أدب وفن

التناغم بين السردية والغنائية في مجموعة الشاعر اللبناني ابراهيم عودة /”أنامل … فوق الجسد”

التناغم بين السردية والغنائية في مجموعة الشاعر اللبناني ابراهيم عودة /أنامل … فوق الجسد
الشاعر و الناقد نزار حنا الديراني
استراليا – ملبورن

إن التعالق الأجناسي بين الغنائية والسردية في مجموعة الشاعر ابراهيم عودة تحتل مكانة ملموسة في تجربته الشعرية ،بدءً من المهد الاشتغالي في العتبة الأولى للمجموعة ( أنامل … فوق الجسد) انتقالا الى المتن الداخلي ، فسرعان ما نجد أننا أمام تعالق أجناسي ، بين الأسلوب السردي المتمثل في الأنامل وحركتها ضمن المحور العمودي وردة الفعل الناتجة من هذه الحركة مشكلة لنا المحور الافقي أي الأسلوب الغنائي/ شعري الذي يتجسد في حضور الذات.
إن الإزاحة المتمثلة بـ (…) تمخض عنها إيحاءً ولد من تزاوج التعالق السردي ، مع الغنائي. حيث يعيد الشاعر بناء أحداث ذاكرته وماضيه وتجربته لتحويلها إلى مدونة شبه سيرذاتية .
فمنذ الوهلة الأولى يطالعنا التعالق الواسع بين السردية والغنائية . فالعنوان يضعنا أمام إزاحة أجناسية تمنح نصوص المجموعة كثافة دلالية تتحصل في رغبة الشاعر توسيع دلالاته الشعرية الى مدى يستطيع من خلالها ايقاع القارئ في شبكته . حيث نجد هناك بوح عن وجود هذا التناغم في العلاقة ما بين الانامل والجسد ، فمن حركة الانامل فوق الجسد تتكشف لنا عن ذاتية تغذي الصورة التي تنتج من التفاعل والتلاقي مع الاخر (الجسد) فيولد لنا عمل سردي يعانق الشعور الناتج من تلك الحركة مولدة لنا الفعل الغنائي ، فالعلاقة الجدلية بين الأنامل وجسد الآخر هي علاقة تفاعلية تكشف عن المساحة الغنائية الناتجة من الفعل الخارجي (حركة الأنامل) مع الفعل الداخلي ( ردة فعل الجسد ) .
ولو انتقلنا الى متن المجموعة سنجد العنوان متناغما مع ما تحاول أغلب قصائد المجموعة الوصول اليه أعني جدلية العلاقة بين الأنا الداخلية ( الفعل الغنائي) والموضوع ( الآخر) وحيث نجد كلاهما في حركة مستمرة نحو الآخر على أساس ديناميّة هذه العلاقة وجدليّتها، كي تكتمل الصورة ويبدأ الفعل السردي بالظهور كقوله في قصيدته والتي تحمل عنوان المجموعة (أنامل … فوق الجسد) :
ويسعدني
أن أمر ببالك
مثل مرور الأنامل فوق الجسد
أدغدغ فيك المشاعر
ترنو لبعضهما شفتاك
كأنهما يلحسان بقايا الشهد
ويعزف قلبك لحنا … يسافر فيك بعيداً
كحلم تمرد من قيده وشرد

على الرغم من الإيغال السردي المتمثل بمدخلات السرد المتتالية في النص ؛ إلا أن ثمة فعل غنائي/شعري تخفف من وطأة التوالي السردي .
وهكذا في قصيدته ( أهاجر منك ):
دعيني أسرح شعرك مرة
ألامسه شعرة بعد شعرة
أناجيه أكشف سره
أعد الليالي … أعيش الليالي
فذا الليل يضمر للعاشقين سرورا
أو في قصيدته (إلى النيزك) يقول :
مرري كفيك يحفر…
بصمتين
مثل غصن زاحف فوق التراب

فالذات الشاعرة ، هي محور ارتكاز الشاعر في أغلب نصوص المجموعة وتكون في مواجهة جدلية مع ذات الموضوع (الاخر) لذا لا يتوقف فضاء تشكيلها عند سرد الواقع كما هو على نحو قصصي أو فوتوغرافي بل يقوم الشاعر بسرد الواقع المعاد تشكيله وتجلياته بأسلوبية فنية تحقق للنص مستواه الجمالي والغنائي ، فينتج من هذه المواجهة (الاحتكاك) علاقة تفاعلية تكشف لنا عن ردة الفعل المتمثلة بالدوائر العاطفية التي تحيط بهما (أنا والآخر) أي الداخل الذاتي والخارج الموضوعي كي تكتمل الصورة ويبدأ الحراك المفهوميّ بالعمل. كما يقول في قصيدته (القبلة المشتهاة ):
هي القبلة المشتهاة
كعزف على آلة الناي
ننثر فيها
أحاسيسنا
فتبوح بصرخة آه
تلملم كل اختلاجاتنا
فتلقى جوابا
وتطرح الف سؤال

من حيث التعالق بين السرد ( الفعل الناتج جراء ملامسة أنامله جسدها أو شعرها أو ذاكرتها أو…) والغنائية (ردة الفعل) ينهي الشاعر متوالياته السردية فيبدو الشعر كما لو كان هذيانا لا يمكن الخروج من بودقته إلا بمدلولات ذات وقع مؤثر وفاعل في الذائقة فيتداخل السردي بالشعري ؛ ليطل علينا بذهنيته إلى فضاء يجسد لنا صورة شعرية قائمة على اللاوعي لينهي فيها قصيدته (أهاجر منك ) فيقول:
أصارع مثل الزواحف
بين صدى الشهوات وبين الحفر
وهكذا في قصيدته (حذار) :
أحب صراخك وضياعك
أحب شعورك بالندم
أحبك أن تنهاري
فأقترب اليك
أمد يدي … أضمك الى صدري
أعتذر منك بقبلة … تقبلين اعتذاري
هذا أنا في ليلي ونهاري

إلا أن الواقع النوعي النصي الذي تظهره البنية السردية في بعض من نصوصه ،يتجسد في ناص، ينأى بذاته خارج النص تاركاً شخوصه بأصواتها المتعددة تبرز بشكل دينامي ؛ يمنحها الايقاع كثافة غنائية ليستقطب في معادلة غنائية علاقة الذات مع الموضوع بما يدعم ويعاضد أثر تجلي الصورة الشعرية وتتكثف الأحداث كقوله في قصيدته (كل أوراقي) :
وليي بيت على جفن القصيدة
شامخ يعلو
فتدخله طيور الحب … تدخله عطور الزهر
لا جدران تعزله
وسقفه من خيوط الشمس
ممتد لآفاق وآفاق

ان صدى اجتماع العنصر السردي مع الغنائي وتآلف هذه العناصر داخل النسيج الشعري للقصيدة يكون سبباً في إفراز ملامح الصورة على مستوى الشعور والوعي ، لأن النص الشعري “وإن تداخل مع السردي لا يتبنى خطاباً سردياً متكاملاً، ربما يوحي ببعض عناصر السرد ، ولكن عادة ما تكون تلك العناصر متقطعة ومحدودة النمو ومنحسرة التفاعل فنجد صدى السردي في الشعري بسبب طبيعة الذات الإيحائي في المجموعة .
ان مدى التداخل بين السردي والشعري في قصائد المجموعة يفرز لنا مدى الجماليات التي يمنحها هذا التداخل للنص الشعري. كقوله في قصيدته ((الرقص فوق الشوك):
من يجيد الرقص فوق الشوك من؟
حافياً
ماداً ذراعيه لكي يحتضن الغيمة من خصر السماء
فاتحاً كفيه للريح لكي يلتقط الزوبعة الأولى التي
مرت عليه
ضاحكاً حتى اختفاء الوجنتين
مطلقاً صدره…
هازاً كتفيه…
قافزاً سهواً بساقيه

فالنص يتوجه نحو السردية في الحوار أو مخاطبة الآخر ، من خلال الوظيفة الشعرية التي يوظفها الشاعر كي تحدد سلوك الآخر من خلال ابتعاد أناه بعض الشئ عن فعاليتها فتختفي بعض الملامح الشعرية لتحل بدلا عنها السردية الآتية من المحاكاة كنتيجة لتأثر الشعر بفن الدراما . كقوله أيضا في قصيدته (الطريق):
أقود على عجل في طريق بدا سرمدا
كما دائما
أراني فأحسب أنفاس صدري
يطارد يومي غدي
أطارد نفسي
ولم يبق إلا قليل
لألقي على كتفيها يدي
فأسرع أكثر

رغم أننا قد نجد السرد هو المهيمن على بعض قصائد المجموعة وكما في القصيدة هذه، إلا أن هناك انفجار تندفع من خلالها ذاتية الشاعر بمشاعره الى قمة شعورية كي تبلغ القصيدة أعلى مراحل التوتر ، فالوظيفة الانفعالية هي التي تميز الشعر الغنائي ، لذا حين تتراجع يحل محلها السرد ، ففي قصيدة الطريق (كما في غيرها ) نجد السرد هو الطاغي فيحق لنا أن نسميها بالقصيدة السردية الغنائية ، عكس بعض قصائده الأخرى التي تكون فيها الوظيفة الشعرية هي المهيمنة عليها لذا سنسميها بالقصيدة الغنائية السردية
كما نجد في المقطع الأخير من قصيدته (لن أزرع) :

أرجوك وأرجوك ابتعدي
ودعيني طيرا يحتضر
يذرف دمعة تنهمر
ودماء فؤاده تعتصر
قد يورق من دمعته
شجر أخضر
أو ينمو من دمه
ورد أحمر

كل هذا يعتمد على العلاقة التي يقيمها الشاعر بين دالي الذات والموضوع ، وأيهما ثابتا أو متغيرا ، فبقدر تعلق الذات بالموضوع (الآخر) يحدد مسار القصيدة فكلما كانت الذات شديدة التأثر بالموضوع تكون دالة الذات متغيرة والموضوع ثابت فتتجه القصيدة نحو الغنائية والعكس صحيح ، أي حين تكون الذات ثابتة والموضوع هو الذي الذي يتحرك على شكل شرائح سينمائية ويتفاعل مع الذات تتجه القصيدة نحو السردية .
كما سنلاحظ في هاتين القصيدتين :
في قصيدته (احتراق الضلوع) يقول :
يحيرني …
كيف صدري مروجٌ…
ويحرقه من سناك قبس
وكيف مشى الله فيه
وظل طليقا …
وعند خطاك انحبس
وفي قصيدته (الوعد المشؤوم) :
إلى أين يرحل هذا النهار
وكيف يغيب
لكم مضغ الجرح فينا
ولم يبتلعه
أعاده جمرا
متى شف عنه الرماد
ويزداد جرحي حين
أراه يغادر في موكب
باحترام مهيب

بصورة عامة نقول في أغلب قصائد المجموعة ( بعد ابعاد قصائد التفعيلة التي تكون مبنية على الايقاع ) نجد الغلبة هي للسرد أي يكون الموضوع هو المتغير والذات هي الثابت وكما في قصائده (اعترفت ، السحاب، عطر النساء،أهاجر منك،الزمن، سؤال…)
وفي الختام أقول لقد كان زميلي الشاعر ابراهيم عودة موفقا في تجربته الأولى وهي باكورة أعماله الصادرة من دار ناريمان للنشر والطباعة والتوزيع – بيروت 2018 فاستطاع أن ينسج لنا من مفردات بسيطة شفافة صورا وتعابير جميلة متكاملة بعيدة عن الأقنعة والرموز و… لتغدو العلاقات الاسلوبية بين الدال والمدلول علاقات منسجمة فأفرزت لنا صورا مشخصة لتشير إلى حالة من التأمل والفرح على أمل أن نقرأ له المزيد .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى