من رأى منكم زينبا؟/ قصة قصيرة/ د. محمد إقبال حرب
من رأى منكم زينبا؟
صبيّةٌ جميلةٌ محجّبةٌ، أحببتُها مُذ كنّا أترابًا نُسابقُ ضِحكةً سرقتها فراشةٌ … مُذ كان اللّيمونُ في الضاحية بساتينَ خلابةً. مذ كانت الطُفولةُ وطنَ سلامٍ.
هي من الضاحية
من بعلبك
من الجبل
من الأرز وجنوبي المحبّبا.
خدُّها موشوم بنَدبةٍ أحدثَتها شظيّةُ عدوان، ذراعُها شلَّه عصفُ صاروخ في حرب تموز، يوم لجأت إلى كنيسةٍ آمنةٍ في قانا هربًا من وحشيّة بني صِهيون… دمَّر الكنيسةَ بحِقدٍ وجُنون… يومَها نجت بأُعجوبةٍ نادرة.
وذاتَ يومٍ من صِراعِ البقاء، تجلّى كابوسٌ جهنميٌّ ممدودٌ، إلى زمنٍ بلا حُدود، أنذَر بدمارٍ غير مسبوق من عدوّ يعيشُ على القتلِ والتدمير، رفضَت الهُروب من الضاحية، فالموتُ لم يُخفها. رجوتُها بحُبٍّ وخوف فلم تستجِب. كتبتُ لها مقسمًا عليها أغلظ الإيمان حتى تخرجَ ونلتقي بأمان.
قبل أن تقرأ الرِّسالة، فارَ البركان، من سماء تنزِف نارًا، صواريخَ من حِمم موت ودمار. موتٌ لا يُفرّق بين البشر والحجر. لم يتسنَّ لأحد أن يصرُخ صرخة الوداع قبل أن يتفرّق شظايا وأشلاء. تبخّر البشرُ، في برُكان موت مُستعر ففاضت الأرواحُ بدُموع الفناءِ.
أزينب بينهم، تحت الرُّكام؟ أم تبخّر جسدُها بموت زوءام؟ أتُراها تفرّقت أشلاءً؟ يا ويلتي من عذابي في عالم البقاء. لم أذهب إلى هناك بحثًا عن جُثمانها، خفتُ أن أدوسَ على بقاياها، بقايا بشرٍ، أهلٍ، أصدقاء … مُحبّين أوفياء.
لم تنتهِ حربُ الإبادة، لم تتوقّف مخالبُ الشرّ وأنيابُه من سفك الدماء والانتعاش من رائحة شِواء أهلِنا. كأنما العالمُ وكلّ بني صِهيون تآمروا لتفجير بركان المنون فينتشون بشِواء إنسانيّتنا المقدّسة. نعم، إنسانيّتُنا مقدّسةٌ كما كلِّ إنسانٍ على وجهِ الأرض.
لكنّه عصرُ لوسيفر، الشيطان المطرود المتوحّش بلا حدود.
عصرُ أتباعِه مصاصي الدِّماء، قاتلي الأطفال والبراءة، كارهي الجمال والسَّلام.
عصرُ الخونةِ والحقدِ المعطّرِ بنجاسةِ الرُّوح وعفانةِ السَّريرة.
عصرُ التكنولوجيا القاتلةِ والامبراطوريّةِ الشريّرة.
رُغم الضوضاء والدَّمار والبُكاء، رُغم التفجير والتدمير، رُغم النُزوح والتهجير سمعتُ صوتَ زينبا يخرُج من مكان، من بين الرُّكام، من الأرضِ المجبولةِ بالدِّماء، من فضاءٍ تكاثف برائحة شِواء البشر، من غُبار الدَّمارِ المستمرّ… سمعتُ صوتَ زينبا. توضأتُ وضوءَ وداع، وسِرتُ إلى حيثُ كان بيتُها. مشيتُ الهوينا أبحث عنها بين الرُّكام أسال بقايا المدينةِ “من رأى منكم زينبا؟”
سمعت صوتها يعافر الفناء، عبر أرض مجبولة بالدماء:
“أنا هنا، أشلائي بين الرُّكام… اجمعني بيديك لأنام”
محمد إقبال حرب