الشِّعر السَّهل و الشِّعر الصَّعب
الشّعر السَّهل والشّعر الصَّعب
قال لي صديقي مرّةً:
القصيدة التي نشَرتَها لم افهَمْ منها شيئًا!
فقلتُ له: إنَّها ليست لك.
سألني: لمَن؟ أجبتُه بلطف:
مَن يطرَب لِرامي عَيَّاش لا يستطيع أن يفهم بسهولة أوبّريت فريد الأطرش أو السّمفونيَّة الخامسَة لبتهوفن.
سَكتّ أنا، وحَدَجَني هو بنظرةِ مَن لم يُعجبْه الجَواب البتّة.
ولكنَّ السّؤالَ مُحقّ، هناك كتابة سَهلة وهناكَ كتابة صَعبة! وهناك سجالٌ قديمٌ جَديد بينَ الصّعوبَة والسّهولة في الأدَب، منذ أبي تمّام الذي وُصِفَ بالشّاعر الصَّعب وابنِ المقفَّع الذي نادى بالسَّهل المُمتنع، وصولاً إلى نِزار وأدونيس. نزار قبّاني شاعرٌ سَهل مثلاً، مظفّر النوَّاب كذلك، أحمَد مَطَر، هوغو، لوركا، نيرودا. ولكن أدونيس شاعرٌ صَعب، وسعيد عقل أيضًا، بول فاليري ومالرميه صَعبان، رامبو، سان جون برس، عزرا باوند، ت.س. إليوت. هؤلاء جميعًا شُعراءُ كبار بالتّساوي، سَهلينَ كانوا أو صَعبين، ولا يملكُ الصَّعبُ أصالةً وجَمالاً أكثرَ من السَّهل ولا السَّهلُ عذوبةً أكثر من الصَّعب، والاثنان وَجهان لعُملةٍ واحدةٍ هي الفنّ والابتكار. السَّهلُ عمومًا جماهيريّ، وغالبًا ما يطرقُ موضوعاتٍ مألوفة: الغزَل الوطن الثورَة الطّبيعَة الله التّراث والحَنين، وأمّا جُمهورُالصَّعب فقليلٌ لأنَّ مادّته موغلة في دوائِرِ الفِكر والوجدانيَّات والطّروحاتِ الرُّؤيويَّة، أبعادٍ لا تطلبُها ذائقةُ العامَّة. ثمَّ هناك شِعرٌ صَعبٌ في الشَّكل كسعيد عقل، وهناك الصَّعب في المضمون كخَليل حاوي، وهناكَ الصَّعب في القلب والقالب كأدونيس.. ولكنَّ القضيَّة لا تقفُ عند حدود الشّكل والمَضمون وكفى، فهناك ما هو أكثر عمقاً.
لقد بَدأ الفنُّ تقليديًّا نَسخيًّا للموضوع الخارجيّ، وكانت المَلكاتُ الخارجيَّة هي الوسيلة، وأمّا الذّات فكانت بَعد خارج اللّعبَة. لأنَّ الفنَّ كان خاضعًا لقوالب ومقاييسَ مَعصومةٍ مُلزِمَة، والوَيلُ للعُصاة المتمَرّدين! الرَسّام في عَصر النّهضَة مثلاً كان مصوّرًا للأحداث لا أكثر، فلا يُقحِمُ وجدانَه وانطباعاتِه في مَوضوعِه. ولكن عندَما بدأتِ الذّات، حاملةً سلَّة همومِها وثقافتِها ورُؤاها، تلِجُ “كَرْكةَ” الفنّ أصبحَ الأثرُ الفنّيُّ مزيجًا من الذّاتيَّةِ والموضوع، فحطَّمت الذّاتُ الكثير منَ القيود ولوَّنَت موضوعَها بتلاوينَ من أسرارها، فغدَت بالتّالي الأدواتُ التّعبيريَّة أكثر تعقيدًا وصعوبة. الرّومنطيقيَّة أدَبٌ أصعَب من الكلاسيكيَّة، الكلاسيكيَّة صَعبة الإنشاء سَهلة على المتلقّي والرّومنسيَّة سهلة الإنشاء صَعبَة عند المتلقّي. ثمَّ سيطرَتِ الذّاتُ بعد ذلك سيطرَة كاملة بحيثُ أصبحَ الموضوع حاجَةً مؤقّتة فقط وأحيانًا لا لزومَ له! النّقلة الأولى كانت من العَينيَّة الخارجيَّة نحوَ العاطفة والانفعال، والنّقلة الثانية من العاطفة نحوَ الرُّوح أي الرَّمزيَّة وهذه درَجات هي الأخرى، ثمَّ النَّقلة الأخيرة منَ الرَّمزيَّةِ إلى السّرياليَّة أي الحُلُم وهو الذّروَة. ويرى بعضُهم أنَّ الذّروَة في الجُنون المرحلةِ المتقدّمَة من الحُلُم. وهكذا اجتازت الأشكالُ الجماليَّة من التماسِ المباشر مع الخارج نحو الانفعاليَّة الوجدانيَّة فالإيهاماتِ الرُّوحيَّة وصولاً إلى الحُلُم ثمَّ الجُنون. الجُنون واضح عند أنسي الحاج وبول شاوول، وعند الرَسّام سلفادور دالي مثلاً كأفضل رَمز للسّرياليَّة في القرن العشرين. لوحاتُه السّاحرَة تارةً هي خرافة وطورًا هلوساتٌ وهذيان، ولكنَّها مبهرَة. وهكذا كلّما ابتعدَ التّعبيرُ عن الخارج العَينيّ وغبَّ من أعماق الذَّاتِ صارَ أصعَب. والنّتيجة أنَّ الذّات هي الصَّعبة وأحاجيها معقَّدة وتفسيرَها أيضًا صَعب.
وإذا كان الأدبُ سهلاً فغالبًا ما يتّصلُ بالمَلَكاتِ الدُّنيا، وأمّا الأدَبُ الصَّعب فهو المتّصل بالمَلَكاتِ العُليا في الوجدان. الأدَبُ السَّهل هو أدَبُ المناسبَة والحُبّ والثَورَة والذّكريات والهيام في الطّبيعة الأمّ ربيعِها وخريفِها، والغوص في الوَجد والشَّجَن، والأدَبُ الصَّعب هو الذي يفكّرُ ويتأمّل ويَستنتج، هو الذي يبحث عن المغامَرَة والرُّؤى التي تطلقُهُ من سجن المادّةِ والرّتابَة إلى عالمٍ زاخرٍ بالدَّهشة، هو الأدَبُ المتمرّدُ على الأصول والمَوروثات لا كرهًا لها بل لأنَّها عباءَاتٌ ضيّقة جدًّا على روحه الجامحَة، لأنّه بكلّ بساطة يَتوسَّلُ الأحلامَ مَعبَرًا ومَخاضًا نحوَ الحَقيقة والمُطلق، ولهذا فرحلتُهُ حافلةٌ بالغموض والضَّبابيَّة. يقول أندريه بروتون: “يجبُ علينا أن ننقّبَ عن أحلامِنا المَطمورة تحتَ ركامِ الحِسّ ونفاياتِ المنطق، ولا بدَّ لنا من أن نتدرّبَ كي نستعيدَ تلكَ البراءَة الأولى من جديد”. وأيضًا لويس آراغون يقول: “الصّدفة والحُلُم والخَيال أدواتُنا لإبداعِ التّجربَة الفنيَّة التي تجسّدُ الحقائقَ البكر، وترفعُ العالمَ الممسوخ والطّروحَ الواقعيَّة التي وشَّحَتْ وجهَه بالقبحِ والرَّتابة”.
وبالمناسبة.. الآدابُ الأكثر قدَمًا غنيَّة بالنّتاجِ الرَّمزيّ والسّرياليّ: الملاحمُ والمسرحيَّات الإغريقيَّة برموزِها وأساطيرها، ملحمَة جلجامش، حكايات ألف ليلة وليلة حيث الفانتازيا تتجلّى بأبهى صوَرِها، الأدَب الدّينيّ عن الفينيقيّين والمصريّين وبلاد ما بين النّهرين، سِفرُ الرّؤيا ليوحنّا البَشير لوحاتٌ رَمزيَّة سرياليَّة رائعَة. ويبدو أنَّ النّزعة الفانتازيَّة في الوجدان حاجَة متأصّلة.. بل هي الدّاءُ والدَّوَاء في آنٍ معًا.
في الشِّعر السَّهل تنقل لكَ الصُّورَةُ معنًى ما ذهنيًّا محدّدًا لا يختلفُ عليه اثنان، ولكن في الشِّعر الصّعب لا تحمِلُ لكَ الكلماتُ معنًى ذهنيًّا تقريريًّا حتميًّا وإنّما تخلقُ لكَ فضَاءً أو مَرجَةً غنّاءَ تختارُ أنتَ منها ما يناسبُ احتياجَك. الحُلُم واحدٌ وله تفسيراتٌ عديدة مختلفة. خربشَاتُ البُنِّ على جدرانِ فنجانِ قهوتِكَ قصيدةٌ صَعبة، وقارئة الفنجان ترويها لكَ في شكل رَموزٍ وسرياليّات. ورُبَّ قارئةٍ أخرى تخرجُ لكَ من الفنجانِ نفسِه شيئًا آخر! هكذا الشّعرُ الصَّعب.. كلُّ قارئٍ للقصيدة شارحٌ.. بل مبدعٌ آخرُ لها.. وما يراهُ فيها لا يراهُ سواه. الشِّعرُ الصَّعب هو الكثافة عَينُها لأنَّ الصُّورَة الواحدة حابلةٌ بمَعانٍ عديدة، ووالدةٌ لبَنين وبناتٍ في قلبِ كلِّ قارئٍ جديد. إنَّ الشّعرَ الصّعب ليسَ انثيالاتٍ مَجَّانيَّة وتعاويذَ وطُرَفًا وصوَرًا مفكّكَة عن قصدٍ بغيةَ الابهامِ والغموض عندَ المتَشَاعرين، بل هو بالحري إسقاطاتٌ وإشعاعاتٌ للذّاتِ الغامضَةِ البرِمَة بالحدودِ والمقاييس والتّكرار، والباحثة عن الحُريَّة بعيدًا عن فضوليَّةِ وصَخبِ الواقعِ المادّي عند الشُّعَرَاء. وأخيرًا فإنَّ الشّعرَ السَّهل والشّعرَ الصَّعب توأمانِ ظريفانِ في دروبِ الابداع. فلا يتفاخرِ الصَّعبُ بفنيَّتِهِ وعُمقِه ولا السَّهلُ بعفويّتِه وجَماهيريَّتِه، وليَقبَلْ واحدُهما الآخرَ كونَهما لونَين من ألوانِ الجَمالِ الإنسانيّ.
سامي معروف /شاعر و روائي