانة … قصة قصيرة
د. طارق عبود
قصة قصيرة
الليلة العظيمة،بطولة وخيانة.
إلى حسن وشمس.
……………..
كانون الثاني1985
ليلةُ سبتٍ من شتاءاتِ الجنوب القارسة.
الساعة تشير إلى السادسة، الموعد يقترب.الليلة ستكون السهرة مميزة.
بعد قليل سيبدأ حفل المصارعة الحرة على تلفزيون الشرق الأوسط التابع للعميل انطوان لحد. ستفرغ شوارع الضيعة من العابرين. الجميع بانتظار الحدث الأسبوعي.
كنتُ قد بلغتُ من العمر أربعة عشر عامًا.في تلك الليلة كانت الأمسية عند جيراننا بيت أبي أحمد. وصلتُ مستعجلًا لأحجز مكانًا مناسبًا.. دخلتُ الدار، فتفاجأتُ بعدد من الأشخاص لا أعرفهم. كنتُ فتيًا، وخجلتُ من العودة سريعًا إلى بيتنا.
اتخذتُ مكانًا على الأريكة المقابلة للباب وللتلفاز.
بدأت حفلةُ المصارعة وبدأت أفركُ يديّ. كيري ڤان إيريك يبدأ بالاستدارة حول الحلبة. المعلّق يرفع صوته بالإنكليزية باثًّا الحماس في نفوس الجماهير والمشاهدين.
يبدأ المصارعون بالقتال. وقلبي تتسارع دقاته.
حسن، يخرج من الباب الحديدي الأبيض، يغيب قليلًا، يأتي دور رضا بالخروج.. أنا ما زلتُ مشغولاً بما يحدث على الحلبة. كريس آدامز ينقلب على آل ڤان إيريك، ويبدأ بالتصريح ضدهم. ويتوعّد ويزبد ويرعد، لم يفهم أحدٌ سبب هذا الانقلاب المفاجئ.
القرية أيضًا انقلبت ضد كريس البريطاني،المستعمِر الذي ارتدّ إلى أصله،وثمة أحدٌ، وكان ملمًّا في اللغة الإنكليزية، قال لنا معلومةً صادمة: ثمة قرابة بين آل آدامز وآل بلفور،وزير الخارجية الذي وعد اليهود بفلسطين. فتضاعف كرهنا لكريس الخائن،ولابن عمه بلفور.
وبدأت بعض النسوة بالدعاء عليه وعلى بريطانيا كلها من أساسها إلى رأسها.
إيمان، تطلب مني أكثر من مرة أن أغيّر مكاني اتقّاءً للبرد، لأني بمواجهة الباب، ولم أفهم الرسالة، وأنا مصرٌّ على أنني مرتاح في مقعدي.كنتُ منهمكًا في الدعاء لكيري وأخويه كيفن ومايك.
شمس، كان يقف في الغرفة الأخرى المفتوحة على الصالون، بلحيته السوداء وقميصه الأبيض، وبيده ريشته الملطخة بعشرات الألوان،كان مشغولًا برسم إحدى اللوحات،غير مكترث لما يحدث على الحلبة من عنف وخيانة وانقلابات، كان يلوّن قماشته البيضاء، يستمع إلى موسيقى كلاسيكية على إذاعة لبنان بانتظار نشرة الأخبار المسائية.
إلهام، تهتم بتكريم الضيوف، أسامة تذرع البرندا المطلّة على كرم الزيتون ذهابًا وإيابًا. جمانة تجلس على مقربة من الباب تتابع في عينيها حفل المصارعة،وفي قلبها شيئٌ آخر لم أكن أعلمه.
احتدمت الجولة، ومعها تسارعت مشاوير الشباب إلى الخارج والعودة بعد مدة زمنية.
استمرت هذه الحالة لأكثر من ساعة من الزمن.
الساعة تقترب من السابعة.ثمّة سباقٌ مع الزمن.. كيري فان إيريك على الحلبة،يرفع يده الى الأعلى داعيًا المتفرجين إلى مشاهدة قبضة يده المفتوحة على آخرها. الرجل يتحضّر لشيء كبير، يريد أن ينقضّ على الخصم، وإمساكه من جمجمته وتحطيمها. الجماهير تهتف بحناجرها وقبضاتها في المدرجات..المعلّق يصرخ رافعًا التحدي والحماسة إلى الحد الأقصى.
في تلك اللحظة المفصلية من عمر المباراة والاحتلال، تنتقل الكاميرا إلى ممر دخول اللاعبين، ثمة مصارع من المحور المعادي يتقدم، يصعد إلى المنصة، كيري منشغل بيده المرفوعة، لقد علم أهل لاس فيغاس جميعم، ومعهم أهل الجنوب، أنّ أحدهم سيغدرُ به، وهو ما زال مصرًّا على استعراض قبضة يده المفتوحة. آيس مان المخادع ينضم إلى آدامز ، ويهوي بالكرسي الحديدي على أم رأس كيري ڤان إيريك فيطيحه أرضًا. ويبدأ برقصته الشهيرة على الحلبة، والنجمة السداسية تتربع فوق صدره. يتقدّم الخائن كريس آدامز ويجثم على صدر كيري،والحكم الذي يشبه في حياده وبلاهته الأمم المتحدة، يعدّ للثلاثة. وتنتهي المباراة بهذا الشكل.
ونضيف إلى خساراتنا خسارة مدوّيةً أخرى.
ألملمُ نفسي،وأستأذنُ الحاضرين محبطًا، وأدعو لبيت أبي أحمد وزوارهم بصباح يملؤه الخير والأمل.وأنا في طريقي إلى البيت،لعنتُ الغش والمكرَ والتآمر،والحكم الذي كان شاهد زورٍ على هذه المظلمة التي وقعت ذات ليلة من ليالي الشتاء الحزينة.
استيقظتُ في صباح اليوم التالي شعرتُ أنّ شيئًا مزعجًا يجثم على صدري،ما زال ما حدث لبيت ڤان إيريك يعكّر مزاجي ومزاج القرية. ولكنني كنتُ متأكدًا أن لا بدّ للظلم من نهاية..
الساعة تشير إلى الثامنة والنصف. أمي مشغولةٌ بتحضير ما تيسّر من فطور لأسرتها. والدي ذهب منذ بعض الوقت إلى محله في الساحة العامة.
الشمسُ تسطع اليوم على غير عادتها،تستعرض جمالها في كانون، فكانت تشكّل إغراءً عجيبًا. والشجر المغتسل بالمطر الغزير في الأيام السابقة، ظهر وكأنه يرتدي ثيابًا خضرًا جديدة ولامعة، وكأنه يتهيّأ لحفلٍ عظيم.
التراب يزهو بخدوده وأخاديده الحمراء. ينام مرتاحًا تحت شجر التين والزيتون.
جلتُ ببصري إلى الحيّ، ثمة هدوء عجيب.
أجلس على حافة البرندا تاركًا قدمي تتحركان في الفراغ، واضعًا يدي على خدّي.
وإذ بانفجار رهيب يقذفني إلى الأرض. الحجارة والشظايا ولحوم الصهاينة تتطاير فوق الحارة.
وقفتُ مذهولًا مما حصل. أمي تركض إلى الخارج تلملم أولادها وتخبّئهم في المطبخ..
صحيح أننا اعتدنا في زمن القبضة الحديدية على موعد مع عملية للمقاومة معظم صباحات الأحد، ولكنها اليوم كانت أقرب مما تصورنا.
لحظات قليلة بعد الانفجار. سكون رهيب يلف الحارة. ننظر إلى بعضنا،ولا ننطق بكلمة. ثم يبدأ إطلاق النار في الهواء وفي كل اتجاه.
بعد أقل من دقيقة،ومن شباك المطبخ المطلّ على الشارع القريب. أسامة تركض نحو السيارة، تدير محرّك المرسيدس الأتش البيضاء،الشباب يصعدون وتنهب السيارة الأرض. أسامة تتوجه نحو الجبانة ومن ثم ناحية العين.ومن ثم إلى مكان ما.
إلهام،جمانة،وإيمان يفركن أيديهنّ،ويشرعن بالدعاء لوصول الشباب إلى خارج البلدة..
الأهالي يقفزون من الفرح، ومن الخوف، لقد علموا من دون إذاعة ولا إعلام أنّ المقاومين (والمقاومات) الأبطال نفّذوا عملية جديدة، ولكنهم لم يعلموا أنّ عملية “المحطة” أصابت مقتلًا عند الإسرائيليين.
يتتبّع جنود الاحتلال السلك الممتد من مكان العبوة إلى مكان التفجير،كانت المسافة حوالي مئة متر، لقد علموا من قام بالعملية، وأدركوا أنّ المكان الأقرب كان بيت أبي أحمد، وأنّ المنفذّين قد جهّزوا كلّ شيء في ليلة السبت الشهيرة. تلك الليلة التي خان كريس آدامز عائلة ڤان إيريك، وانقلب عليهم ذات شتاء.
جنود الاحتلال يعتقلون إيمان وجمانة، ويضعون الأسلاك في معصميهما، يصعدون الدرج من البيت المنخفض. في تلك اللحظة راجعتُ كلّ ما حدث معي الليلة السابقة، وضربتُ على جبيني، وخجلتُ من اهتمامي بالمصارعة، فيما كان غيري يحضّر لعملية بطولية أسهمت بشكل كبير في خروج الصهاينة مذلولين من الجنوب.
فلعنتُ آل أدامز وآل ڤان إيريك وآل بلفور والأمبراطورية البريطانية كلّها.
ينتهي شمس من إكمال اللوحة.
ثمّة شابةٌ جميلة تخبّىء البنادق على رأسها، تمسكُ وعاء الخبز الحديدي المغطى بالحطب والقش،في يد، وتمسكُ في الأخرى رسالة إلى حبيبها المعتقل.. تبشّره فيها .. أنّ اللقاءبينهما أصبح قريبًا.
……………………………..
**تحية إلى روح الفنان الصديق محمد شمس الدين.وإلى روح الشهيد حسن سرور.
وتحية إلى روح أبي أحمد غريب وأم أحمد. وتحية إلى الأبطال الذين ما زالوا بيننا اليوم، رضا وحسن. وإلى إلهام وأسامة وجمانة وإيمان..
طرح رائع كما عودتنا د. طارق..
بوركت ابها المبدع وبوركت جهودك المميزة..
دمت بحفظ الله ورعايته..
وكل الحب من آل غريب جميعا❤