نص من رواية” حكى صاحبي” للشاعر و الروائي عباس ياسين
من رواية “حكى صاحبي “
التاء….
-١-
تأخذ الأنثى أشكالاً شتى عندهُ ، في كل عمر لها صورة ،وفي كل مرحلةٍ لها دورٌ. قبل تفَتُّحِ الجسدِ لها طعمُ النسيمِ المنعشِ ، والماءِ العذبِ والنغمةِ الحلوه ، كائنٌ شفافٌ منيرٌ ورقيق، قد ينكسرُ بمجرد اللمسِ أو النظرِ، أو الهمس .كان يعتقد أنها لا يمكن أن تعيش إلا في الخيال ، وأن دِفئها يأتي مع الأثير فتتشكلُ صورتها صباحاًمن الزهرةِ وتغسلُ وجهها من الندى المرشوشِ على الأوراقِ يوقضها من سباتها الخفي ، فتغدو عطراً مع كل نسمة تحرك أغصانها . وبعد الشروقِ تصبحُ نوراً .. شمساً تكشِفُ كل أسرارِ الليل وتهمس للكونِ صباح الخيرِ ،فتفتحُ كلُّ العيونِ النائمات أحداقها وتهمس الشفاهُ بتحيةِ الصباح .
هي الأنثى ..في الليلِ غطاءٌ وفي النهارِ كفٌ ناعمه ، كالبحرِ غامضةً وعميقةً وشفافه ، رحبةً وقاسيةً ولينه ..وكالغيم تغدو ،ظلاً ومطراً، ورعداً وعاصفة.. ونهراً ،وحصىً ، وسَمَكاً يتباهى باللونِ ، لا يُغمِضُ عيناً ولا يصدر صوتاً .
لعل الطبيعةَ أنثى ، والجنةَ أنثى ،والحياةَ أنثى .وحدهُ الكونُ يختصرُ كلّ الإناثِ فيصبحُ ذكراً قادراً وحضناً قوياً تصنعُهُ أمٌ وتحكمهُ أنثى.
في رحلةِ العُمرِ كانت تاءُ التأنيثِ رفيقة ًدائمة،تشاركُهُ الواقعَ والخيال، ولون العينِ وتسريحةَ الشعرِ وبصمةَ الصوتِ، ورائحةَ الطفولةِ والأرضِ والتراب. كانتِ الكلمة والقصيدة والبكاء،وشريكةَ النبضِ والصلاة.تسكُنُهُ أذاناً ودعاءً ومواقيتَ للفرحِ .كانتِ الرحلة والراحلة.
-٢-
هي التاء ..تنبسطُ فتفتحُ معها الدنيا خمائلَ وثلوجاً وغاباتٍ ،وأمواجاً بحجمِ جناحِ الطائرِ الحيران ،
تنغلقُ التاءُ فتمسي لُغزاً .. وعواصفَ حُبلى ،وشوقاًيختزلُ كلّ الأحاسيس ، وقِفلاً يستعصي رغم كل المحاولات .. يصبِحُ العطرُ حبلَ مشنقه.. والرغبةُ شاكوشاً في أصلِ الدماغ.. تتكَوّرُ هذي التاءُ فيصبِحُ الكونُ لعبةً خلفها ،ورِمشُ العينِ سيفاً ذو حدّين على كلٍّ منهما سرٌ قاتل وموتٌ لذيذ.
تكتشفُ الذاتُ الوالهةُ لغةَ الجسد.. تضاريسَ تملأُ العينَ وتسري نُعاساً في أطرافِهِ فيرتجفُ وينتفضُ ويثور..جوعٌ في طرفِ الشعرِ وفي الصدر وفي الأطرافِ ..يبحثُ عن باب فيها لِيغِلِّ وينزعُ بعض الأسرارِ .. ويلمسِ بعض الدفءِ ..
يُصبِحُ هذا الكائنُ عطشاً ..مِلحاً ..لوناً يصبغُ كلّ الألوان ِ .. فتاءٌ في الرأسِ ،وتاءٌ في الثوبِ ،وأُخرى في كتُب الشعرِ وفي محفظةِ الدرسِ ،وأخرى ترقُبُهُ ماذا يلبسُ ،ماذا يحكي ، ماذا يأكلُ ،كيفَ ينامُ
ترتسمُ التاءُ على الأشجارِ ، على الجدرانِ وفي الأنهارِ وفي البحرِ الساكنِ والهائج.. والريحِ
على الطيرِ وفي الأعشاشِ وتحتَ العظمِ وفوقَ الجلدِ ..فتُرهِقُهُ حُباً ، شَبقاً .. يسترخى للرغبةِ لكن ليس ينامْ
تُصبِحُ حاجةَ عُمره .. تاءٌ تصنعُهُ فيصيرُ نبياً يسكُنُهُ شيطانٌ لا يهدأ
يكتمِلُ العُمرُ بلمسة، ويزهو بنظره ، ويسوَدُّ بِقِفلِ التاء
-٣-
تكتمِلُ التاءُ فتغدو أُماً ..أُختاً وفراشاً وغطاءً .. لا يبحثُ هذا المتعبُ إلا عن كفٍ تُمسكهُ، عن صدرٍ يحضُنهُ ، عن عِشرةِ عُمرٍ تسعِدُ ، تشقيهِ ولكن تُمتِعُهُ ..عن حرفٍ يكبرُ فيهِ ويخفي في الأحداقِ دفاترهُ .. أحزانَ السفرِ الأبديِ من الحُلمِ وحتى الحُلمِ .. يبحثُ عن بيتٍ ، عن طفلٍ ..عن أملٍ يُكمِلُهُ.. فتكونُ التاءُ هي الدنيا ، والسرُّ الأكبرُ تزدادُ رسوخاً في الوجدانِ ..وتأخذُ شكلَ الوجهِ ،وجدوَلَ الأيامِ ، وتكتُبُ كل نهاياتِ العمر.
يَرتاحُ الجَسدُ المتعبُ فهي الراحلةُ وهي الزادُ ..وهي السفرُ وهي المآبُ ، أكانت تاءً طويلةً أو مقفلةً أو منسيةً فهي طريقُ العمر .
**** ****
هي الرحلةُ مع الأنثى في حياةِ صاحبنا ، رفيقةً وشريكةَ حلمٍ سري لا يعرفُهُ غيره ، ولا تمنعُهُ رجولتهُ من الكتمانِ أو البوحِ به ،كان في حالةِحبٍّ دائمة سواء في الواقعِ المُعاشِ مع حبيباتهِ أو مع بناتِ أفكارهِ
لذلك لم يكن حبهُ الحقيقي هو الأول ..كان أول حب وهناكَ ثانٍ وثالثٍ وخامس .. لكل قصةٍ بدايةٌ ومسارٌ تحددهُ الأيامُ والظروفُ والحاجاتُ ونهايةٌ تحكمها نفسُ المؤثرات ، فبعضُ العلاقات تستمرُ أسابيعَ وأشهراً .. وبعضُها تمحو أثرهُ الحادثاتُ ..وآخرُها يكمِلُ حياتهُ في رحابه . ويرافقهُ شبابهُ وكهولتهُ .. يبنيهِ ويبني معه وهو الحب الحقيقي.