أدب وفن

سفر على متن القصيد/ قصيدة الشاعر محمود صالح / قراءة د. نوال سيف

“آن له أن يموت ” قصيدة الشاعر محمود صالح

القصائدُ التي تعمِّدُنا بمائها المقدَّس
وتخلعُنا على الرَّهْبنة
كيفَ لا نأكلُ كِسرةَ خبزِها
في العشاءِ الأخير
كيف لا ندقُّ في جراحِ سنابلِها
مساميرَ القيامة
ذاك سُؤالُنا المسفوح بأوليائه
نُصلِّبُهُ ولا يتوب
وما يومًا ترجَّل
*
لا أعراسَ للسُّراة
وقد عرجوا بدماءِ القصيدة
على قارعةِ حُلمِها
زفُّوا النَّخيلَ بالكفن
تركوا على فمِها
أبجديَّةً بلا وطن
بعيدًا في سِفْرِ أسفارِها
نخرُّ على سُجَّادةٍ بلا صلاة
نرعى ما احْلَولَكَ من قُطعانِ السَّماء
ونُقيمُ الحدَّ على العابرينَ بالمطر
من ألِفِ الضلوع
إلى ياءِ الوُلوع
نقطعُ تذاكرَ السَّفرِ بلا رُجُوع
*
ما بيننا لحيةُ الطريق
ولا يُشرقُ وجهُ المدى
فلا شمسَ لدالياتِ الفِقدِ
ولا عصافيرَ لذاكرةٍ
نقنُصُها على أغصان السُّطور
وحدَها النَّاياتُ
تقضمُ أصابعَ الأرض
ولا تُفضي بأحزانِها لأحد
*
آنَ للَّيلِ أن يُغمضَ عينيه
آنَ لهُ أن ينام
آنَ لهُ ألَّا يصرُخَ في وجهِنا
لا لا .. آنَ لهُ أن يخرسَ تمامًا
آن للطفل في بلادي
أن يقتفي آثارَ طفولتِه
لا آثارَ جُثَّته
آن للموتِ أن يستحي من لحمِنا
آن له ألَّا يُخصبَ في رِحمنا
آن لي أن أراهُ عقيمًا
آن للموتِ في بلادي أن يموت
آن لهُ .. أن يموت
.
” أناقة الغياب “

قراءة أدبية للدكتورة نوال سيف

يبدع الشاعر في إعادة إنتاج النصوص من خلال استخدام التناص كوسيلة للتعبير عن رؤيته الفنية وعن حالة شعورية مسيطرة، بصورة تحمل دلالات إيحائية ورمزية مكثفة تغني النص وتكثف الدلالة .
يستعرض الشاعر في مطلع هذا النص مأساة الشعب الفلسطيني من خلال عملية التناص مع رموز مسيحية، يستفز من خلالها مرجعية المتلقي المعرفية والثقافية، حيث يوظف رمزية العشاء الأخير وقيامة المسيح عليه السلام توظيفا أدبيا، بعد تفكيكها وإعادة تركيبها وصياغتها في سياق شعري، يعقد فيه الشاعر تناصا بين تجربة معاناة المسيح عليه السلام وبين المعاناة التي يعيشها هو وشعبه …. فالتعالق والتماهي بين التجربتين واضح، فكلاهما المسيح عليه السلام والشعب الفلسطيني يتعرضان للاضطهاد والخيانة والغدر والقتل …
كيف والحال هذا لا يكون للفن (القصائد) التي هي نبض الشاعر، والتي تمتلك خاصّية الاستشراف والتجاوز ببعدها التراجيدي، أن تذكي العاطفة الوطنية وتعلي الشعور القومي لدى الوعي الجمعي تجاه قضيتهم المقدسة (القصائد التي تعمدنا بمائها المقدس .. وتخلعنا على الرهبنة .. كيف لا نأكل كسرة خبزها في العشاء الأخير)

ذاك هو السؤال المشروع والمُلحّ لأولياء القضية، الذي ما يزال يؤرق الشاعر ويقهره ويحيره ( ذاك سؤالنا المسفوح بأوليائه .. نصلّبه ولا يتوب .. وما يوما ترجّل).
يتساءل الشاعر .. كيف يكون الخلاص من دون التضحية والفداء والموت وقوفا على صليب الآلام … عنوان الثبات على المبدأ، وحقيقة قيامة هذا الشعب على الرغم من الجراح مكللا بالنصر الإلهي، متمثلا تجربة المسيح عليه السلام ( كيف لا ندقّ في جراح سنابلها مسامير القيامة) ..
رائع هذا الاستهلال بالجملة الإسمية في مطلع القصيدة إشارة إلى ثبات الرؤية، وقد أبدع الشاعر في توظيف رمزية “العشاء الأخير في التراث الديني وقيامة المسيح عليه السلام” وذلك لكثافتها الدلالية ولما تتمتع به هذه الرمزية من حضور في الوعي الجمعي، والتي مازالت تشغل الفكر الإنساني الأمر الذي يسهّل عليه إيصال رسالته ، حيث يشكل المقطع الأول في هذا النص محور الارتكاز الذي تتكثّف فيه فاعلية الرمز واللغة في إنتاج الدلالات، لتنفلش إشعاعاتها في جميع محاور النص …
في النص .. يحاول الشاعر الخروج من دائرة الهم الفردي للتعبير عن الهم والوجع الجماعي لما آلت إليه الأمة من ضعف وهوان، حين استشرى فيها الفساد والظلم والاستعباد وعقم حلم الخلاص (لا أعراس للسراة .. وقد عرجوا بدماء القصيدة .. على قارعة حلمها) .. فبدت أمة عاجزة مغيّبة ميتة لا حول لها ولا قوة. وقد أحسن الشاعر في التعبير عن ذلك حيث تمّ استدعاء رمزية النخيل (زفّوا النخيل بالكفن)، رمز الحياة والبقاء ورمز الشخصية العربية، إشارة إلى ضياع الهيبة وما تعيشه الأمة من ظلم وظلام وضياع الأوطان وتشرد واغتراب، وإجهاض أي محاولة للثورة على هذا الواقع … حتى غدت الاوطان كلمات وأناشيد تتردد في المهرجانات (تركوا على فمها أبجدية بلا وطن .. بعيدا في سفر أسفارها .. نخرّ على سجادة بلا صلاة .. نرعى ما احلولك من قطعان السماء، ونقيم الحد على العابرين بالمطر .. من ألف الضلوع إلى ياء الولوع … نقطع تذاكر السفر بلا رجوع).
وفي النص .. لجأ الشاعر إلى توظيف رمزية اللحية من التراث الإنساني (ما بيننا لحية الطريق .. ولا يشرق وجه المدى)، والتي ترمز إلى الهيبة والقوة والسلطة والكرامة، للتعبير عن المعاناة والحال التي آلت إليها الأمة حين فقدت السلطة الجامعة والقوة الرادعة، سبيل الخلاص والعزة والكرامة، وإشارة إلى ما يعنيه فقدان الوطن من حزن وعذاب من وجع الغربة والاغتراب، وفقدان الذاكرة والإحساس بفقدان الأمان والانفصام عن الذات … فالبعد عن الوطن حسب الرؤية يعني الموت المحقق (فلا شمس لداليات الفقد .. ولا عصافير للذاكرة، نقتنصها على أغصان السطور .. وحدها النايات تقضم أصابع الأرض .. ولا تُفضي بأحزانها لأحد)
وقد ساهمت بنية التكرار في النص بما تحمله من قيم إيقاعية ودلالية في تأكيد هذه الحالة الشعورية التي تملّكت نفس الشاعر والتي انعكست في حالة الاستلاب والقهر التي يشعر بها، وفي التعبير عن الحلم والرغبة في الخلاص … وليعلو صوت القصيدة بالرفض لكل وجه من وجوه الاستلاب والموت (آن لليل أن يغمض عينيه .. آن له أن ينام .. آن له ألّا يصرخ في وجهنا) … بل إن الشعور الحاد باليأس والعجز جعل الشاعر يثور للطفولة الموؤدة صارخا أنه كفى، حان الوقت أن يكف الموت بلاءه عن هذا الشعب (لا لا .. آن له أن يخرس تماما .. آن للطفل في بلادي أن يقتفي آثار طفولته، لا آثار جثته)
لقد أبدع الشاعر في هذه الصورة التي تجسد الموت من خلال هذا التشكيل الاستعاري، والتي أضفى عليها الخيال أبعادا جمالية ودلالية تبرز استشراء الموت وتسلّطه على شعبنا وإخصابه … حيث تحول الموت حسب الرؤية عن طبيعته المجردة إلى طبيعة أخرى محسوسة جعلت منه شخصا ذا قدرة خارقة وقوة نامية، حتى بات الرجاء عقمه وانقطاعه (آن للموت أن يستحي من لحمنا .. آن له ألَّا يُخصبَ في رِحمنا، آن لي أن أراهُ عقيمًا) …
لقد قهر الموت هذا الشعب حتى غادرة المنطق في تمني المستحيل، وهو موت الموت (آن للموت في بلادي أن يموت، آن له .. أن يموت)، فهل يموت الموت حقا؟ وما الذي أراده الشاعر من خرق حقيقة الموت المجرّدة ومفهومه في سياقه المعرفي وتحول صورته إلى المثول والتعيين في هذا السياق الشعري؟
إنها الرؤية الشعرية التي تمثل صدى انفعال الذات ووعيها وموقفها من الموت، الذي تَجَسّد في هذه الصورة التي تبدو بعيدة عن المنطق وخارج حدود التوقع، والتي يشكل فيها الموت هاجسا مروّعا يلاحق هذا الشعب بسطوته وشدة وطأته وقهره … إنها صرخة تكشف عن عمق الألم والمرارة في أعماق الشاعر، وفجيعته بالموت وظلاله الثقيلة الجاثمة على الشعب الفلسطيني …

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى