شريف الشافعي
تنحو الشاعرة اللبنانية ليندا نصّار في تجربتها الإبداعية الممتدة عبر خمسة دواوين، أحدثها “الغرفة 23”، الصادر منذ أيام قليلة، صوب جنون في مسالك الكتابة وطقوسها، لا يستوعبه إلا الذي احترق طويلًا بنار المعنى.
هي صديقة العزلة الاختيارية منذ سنوات، تلك التي أطّرتها في ديوانها “لأني في عزلة”، قبل أن يَفرض العالَمُ عزلة إجبارية على سكّانه في الأشهر الماضية، ولم يمنع الحيّزُ الضيّقُ الشاعرةَ من أن تؤسس بالحروف فضاءً شاسعًا.
تكتب ليندا نصار قصائدها خوفًا من أن يفيض الحبر في دمها، ولتُخفّفَ ثقل الحياة بمقاومة الصمت الأخرس. القصيدة لديها سلطة مضادة، وبناء آخر لتمزّقات البشر، ومحاولة لترميم أحاسيس الوجود.
فيوضات العُزلة
تكتب لكي تنتفض من جديد وسط ركام الدمار والفقدان والعبث، مفجرة الغامض في داخل الإنسان، ليكون وسيطًا بينه وبين ما يمكن أن يكون عليه. تكتب لكي تكون فعلًا على قيد الحياة. وقد دأبت الشاعرة على أن تصاحب القيثارة أبجديتها ونبضاتها وإيقاعاتها، مازجة في تجربتها بين الشعر والموسيقى، إيمانًا منها بأن لغة الفنون هي تراسُلٌ حميم بين الحواس كلها.
في ديوانها “الغرفة 23 وقصائد أخرى”، الصادر حديثًا عن دار “خطوط وظلال” للنشر والتوزيع والترجمة في الأردن، تطمح نصار إلى دهشة جديدة، قوامها ليس فقط الإثبات، وإنما المحو كذلك، فهي تلتقط ما يجدر تكثيفه لتركز عليه، وتزيل من المشهد مساحات زائدة على الاحتياج.
ترفض الشاعرة ذلك التوحُّشَ الذي بات يحاصر الجميع، ويغتالهم روحيًّا ومعنويًّا قبل اصطيادهم وتصفيتهم جسديًّا، وتلوذ بغرفتها الآمنة، لتحيا على نحو مختلف، ولتصنع الحياة المطمئنة لمن يتقصّدونها وسط الألغام والأسلاك الشائكة، وعندئذٍ فثمة “أشجار تزاحم الظلال، وبحر يُقْبِلُ بسمفونيات،.. ونجوم تهدي ليلًا عاهرًا”.
ليندا نصار، شاعرة هشة، تتأذى قبل غيرها من ذلك الدخان السابق لنيرانه، وهو في الوقت ذاته بارود يشعل ألف قصيدة بركانية في الرئة، أما الحرب التي تطبق أجنحتها على كافة أوصال العالم، فتكفي تنهيدة واحدة منها لكي يغدو كل شيء رمادًا.
تلك الشفافية هي رهان الشاعرة الأول في سعيها إلى خلق قصيدة نثر مغايرة، تتصالح مع الهامشي والعابر واليومي في الالتقاط دون السقوط في فخ المجانية والتكرار على مستوى التكنيك الفني نفسه، وهكذا فقد تستجيب النوارس للنداء الخفي لدى صاحبة: “اعترافات مجنونة”، و“إيقاعات متمرّدة”، و“طيف بلا ظلّ”.
“أيّها الشبح المقيم في أضلعي: هي أماكن فارغة، صور وحيدة، عزلة كثيفة، سماء تلوح لبحار عالية”، تلك بعض تخييلات الشاعرة في أوراق “الغرفة 23”، التي ثارت على جدرانها وسقفها.
وتقول ليندا نصار في حديثها لـ“العرب”، “لستُ شغوفة بامتلاك قلق معرفي يرتبط بطبيعة الرؤى التي أحاول ترجمتها في الشعر، وكذلك في الموسيقى، فالكتابة أو الإبداع عمومًا انخراط في مسافة الوعي الحدودي مع الذات، وطبيعة الحياة وتناقضاتها تدفع إلى الاحتماء داخل هذه المسافة. ومن ثم، فإن العزلة الاختيارية من الممكن أن تمنح صاحبها نصوصًا سحرية، حالمة وحائرة”.
المسار الجمالي لدى الشاعرة هو دائمًا تجريب وعي يتحرى هذه الارتحالات الداخلية بأنغامها الهامسة، وطريق الكتابة أكبر من كل الحدود التي درسها التنظير والنقد، أما الوقوع في العزلة فهو بالنسبة إليها مثل الوقوع في حب الشعر، والحديث عن هذه العزلة هو حديث مرتبك، لأن الداخل كان ولا يزال شديد الإرباك، فلولا القصيدة ما كانت الروح قد استقرت عن طواعية في منطقة الاحتماء، أي منطقة الشعر، التي حررتها من تصورات كانت مهددة لها، ولطريقتها في الحياة: “مَن يُعيد الحياة إلى شمعة الصلاة؟/ وحده الشّاعر سيرمّم مجدك بحبرٍ، على ورقة لن تتحوّل إلى فصل من رماد!”.
هل عاونت القصيدة الذات الشاعرة على الاحتماء من متاهة الضياع، ودوامات الخذلان؟ تشير نصار إلى أنه يمكن التحدث عن قوة الأثر بالداخل، حيث جعلها الشعر تقترف المزيد من الأخطاء، إلى درجة تشبيك كل تفاصيلها وطقوسها، ومع ذلك فقد أدمنتها، على أساس أن الحياة ممكنة في قدرتنا على أن نواصل الحق في الحلم من داخل الجميل فينا، الذي يتعرض اليوم إلى أقصى الهزات والارتجاجات بسبب هذه المادية التي تحاصرنا.
عصر الاستهلاك
تؤمن الشاعرة بأن الشعر بإمكانه أن يمنحنا القلق حول إنسانيتنا المهددة، لذلك كلما ازدادت الحاجة إلى البورصة ومنطق اقتصاد السوق كلما ازدادت الحاجة إلى الشعر والحب والحلم والحياة لحماية الإنسان من الإنسان.
وتضيف الشاعرة اللبنانية “الشعر وسيلتنا لترميم هذه الخرائب الداخلية كلها، لهذا كلما أضاعتني خيوط الشعر أمسك بخيوط القيثارة، لأن الحياة تتسع لكل شيء، والفنون هي دليلنا نحوها،
من أجل وشمها بمعزوفة شعرية لا تنتهي”.
وتصف ذلك الشعر الذي تحبه بالمنقذ، الذي حقق لها متعة مضاعفة وهي تقيم في التباساتها على نحو جمالي، ومنح لها إقامات في شرفات لشعراء، لم تحركهم نوازع ضيقة بقدر ما حركهم الإنساني: “لقد جعلني الشعر أعيش سلسلة من الأحلام التي لا تنتهي، ودفعني نحو صداقات الشعراء، وقد تكون هذه الصداقات قديمة تتجاوز التاريخ نفسه، الشعر إنجاز مهمّ للإنسانية، يعلمك أن تهدهد الحروف من داخل صراع أنيق مع اللغة قد يتوحش تارة، ومع ذلك يمكن أن يكون هذا التوحش جميلًا في علاقة المجاورة بين ما نحلم به، وما نخطه بوساطة الكلمات، والقراءات الممكنة لأغوارنا من قبل الآخر الذي يصير جميلًا في قدرته على تفكيك شفرات النص”.
الشعر هو كلام الملائكة، بتعبير الشاعرة، لذلك فإنها تراه جميلًا حتى في نصوص بودلير التي أسست لجمالية القبح. أن نكتب معناه أننا نتشبث أكثر بالحياة على نحو ملهم للأجيال، وللتاريخ، وللحضارات.
وتوضح نصار “قد أكون حالمة أكثر، ومع ذلك أعيش هذا الحلم بواقعية سحرية. الشعر هو تلك الرعشات الإنسانية، التي تعمل على تشكيل وعي مفارق لما هو مألوف في حيوات تنطفئ فجأة، وتربك سيروراتها عبر اللغة. لكن تلك اللغة، لا تحمل جينات معينة غير جيناتها. يمكن أن نوسع من دوائر اختياراتها في الغياب، كما في الحضور، بوساطة النصوص التي تشغل حيزًا في هذه المساحة”.
يلتقط بعض النقاد أحيانًا إشارات من هنا أو هناك في دواوين الشاعرات الجديدات، كما قد يلوون أحيانًا عنق هذا النص أو ذاك، من أجل إثبات ما يشي بنزعة نسوية في قصيدة المرأة، وهو ما تعترض عليه ليندا نصار.
وتشير نصار إلى أنها تؤمن بأن قصيدة المرأة ليست محكومة بمقاييس نسوية، وأنها لا تتخيل وجود مبدعة حقيقية تُطلق شعرًا من منصّة مقوّمات جمالية أنثوية، خصوصًا في مضمار “قصيدة النثر”، التي وسّعت كثيرًا طبيعة الرؤى التي شكلت دائمًا عائقًا أمام فرض سلطتها على واقعها المضطرب.
وترى نصار أن ما تكتبه الشاعرات حاليًا في لبنان يتميز بخصوصية شديدة تتعلق بالحرية في أقصى ما يمكن أن نتخيله، مقارنة بغيرها من الدول العربية، على اعتبار أن تركيبة المجتمع اللبناني المتميزة بالتعايش وبالاختلافات تخدم الشعر في هذا المنحى.
“الكتابة انخراط في مسافة الوعي الحدودي مع الذات، وطبيعة الحياة وتناقضاتها تدفعان إلى الاحتماء داخل هذه المسافة”
في عمومها، فإن قصيدة النثر في لبنان ذات فرادة، وفق نصار، وذلك لقدرتها الدائمة على تحطيم تلك القواعد التأسيسية التي حددتها سوزان برنار، كما أنها وسّعت مفهوم الكتابة ليشمل الحياة والكون والحضارة، ارتباطًا بقوة التجارب الرائدة، وبقوة النصوص نفسها التي يشتغل عليها النقاد في الجامعات والمختبرات البحثية: “قصيدة النثر الراهنة في لبنان هي قصيدة متعددة، بوجدان مفتوح على كل الاحتمالات الجمالية، من داخل الشعر نفسه”.
على الرغم من تلك الحرية التي تراها الشاعرة متحققة في لبنان أكثر من دول أخرى؛ ومن أن بيروت هي عاصمة النشر في العالم العربي، فقد اختارت القاهرة لإصدار ديوانها “لأني في عزلة” (دار العين).
عن ذلك تقول ليندا نصار في ختام حوارها مع “العرب” “حديث القاهرة هو حديث عن تاريخ شكل صور شخصيات تسربت إلينا عبر عوالم نجيب محفوظ الرهيبة في الحارات، وفي طبيعة الأصوات والمحكيات، وفي السينما التي أمدتنا بلحظات فرح حقيقية، ومشاهد لا تزال إلى الآن تؤثر فينا، وغير ذلك. القاهرة، هي الأفق الملائم، المفتوح على ذاكرة العزلة، القادر على اختراق الحدود بالشعر”.
*نقلا عن صحيفة العرب اللندنية