حكايةٌ عن مرحلةٍ وأجيالٍ وليست أبداً حكايةً عن شخصٍ الرَّائدُ العصاميُّ الشَّيخ أحمد عَبَّاس الأزهريّ – 6 في المدرسة الدَّاوُدِيَّة
الدكتور وجيه فانوس
المبنى الحالي للمعهد العالي للتكنولوجيا الذي آل إليه المبنى القديم للمدرسة الدَّاوديَّة في عبيه
كانَ الشَّيخُ الشَّابُ «أحمَد عَبَّاس الأَزْهَرِي»، بعد أن أدرك صُعوبَة، وربما استحالةِ، متابعة عملهِ في مجالاتِ التَّدَّريسِ والتَّعليم، نتيجةَ إقفالِ «المدرسة الوطنيَّة» أبوابها، تَحَسُّباً مِن إدارتِها لانتشارِ وباءِ «الهواء الأصفر»؛ قد قرَّر أنْ يُواجِهَ الحياة بالتَّحوُّلِ إلى بَيْعِ الخضار. كانَ الشَّيخُ «أَحْمَد»، وهو الأُستاذُ الأَزهرِيُّ الشَّاب؛ يقفُ في أحدِ أيَّام سنة 1878، عند بابِ دكَّانِهِ لبِيْعِ الخُضار؛ يَعتني بمجموعات الخَسِّ، ويرصُفُ ثِمارَ الكوسا والباذنجان والخيار، ويرصف حبَّات البطاطا والبندورة، كلٌّ وفاق ما يُبْرِزُ حجمها ولمعانها للشاري، ويَرُشُّ الماء على باقاتِ البقدونس والكُزبره والنَّعناع، حين مرَّ بِهِ صُدْفةً، ولعلَّ الأمر كان عَمَد، الحاج «أبو عُمر»، «محيي الدِّين عُمَر بَيْهُم. كان «محيي الدِّين بيهم»، من كِرامِ أهل «بيروت» المُعْتَبَرين، وقد ذُكِرَ مِن مناقِبِهِ أنَّهُ كانَ معروفاً بالوجاهةِ والحِكْمَةِ وإصابة الرَّأي. (لحد خاطر: عهد المتصرفين في لبنان)، وكانَ قد عيِّنَ، وقتذاكَ، رئيساً للمجلس البلديِّ لمدينة «بيروت»، إثر وفاة رئيسِهِ «أحمد أباظة»، الذي تولَّى رئاسة المجلس البلدي سنة 1872، بعد أن كان يشغل منصب قائمقام مركز بيروت ووكيل المتصرِّف فيها، وصار في عهده جرُّ مياه «نهر الكلب» إلى المدينة سنة 1875، كما صدر في زمنه، وبناء على موافقته، فرمان التَّرخيص من الآستانة للجامعة اليسوعيَّة للعمل في بيروت. (بلدية بيروت). أمَّا الحاج «محيي الدِّين بيهم»، فكان، كذلك، عضواَ في «الجمعيَّة العِلمِيَّةِ السُّورِيَّةِ» التي ترأَّسها بدايةً الأمير «محمَّد أمين أرسلان»؛ ثمَّ تلاهُ، في رئاستِها، الحاج «حسين بيهم»، وكانت مهمة هذه الجمعية، كما سبقت الإشارة، جَمْعُ الشَّملِ وإعادةُ الوُدّ المفقودِ بين مختلف الطَّوائف. ولقد كان لكلِّ من الأمير «محمَّد أرسلان» ولـ «آل بيهم»، أثرٌ جَلِيٌّ في مساعدةِ الشِّيخ «أحمد» في مسيرة حياتِه، وخاصة في مجالات تشجيعهِ على الالتحاق بـ «الأزهر» في «القاهرة؛ إذ كان للمنحة الدِّراسيَّة الماليَّة، التي وفَّرها له الحاج «حسين بيهم»، من وقفٍ خيريٍّ لآل بيهم، الفاعليَّة الأساس في تأمين دراستِه في «الأَزْهَر» وشؤون معاشِهِ في «القاهرة».لعلَّ الحاج «أبو عمر»، «مُحيي الدين بَيْهُم»، نَظَرَ في وجْهِ الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، إذ الشَّيخُ الشَّابُ مُنْهَمِكٌ في العِنايةِ بالخُضارِ التي كان، يُعِدُّها لِلْبَيْعِ في دُكَّانِه. ولربَّما أَحَسَّ الشَّيخُ «أحمد» بنظراتِ الحاج «أبي عمر» القَلِقَة والمَغْمومَةِ، وهي تَنْصَبُّ عَلَيْهِ أَلَقَ احترامٍ وتقديرٍ يشوبُهُ جَمْرُ أسىً، فَتَتَّقِدُ فيهِ نيرانُ حُرْقَةٍ ولهيبُ غَمٍّ. ولعلَّ هذا اللِّقاءَ بين الحاج «أبي عمر» والشَّيخ «أحمد»، لَمْ يَكُنْ الأوَّل بينهما؛ غَيْرَ أنَّه كانَ الأوَّلَ، والشَّيخ يعملُ بائعاً للخضار. ويُحْتَملُ أنَّ أحداً مِنَ الرَّجُلَينِ لَمْ يَزِدْ على نَظراتِ الآخَرَ إليهِ، وَلَوْ بِحَرفٍ واحِد؛ ومَع هذا، فيبدو أنَّ أموراً عَديدةً ستَحْصَلُ، إِثْرَ تلكَ النَّظراتِ المُتبادَلَةِ والتَّحِيَّتَين الصَّامِتَتينِ بينَهُما.لَمْ تَمْضِ سوى أيَّامٌ قليلةٌ جِدَّاً، حتَّى وَصَلَ أحدُهُم، مِنْ طَرَفِ الأمير «مصطفى أرسلان»، يٌبْلِغُ الشَّيخ «أحمد» دَعْوَةً مِنْ قِيَلِ إدارة المدرسة «الدَّاوديَّة»، ليكون في عِداد أفرادِ الهيئةِ التَّدريسيَّةِ فيها. ولعلَّ بعضُ الوَمَضاتِ، يُمْكِنُ أَنْ تُساعِدَ، هَهُنا، على كَشْفِ وَلَوْ جُزءٍ مِن خلفيَّات التِحاقِ الشِّيخِ «أحمَد عبَّاس الأَزْهَري»، بالعَمَلِ مُدَرِّساً في هذه المُؤَسَّسةِ؛ كَما تُهَيِّءُ صورةً عَنْ الخَلفِيَّة الاجتماعِيَّةِ والثقافِيَّة والحضارِيَّةِ الوطَنِيَّةِ الانْفِتاحِيَّةِ التي كانت تُحَفِّز التَّفاعل بين ناسِ البلدِ في ذلك الزَّمن، وخاصةً من خلال «الجمعيَّة العِلْمِيَّة السٌّورِيَّة»، التي ضمَّت تحت أفيائها أبناء الديانات والطوائف المذاهب المختلفة والمتنوعةِ من ناس الوطن.
لقد أسهم المُتَصَرِّفُ العُثماني على جبل لبنان، «داوود باشا» (1816-1873)، مع مجموعةٍ من أعيان طائفةِ الموحِّدين الدُّروزِ، على رأسهم «سعيد تلحوق، وكيل الطَّائفة الدُّرزِيَّة في «مجلس إدارة جبل لبنان»، في تأسيسِ المدرسة «الدَّاوديَّة» سنة 1862؛ وقد اتَّخَذَت اسمها هذا من اسم المتصرِّف «داوود باشا»؛ لِتَكوُنَ مدرسةً داخِلِيَّةً مَجَّانِيَّةً في بلدة «عْبَيْه». تقعُ هذه البلدةُ عندَ التِّلال المُشرفةِ على السَّاحل الجنوبيِّ لمدينةِ «بيروت»؛ وتبعد عنها حوالي 30 كلم.. و«عْبَيْه»، معروفة تاريخيَّاُ بأنَّها حاضرة الأمراء التَّنوخيّين في لبنان؛ وشكَّلت، في مراحل عديدة من الزَّمنِ، مركز ثِقَلٍ سياسيٍّ واجْتِماعيٍّ وتعليميٍّ وازن في تاريخ لبنان، مِن أيَّام الحُكْمِ العبَّاسي، وصولاً إلى محطَّات بارزة من التَّاريخ المُعاصِر. وكان تمويل المدرسة «الدَّوديَّةِ» يتمُّ مُحَصَّلةَ ضَمِّ بعضِ أوقافِ الموحِّدين الدُّروز العامَّة، في وَقْفٍ واحدٍ، سُمِّي «وقف الدَّاووديَّة». (البعيني: 17-18) ويبقى القَوْلُ، مِن ناحِيَةٍ أُخرى، إنَّ الأمير «مصطفى أمين أرسلان» (1848- 1914)، وهو من الأمراء الدُّروز مِن «آل أرسلان»؛ حين وصول مرسال إدارةِ المدرسةِ «الدَّاوُدِيَّةِ»، إلى الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأَزْهَريِّ»،» للعمل مدرِّساً في «الدَّاودِيَّة»، يشغلُ منصِب «قائمقام الشُّوف». وكان، هذا الأميرُ كذلِكَ، وهنا النُّقطَةُ الأهم، عُضواً في «الجمعيَّة العلميَّة السٌّورية»؛ التي ينتمي إلى عضوِّيَّتها معه، الحاج «محيي الدِّين بيهم» وكذلك الشَّاعر «عمر الأنسي» والأمير «محمَّد أرسلان»؛ الذين كان لكلٍّ منهم سَعْيَهُ الفاعِل في دَعْمِ مسيرةِ الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأزهري»، منذ كانَ الشَّيخُ في مطلعِ الصِّبا. ولعلَّ مِنَ المَعْقولِ التَّأكيد، عبر كلِ هذا، القول بأنَّ السَّعيَ إلى النَّهضةِ العِلميَّةِ والرِّفعةِ الإنسانيَّة، هو ما كان يجمَعُ ، عهدذاك، بين هؤلاء القومِ، على اختلااف مناطقهم الجغرافيَّة وتنوُّعِ انتماءاته الدِّينية والسياسيَّة. ومن هذا المنطلق، توَلَّى الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأَزْهري»، بِدْءاً مِن سنة 1878، وكان في الخامِسَةِ والعِشرين من العُمر، مهامه التَّدريسيَّةِ في المدرسة «الدَّاوديَّةِ» في «عْبَيْه»؛ وكان المعلِّم «بطرس البستاني» (البروتستانتي) والشَّيخ «ناصيف اليازجي» (الكاثوليكي) (1800-1871)، مِمَّن يقومون، كذلك، معه، هو (المسلم السُّنِّيُّ)، بالتَّدريس في هذه المدرسة (الدُّرزِيَّة). (خوري: 226) و(قيس: 84).وإلى الِلقاء مع الحلقة السَّابعة: مع جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة والمدرسة السُّلطانيَّة في بيروت —————— رئيس المركز الثقافي الإسلامي
*نقلا عن صحيفة اللواء اللبنانية