أدب وفن

مِنْ دلالاتِ تَحَوُّلاتِ لُغَةِ النَّصِّ الرِّوائيِّ على فاعِلِيَّةٍ الزَّمانِ المُجْتَمَعِيِّ (الحلقة الثَّالثة) النَّصُّ وفاعِلِيَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ

الدكتور وجيه فانوس

(دكتوراه في النَّقد الأدبي/جامعة أكسفورد)

فاعِلِيَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ 

ثَمَّة عنصران أساسان تقوم عليهما فاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ؛ هما “الزَّمان” و”المجتمع”.[1]فكلٌ من الزَّمان والمجتمع، ينفعل بالآخر ويفعلٌ فيه في آن؛ وذلك بحكم كَيان كلِّ واحدٍ منهما، وبحكم ما يربط واحدهما بصاحبه. من جهة أخرى، فثَمَّة عوامل كثيرة تعمل على تفعيل هذين العنصرين لَعَلَّ من أبرزها، على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر على الإطلاق:

  • حركيَّة النَّاس بكل ما فيها وكلِّ ما ينتج عنها من أحداث وعلاقات.
  • القوانين المتَّبعة وكل ما يلحق بها من قبول ورفض وتغيير وتجديد.
  • القِيَمُ والمفاهيم وكل ما يلم بها من قبول ورفض وتغيير وتجديد وصراعات.
  • العادات والتَّقاليد وكل ما يحيط بها منتناقضات وصراعات ومحاولات تحديث.
  • الأمورُ الكَونيَّة بكل ما فيها من أبعادمناخيَّة وبيئيَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة، وتالياً، قيميَّة ومفهوميَّة.
  • القضايا الإنْسَانِيَّة العامَّة منها والخاصَّة بأبعادها السِّياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة والفلسفيَّة والذَّاتِيَّة.

من نافلة القول، ههنا، إن هذه الفاعليَّة تعمل على إظهار المجالات المرتبطة بطبيعة البيئة الزمانيَّة والاجتماعيَّة التي تكون فيها؛ فَتَجِدُ مجالاً لإظهارِ ذاتها في كل ما هو نشاط يمارسه ناس هذه البيئة. وبذا، يُصبِحُ نشاط المجتمع، بكل أمدائه، مرآة لهذه الفاعليَّة ومحطةَ إظهارٍ لوجودها؛ ولا يَكون نتاج ناس هذا المجتمع إلاَّ صدىً لها وميداناً لتأكيد حضورها ودلالة على حقيقتها وتحقُّقِها. ومن تحصيل الحاصل أن ما يقوم به الإنسان من نشاطات تنتمي إلى الفكر والآداب والفنون والسُّلوك.

يدخل ضمن ، كلِّ هذا، الأمداء والأصداء، التي تُظْهِر فاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ وتؤكِّد حقيقتها. ومن هنا، فإنَّ كلَّ ما تتجلَّى به هذه النَّشاطات لا يَكون إلاَّ من باب الدَّليل على فاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ، ويصح أن يَكون ميداناً لدرسها وتحليلها وتقييمها والوصول إلى خلاصات تتعلَّق بها وتؤثِّر في سواها من أمور الحياة وقضايا العيش وحقيقة وجود الإنسان عبر ارتباطه بما يحيط به ينتج عن هذا الارتباط.

جدليَّة الإنسان والزَّمان لوحة للفنان التَّشكيلي الكوبي المعاصر داروين ليون

الأَدب وفاعِلِيَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ 

        إن ما ينشأ عن الوجود الإنساني، من نشاطات أدبيَّة، لا بًدَّ له من أن ينتظم ضمن هذه الرؤيَّة لفاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ؛ ولا بًدَّ له من أن يَكون مرآةً لهذه الفاعليَّة وصدىً لها. ويشيرواقع الحال، في هذا المجال، إلى ارتباط عضويٍّ تأسيسيٍّ وأساسٍ، بين الأدب واللُّغة، بمعناها الوجودي الدَّال على تحقيق مستمر لكينونة الأدب. فاللُّغة، هي الوجه الذي يعبِّر عن الفن الأدبي في تجليَّاته التَّوصيليَّة والتواصليَّة؛ وهي، أيضاً، البابُ الشَّرعيُّ والواقعيُّ العمليُّ، الذي تنفذ من خلاله وبه الرُّؤيا الأدبية من مستوى التَّصوَّر الذي تكون فيه، لدى مُرْسِلِها أو ما يُعْرَفُ بالأديب، إلى مستويات التَّلقي الَّتي تَتَمَظْهَرُ بِها لِلنَّاس، أو ما يُعْرَفُ بالقارئ أو المُسْتَقْبِل[2].

إن لغة بعض الفنون الأدبية، قد تكون أكثر قدرة من سواها على أن تأمين مدى فسيحاً، لا عثرات فيه، لإبراز فاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ؛والوصول، تالياً، إلى تحقيق صدىً أقرب ما يَكون إلى طبيعة الواقِع وحقيقة وجوده. فلغة الشِّعر، على سبيل المِثال وليس الحَصر، لما في طبيعة العملِ الشِّعري من جماليَّة مكثَّفة وابتعاد أصيل عن المباشرة، قد تكون أكثر قدرة، من غيرها، على ما يمكن اعتباره، من باب التجاوز التَّعبيريّ البحت، ومن باب مفهوميَّة المصطلح النَّقدي، “إخفاءً” و”مراوغة”. ولغة الخطابة، على سبيل المثال كذلك، يمكن أن تكون، لما في فن الخطابة من توسليَّة بلاغيَّة وتوسُّم للاستنهاض، أكثر قدرة من سواها، على ما يمكن أن يعتبر “تجييشاً” و”مبالغة” أو “تهويلاً”. ولغة الرِّواية، لما في الفن الرِّوائي من التصاق بتصوير حقيقة الأمور الواقعة أو المتخيَّلة،  قد تكون أقرب من أي لغة أخرى إلى تأمين المدى الفسيح لإبراز فاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ، والصدىً الأقرب إلى حقيقة الواقع في مجال الفنون الأدبيَّة.

        لا تَتَمَظْهَرُ اللُّغة في الأدب بتشكًّل واحد، أو بمستوى واحد، أو بقدرة على الفعل واحدة؛ فاللُّغة مرتبطة بطبيعة الموضوع الذي يتجلَّى عبرها، ومرتبطة، كذلك، بطبيعة أسلوب التوصيل الذي تُقدَّمُ بهِ إلى مُسْتَقْبِلِها. إنَّ للغة تجلياتها الخاصَّة، المنبثقة عن التكوُّن العضوي الذي يسيطر عليها، بحكم ما تعبِّر عنه من موضوعات وما تتكوَّن به من أساليب وبنى. ولذا، فإن لكل واحد من الفنون التي يتشكَّل من خلالها الأدب، ميزاته الخاصَّة التي يؤثِّر بها على القدرة التَّعبيريّة للغة في أن تكون مدى لفاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ وصدىً حقيقيّاً وواقعيّاً لها.

مفهوم الفنان التشكيلي الأميركي المعاصر ليللاند كلاندرمان لمجتمع الحب العربي أنفعالاً منه بقصص “ألف ليلة وليلة””ألف ليلة وليلة”

لُغَةُ النَّص

        لا تَقومُ لُغَةُ النَّص، أي نصِّ، على مجرَّد هذا التَّجمع الظَّاهر للحروف بأشكال كتابتها وأصوات ألفاظها وتشكُّل الألفاظ أو الكلمات التي تنبثق عن هذا “التَّجمُّع”. فلُغة النَّص أكبر من هذا الأمر الشَّديد البساطة، وأشد اتِّساعاً من ظاهريَّة هذا التَّشكُّل اللَّفظي للأحرف والكلمات.[3] لُغة النَّص، هاهنا، مُصْطَلَحٌ يفيد عدداً من الأمور والقضايا التي من أبرزهاتجلِّي مادة النَّص في جدليَّة تكونها بين ما هو من باب التشكُّل المضموني وما هو من باب التَّشكُّل الظاهري، مع السِّياق الذي يسعى الكاتب إلى إظهارها فيه ، والسِّياق الذي يستقبلها القارئ من خلاله. إنها، بالمفهوم النَّقديِّ الأدبيِّ المُعاصر، هُويَّة وجود النَّص ومفتاح الولوجِ إلى كثير من حقائق هذه الهُويَّة.

لغة النَّص، إذاً، باب واسع مُتعدد المسارب إلى كثير من مُكَوِّنات النَّص؛ أكانت هذه المُكَوِّنات لجهة الكاتب نفسه، أو البيئة العامَّة، أو الفن الأدبي. إنها الدَّليل الحقيقي والملموس على كثيرِ مِمَّا يُمْكِنُ أن يَكون قد شكَّل واحداً من عناصر وجود النَّص أو عناصره، وواحداً ممَّا سَاهَمَ في تظهيرِ حركيَّة النَّص وتفعيلها. وإذا كانت فاعليَّة الزَّمان المُجْتَمَعِيّ من المؤثِّرات الهامَّة في تشكُّل النَّص، فإنَّ بالإمكان، تالياً، اعتماد لُغَةِ النَّص دليلاً على حركيَّة هذه العناصر وفاعليَّتها في تشكيل الزَّمان المُجْتَمَعِيّ وتأمين فاعليَّته.

تفاعلُ النصوص فيما بينها والانفعال بها للفنان التشكيلي البريطاني جوناثان ولستنهولم

ومن هنا، فإن قراءة في دنيا لغة النَّص، قادرة، بمفهوم منهجي، على الدَّلالة على حركيَّة فاعليَّة الزَّمن المُجْتَمَعِيّ الَّتي انبثق عنها النَّص، أو مجموعة النُّصوص المُقْتَرَحَة للقراءة.

****

[1]– للتعمُّق في هذا الأمر، يمكن مراجعة عدد من الكتابات منها:

  • Walzer Michel, The Revolution Of The Saints, A study in the origin of radical politics, CambridgemMassachusetts, 1965, 2nd edition, 1982.
  • Weiner Richard, Cultural Marxism And Political Sociology, London, Sage, 1981.
  • Rex John, Ethnic Identity And Ethnic Mobilization In Britain, Economic And Social Research Council, 1991.
  • Heller Agnes, The Power Of Chain, London, Routledge & Kegan Paul, 1985.
  • Castells Manuel, The City And The Grass- Roots, London, Edward Arnoldm 1983.
  • Cohen Jean, Arato Andrew, Civil Society And Political Theory, Cambridge, MIT Press, 1992.

[2]– للتَّوسُّع في هذا الموضوع، يُقْتَرَح مراجعة المؤلفات التالية على سبيل المثال:

  • Arendt Hannah, La Crise de la Culture, 1954, tr. Gallimard, 1972.
  • Aron Raymond, Dimensions de la Conscience Historique, Plon, 1961.
  • Baudrillard Jean, A l`ombre des majorite’s silencieuses ou La Fin du social, 1re, 1978.
  • Rousseau Jean-Jacques, Discours sur les sciences et les arts, 1750;
  • Discours sur l`origine de l`inegalite’, 1754.
  • Du contrat social, 1762.
  • Emile ou de l`education, 1762.
  • Scaff Lawrence A., Fleeing The Iron Cage: Culturem Politics And Modernity In The Thought Of Max Weber, BerkleyUniversity Of CaliforniaPressm 1989.
  • Taylor Charles, Sources Of The Self – The Making Of Modern Identity, CambridgeUniversity Press, 1989.
  • Marcuse Herbert, Raison et re’volution, Hegel et  la naissance de la the’ore sociale, 1941, tr. Fr. Minuit, 1968.

[3]– يُنْظَر في هذا الشَّأن، ودائما على سبيل المِثال وليس الحصر:

  • أدونيس، الثابت والمتحوِّل – بحث في الاتِّباع والابداع عند العرب، الكتاب الثَّاني: تأصيل الأصول، بيروت، دار العودة، 1977.
  • كمال أبو ديب، جدليَّة الخفاء والتَّجلِّي – دراسات بنيويَّة في الشِّعر، بيروت، دار الَعَلَّم للملايين، 1979.
  • تشتشرين أز ف.، الأفكار والأسلوب، ترجمة حياة شرارة، بغداد، دار الشؤون الثقافيَّة العامَّة، لا. ت.
  • جاك دريدا، الكِتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال للنَّشر، 1988.
  • خوسيه ماريَّا بوثويلو إيفانكوس، نظريَّة اللغة الأدبيَّة، ترجمة حامد أبو أحمد، مكتبة غريب، 1992.
  • شكري عيَّاد، اللغة والإبداع – مبادئ علم الأسلوب العربي، القاهرة، انترناشيونال برس، 1988.
  • صلاح فضل، شفرات النَّص – بحوث سيميولوجيَّة في الشِّعريَّة القَص والقصيد، القاهرة، دار الفكر للدراسات والنَّشر والتَّوزيع، 1990.
  • عبد السَّلام المسدي، الأسلوبيَّة والأسلوب – نحو بديل ألسني في نقد الأدب، ليبيا-تونس، الدار العربيَّة للكِتاب، 1977.
  • وليم راي، المعنى الأدبي من الظَّاهرتيَّة إلأى التَّفكيكيَّة، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، بغداد، دار المأمون، 1987.
  • *نقلا عن موقع Aleph Lam

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى