قراءة في كتاب “ثائر يزرع لأمل ” (إضاءات ملوّنة على فكر جورج شامي)
أنطوان يزبك
يقول غازي عبد الرحمن القصيبي:
“أن أكون أصغر إنسان… وأملك أحلامًا… والرغبة في تحقيقها… أروع من أن أكون… أعظم إنسان… بدون أحلام… بدون رغبات…”
كلود أبو شقرا الصحافية ذات الكلمة الوازنة، نالت كل الأجوبة على أسئلتها، نالت كل ما صبت إليه بين طيّات كتاب، هو بحد ذاته يشكل فضاء مرجعيًّا للكاتب والصحافي جورج شامي، حيث دأبت كلود على بناء مشروع يحمل في ما يحمله صفة البناء لهذا الفضاء المرجعي فيكون الكتاب، سيرة ودراسة وتحليلاً للكاتب وأمزجته المختلفة في محاولة جديدة لاستعادة حياته ودراستها من زوايا مختلفة ومتوائمات مع ظروف واحداث وإنجازات تثبت أن فعل الكتابة هو عالم بحد ذاته وعمرٌ يضاف على “أعمار” الكاتب وخبرات الصحافي!..
ماذا فعلت كلود إذن في هذا الكتاب؟!
لقد كانت مثل الربّان الذي يسير في قارب الوعي ليقود ذهنيًّا ووجدانيًّا الآخر في ما هو وعي لذاته، وقامت والحال كذلك في عملية التدوين بتعميق هذا الذهن وتلك الذاكرة خالقة مساحة من التمرّد الفعّال على الزمن والنسيان وتهالك المصائر التي تصيب البشر بفعل الحروب والمشاكل والتخلف الاجتماعي.
قامت كلود من مرتكزات وضعتها هي في عملها الاحترافي وجعلت من الدائرة تتسع وتتعمّق: وبحثت عن جماليات في سيرة جورج شامي، طافت في حياته من ساعات الاستفاقة الصباحية إلى عوالم المرأة، من التعاطي مع الآخر في ظروف مختلفة إلى الحرب والدين، حتى بتنا نشعر أن جورج شامي سيخرج من هذا الكتاب راهبًا ناسكًا من قلّاية على قمة جبل، يرتّل قاديشات آلوهو قاديشات حايلتونو، وهو في زهوة كأس خمر يشربها ليس متعة، بل تسبيحًا للخمرة بحد ذاتها، عندما ندرك أنها خمرة “قانا” اعتصرها شامي من دون دنّ القلم، الذي يكتب به صلاة لله.
نقرأ في الصفحة 114 ما يلي: “يتجلى الله عند جورج شامي بالتفكير والحكمة، فإذا أتيح للتفكير أن يعمل تنعكس عناصر الحكمة في القضايا الإنسانية وينتفي الوهم الذي يراود الإنسان بتغيير الكون وينمّ عن عقوق وإلحاد، والتطوّر الإنساني يجب أن ترافقه رحلة مستمرّة إلى أعماق الذات، بعيدًا عن أي معطيات ماديّة، وإلا ازدادت الهوّة بين العالم الذي يملك والعالم الذي لا يملك، ومن شأن هذه الهوّة أن تطعن العدالة على وجه الأرض، وأن تفسح في المجال أمام حروب صغيرة وكبيرة وتسلّط القوي على الضعيف”.
هكذا تقدم لنا كلود جورج شامي، كاتبًا وصحافيًا ومحللاً في جبّة كاهن، ولباس مار توما الأكويني، يدرس الله والإنسان، وكيف يتقاطع العالم بينهما، أسئلة كثيرة عن عدالة الأرض وعدالة السماء، ومدى محورية الإنسان، ولعلّ طموح كلود من كل تلك الإجابة على السؤال الكبير، حول الذي دفع جورج شامي إلى خوض كل هذه التجربة وما إذا كان راضيًا عن إنجازاته وما فعله طوال هذه السنوات.
أما الجواب على هذا التساؤل فنقرأه مسبقًا في الصفحة 55 إلى 57؛ بحيث يورد جورج شامي سلسلة من الأعمال “لم” يقدم عليها وفرض على نفسه عدم ممارستها كما لو أنه يقدّم اعترافات رجل يبتغي النقاوة والطوباوية فيقول: “لم أزوّر… لم أقطف… لم أحقد… لم أكذب… لم أتظاهر… لم أسرق… لم أساوم… لم أحرّض… إلخ…
هكذا دوّنت كلود كتابًا آخر من “الاعترافات” يضاف إلى سلسلة الاعترافات الشهيرة التي كتبها أصحابها رغبة في قول كلمة حقيقية ناصعة لا شوائب فيها، فكانت كلود تتعهد هذه الأفكار وتسوقها بين صفحات الكتاب لكلّ راغب في معرفة ولكلّ دارس يبحث عن خبرات عاشها كاتب وصحافي لم تكن حياته عاديّة البتّة.
لم تترك كلود مكانًا في مسيرة جورج شامي الأدبية والصحافية إلا وطرقته، دخلت إلى شرفات واسعة وأضاءت على معالم كادت أن تنسى في المشهد الأدبي، تكلمت على طفولة شامي وأمه وأبيه، والمرأة والله والحرب والدين والعولمة وإشكاليات الإعلام وعلاقته بالحياة الإنسانية اليومية والندوة اللبنانية والتكنولوجيا… وتفاصيل دقيقة ومواقف وحوارات وصداقات ولقاءات، وكأن الكتاب يساوي مهرجانًا زاهيًا بحد ذاته وكرنفالا عابقًا بكل ما تشتهيه العين ويخطر على بال.
ما كتبته كلود عن جورج شامي يعكس أيضًا شخصيتها الأنثوية الرقيقة، التي تبرز من خلال نتاجها الفكري والصحافي، ونضالها اليومي في مجال الكتابة الملتزمة والتي تهدف إلى إصلاح المجتمع خاصة في المقالات العلميّة في مجلة “الرعية”، حيث تجلى أسلوبها الواضح والعميق في آن معًا، ذلك أنه يعكس حضورها في قلب المادة الصحافية وليس العكس، فأعطت من روحها للقلم الذي أحبّته وكرّست حياتها لأجله…
يقول “هوبير أكين”:
“يصبح الأدب موجودًا ليس فقط حين يُكتب، بل عندما يأتي القارئ ويبحر في الكلمات ليصبح بهذه الوسيلة مشاركًا في عملية الخلق”.
كلود أبو شقرا في كتابها “ثائر يزرع الأمل”، كانت كاتبة وقارئة وصحافية وعاملة دؤوبة على صناعة الأدب بحذاقة المفكر ومهارة المحترف، فأجادت في عملها وأبدعت…
*أديب و ناقد لبناني