سينما قصيدة النثر / أماني غيث وشعر التحريض على الحياة
سينما قصيدة النثر (2)
أماني غيث وشعر التحريض على الحياة (1)
عبدالله السمطي
تعبّرُ الشاعرة أماني غيث في أحد نصوصها عن رؤيتها للكتابة الشعرية، وترى أنها تكتب قصيدتها كي تحرّضَ على الحياة. القصيدة عندها حياة ضد الحياة . الحياة اليوم التي ينتجها عصر راكض متسارع، يتخلى فيه عن قيم الجمال والحق والخير، فيما يشتّتُ الذات ويبعثرها بل ويدفع بها إلى الفناء المجاني. أماني غيث تقول هذه الرؤية، كمبدأ رؤيوي ، كفكرة شاملة تتكئ عليها في تقديم تجربتها الشعرية، ولذا فهي من شاعرات الرفض والتمرد، رفض هذه الحياة الراهنة التي تفضي إلى فناء ما، وإلى توحش النموذج الإنساني، فيما تصبو إلى حياة أخرى مغايرة تحيا فيها الذات الشاعرة بكل حريتها ونزقها الجمالي – إذا صح التعبير – وهي هنا تراودنا لندمج الوعي القارئ في سبل نصوصها الشعرية ، وتدعونا لكي نقطف مكامن ثمرات كتابتها ، فكيف نقرأ رؤية الشاعرة أماني غيث ؟
شعرية الصدمة:
في المستهل سوف نلامس هذه الصدمة الأولية المبنية على النفي، نفي الكتابة، ونفي الإبداع الشعري الذي تنهض به الشاعرة. إنها تؤسلبُ بنية منفية متكررة من أجل أن تصدمنا لنعي أكثر ونتيقظ ونلحظ بتركيز شديد مقصد الشاعرة من الكتابة.
تختتمُ أماني غيث نصا صادما بالقول :
أريدُ أن أختفي
أن تبعدوا عني أصابع الاتهام
لا
لستُ شاعرة.
النفي هنا بنية مسنونة صادمة، فهي تنفي أن تكون شاعرة، هو نفي مفارق لا نفي حقيقي بالأحرى، فالشاعرة هنا تقدم رؤية ضدية، ربما ضد واقع يهمّشُ الجمالي ويهمش الذات الشاعرة نفسها التي تبدع وتخلق عبر اللغة والتصوير، مرتكزة على تقديم عمل فني ليس له سابق وجود على مستواها الفردي الذاتي أو على المستوى الجماعي، فكل قصيدة تُكتب هي بمثابة خلق جديد لا توأم له.
في ظل هذا الوعي تكتب الشاعرة بألم ونزق يتأمل أكثر ولا يثور، يغضب برهافة تشعُّ في علاقات الكلمات والجمل، ولنصغ لهذه البدايات في النص:
يردّدُ البعضُ إني شاعرة
والحقيقة أنا مجرد لاعبة سيئة
تصوّبُ كل سهامها نحو الشعر
وتخسرُ غالبًا
بل تخسرُ دائما
…
وأنا أيضا لا أجيدُ الكتابة
أنا فقط أرقصُ فوق الورق
أمدُّ خلخالي حتى آخر السطر
وأختمُ الجمل المفيدة
بقبل منقوعة بأحمر شفاه
الشعور بالفقد إزاء الكتابة الشعرية وبالخسران هو شعور هلامي هنا، غير جوهري لكنه يشير ، بمعنى ضمني، إلى حسرات الكتابة، وصعوبتها والتزامها ، وأن كل قصيدة تكتب لا تعبر تماما عن الحالة الشعرية، وأن أجمل النصوص هي التي لم تكتب بعد. هذا هو المعنى الضمني الذي تزجيه الشاعرة من وراء عبارتها :” الحقيقة أنا مجرد لاعبة سيئة تصوب كل سهامها نحو الشعر” وهو تصويب رابح – على اليقين – لأن الشاعرة تُجمّل هنا بالمفارقة ، ففيما تقدم نصًّا له كينونته التعبيرية يحملُ نبضها ونبرتها، تنتقد – بوعي مفارق- هذه الكتابة وهذا الشعر، وتطنب في هذا النقد، لكنها تقدم بشكل ظاهر جلي رؤيتها للكتابة الشعرية في ستة أسطر متتالية تبدأ بالفعل المضارع الموجه للمخاطبين مسبوقًا بأن المصدرية للتأكيد على هذه الرؤية:
من الأفضل ألا أكملَ لن أكملَ
لكن عِدوني أيها الشركاءُ في الجنون والسوء
أيها الموغلون في الاحتراق
غدًا إن ماتت يداي
ودخل فمي في غيبوبة
عِدوني
أن تغسلوا اللغة جيّدًا
أن تمسحوا الغبار عن الكلمات القديمة
أن تنشروا السطور والهوامش في الهواء
أن تحرقوا صوتي وتنثروه في الريح
أن ترموا الغياب فوق اسمي
أن تطمروه بحرص
أريدُ أن أختفي
أن تُبعدوا عني أصابع الاتهام
لا
لستُ شاعرة .
هكذا تتتابع الرؤية بأن المصدرية، الشاعرة تجتهد في تكثيف رؤيتها فلن تتجدد الكتابة الشعرية بالاحتراق وحده الذي تعايشه الذات الشاعرة، ولكنها تتجدد بإزالة ركام اللغة وغسلها، ومسح الغبار عن الكلمات القديمة والكتابة في الهواء الطلق … إلخ ما جاء في أسطرها التي تصور بها رؤيتها المكثفة للكتابة. الشاعرة هنا تريد خلقا شعريا جديدا، هي تلمح له وتبرزه ، وتضع إطارًا جماليًّا لما يُكتب، أو تصبو إلى كتابته في تشكيل يعيد خلق اللغة وابتكارها وتجديدها، ولذا فإن الذات الشاعرة بالنص لم تقنع بما تكتب حتى اللحظة، وتصل إلى نفي الشاعرية ، :” لا لست شاعرة” .
إن الوعي بآليات الكتابة يتجسد في هذه العبارات الصادمة في تمظهرها الأولي، بيد أنها تقدم مفارقتها من أجل السعي صوب التغيير والتحريض على حياة نصية جديدة.
*شاعر و ناقد