أدب وفن

ليلٌ .. يملأ رئة الأبد ! قراءة في ديوان” هكذا أنا” لعبد المجيد التّركي و” العلاج بالكتابة” لمنال العويبيل

ليلٌ .. يملأ رئة الأبد !
قراءة في ديوان هكذا أنا لعبد المجيد التّركي و العلاج بالكتابة لمنال العويبيل

بقلم : محمد صالح صرخوه
الخميس 21 يناير 2021
الكويت

سيريالية العالم :
1- أفق الحلم .

كلّ شيءٍ يتحرك في هذه الليلة
كميّتٍ يريد إقناعكَ بأنّه يتنفس ..
أنصتُ للجدرانِ و هي تحاول فضَّ نزاعٍ
بين أحجارها العتيقة ..
و أرى الزّجاج يتلوَّن بعد أن تعب من الشّفافيّة
التي يسمعها في خطابات السّاسة ..

يرعشني الخوفُ
فأغطّي وجهي كي لا أرى الجنيّة الشّمطاءَ
التي تأخذ الأطفال الذين لا يستمعون لكلام أمّهاتهم ،
و أنسى أنني في السّادسة و الثلاثين !!

يقول شهاب الدين السهروردي الشهيد في كتابه حكمة الإشراق في مطلع قسم التصور و التصديق (هو أن الشيء الغائب عنك إذا أدركته ، فإنما إدراكه – على ما يليق بهذا الموضع – هو بحصول مثال حقيقته فيك ، فان الشيء الغائب ذاته إذا علمته ، إن لم يحصل منه أُثر فيك فاستوى حالتا ما قبل العلم و ما بعده ، و إن حصل منه أثر فيك فلم يطابق بما علمته كما هو ، فلا بد من المطابقة من جهة ما علمت ، فالأثر الذي فيك مثاله ، و المعنى الصالح في نفسه لمطابقة الكثيرين اصطلحنا عليه بالمعنى العام ، و اللفظ الدال عليه هو اللفظ العام ، كلفظ الإنسان و معناه ، و المفهوم من اللفظ إذا لم يتصور فيه الشركة لنفسه أصلا هو المعنى الشاخص ، و اللفظ الدال عليه باعتباره يسمى اللفظ الشاخص ، كاسم زيد و معناه ، و كل معنى يشمله غيره فهو بالنسبة إليه سميناه المعنى المنحط) .

يتداعى الهرمان ، السياسي و الاقتصادي .. فتتدافع التفاصيل اليوميّة نحو الانهيار ، تماماً كأحجار الدومينو ، يتبع بعضها بعضاً ..
وسطَ تضخّم الأنا السّياسية . و سيادة النموذج البطريَركيّ قابضاً على زمام السّلطة ، دون ترك أدنى مُتنفّس للمرء للاحتفاء بألمه .. و فعالياته ، ذات الشمعدانات النّازفة في طوايا الظلمات .. تموت الدّواخل .

إنّ الفرق الوحيد بين ضربات الشمس ذات الدّوار المتأجّج في رأس رياضيٍّ يُعد جسده لدورة ألعابٍ أولمبيّة ، و عسكريٍّ مقاتلٍ على شرف الملوك .. هو ذاك الذي نسمّيه حريّةً . إذ يمكن للخبير في مثل هذا الشّأن تأكيد مقدار القسوة الواضحة على نمط الاستعدادات التي يخضع لها الرّياضيون المقبلون على دورة الألمبياد .. بيد أنّ ما يُترجم صرخات المدرّبين في الخارج لدغدغات داخليّة يستشعرها المتدربون ليس سوى المنظار النّفسي الذي يخوضون فيه يومهم الصّعب .. و الذي يكون في هذه الحال ، مساراً ضروريّاً نحو ذهب المراكز الأولى ..

يرى إخوان الصّفا العالمَ انساناً كبيراً ، على غرار العالم الصّغير .. أي الانسان الفرد . و بذلك يمكن فهم الخارج كلّه انعكاساً لما يجول في دواخل البشر .. و النّاس على دينِ ملوكهم ! فإن وجدتَ الملك يعطي اهتمامه البالغ للمطابخ ، فستجد الشّعب يتهافت عليها ، و الحال نفسه يمكن جرّه عليهم إن كان الملك مصاباً بوعكة الأنا !

لا يخفى على المتتبع لمراحل نمو الدّول و المجتمعات ، ضرورة مرورها على المراحل الثلاثة المعروفة .. و التّي يمرّ بها الإنسان نفسه .

النهوض ، الذروة ، فالانهيار .

تحدث الإنهيارات كما يرى أفلاطون في طغيان الحاكم ، و بلوغ الدولة طورها الأوليجاركيّ حيث تكمن قوتها في قطب واحد يساوي بين عامة الناس و الفيروسات في فعل المكافحة ! و هنا تُظهر الانهيارات النّفسية وجهها القبيح جاثمة على صدور الناس انتظاراً لشرارة الجنون الأولى و قيام الثّورات . و لعلّ أشدّ ظهورات الانهيار حدّة هو فقدان الشّعور بالمعنى .. و الأشدّ منه ، فقدان الشعور بالقيمة الشّخصية !

إذ ذاك يتزاحم الناس على أساليب رتق هذا الثقب الآخذ بالاتّساع في منتصف النفس . فنجد هذا التدافع على التقاط مقاطع الفيديو بشعورٍ مدفوعة إلى عَقبِ الرأس بطنٍّ من المثبّتات مع الحرص على تصنّع عدم الانتباه للكاميرا ، و تشتّت البعض بين أدوارٍ شتّى ، فتارةً رياضيٌّ فذّ ، و تارةً حكيمٌ مشّائي ، و تارة شاعرٌ و أخرى شيف مطبخ شعبيّ .. متناسيًا الآخرين الذين يقومون بالمثل .. و لا أحد يملك وقتًا للالتفات لبايو الآخر !

هم يقومون بكل ذلك ، لغير غايته ..
يبتاعون الكتب ، لا لقرائتها ، بل لنقل صورها على المواقع ، و يقرؤونها ، لا لتغذية ذواتهم ، بل ليظهروا ثقافتهم وسط الناس ، و يكتبون ، لا لأنّهم كتّاب ، بل للبحث عن مُصفّقين ، و يجلسون في المقاهي ، لا ليشربوا الاسبرسو ، بل ليمارسوا الجنس !

يبحثون هناك في الخارج .. لاهثين ، لأنّ الدواخل ماتت ، و ما عاد ثمّة كنز في المغارة ، و ما عاد ثمة علي بابا و لا أربعون حرامي ..

على الرّغم من انجذابهم التّام خارجاً ، و رغم تعدد وسائل التّواصل الاجتماعيّة الافتراضيّة و غيرها ، إلا أن انقطاع الجسور النّفسية بات واضحًا لدرجة بات يتفهّم فيها المرء سبب عدم ردّ التحية التي يرسلها لغيره على الشاشات الخاصة ، فعدم الرّد بات يرفع من قيمة صاحبه ، كما بات التسابق على مقام الضربة الأولى في قطع علاقة عاطفيّة ما ، غاية انطلاق العلاقة !
استهلاكيين في كلّ شيء .. مُستهلِكون .. و مستهلَكون .

يتداعى الإنسان ، يتهاوى العالم .. و يفقد كلّ شيء قيمته الحقيقية ..
يرى مارتن هيدجر ذلك كلّه ممثلاً أطوار النّفس البشريّة الوجوديّة .. فهذه مرحلة تمثّل الخسران ، حيث يستشعر صاحبها الموت رغم مشيه في الشوارع المتخمة بالناس و السيارات .. و سُحب الدّيزل .

بحثاً عن أصالته . يلجأ الانسان إلى حياته الدّاخلية ، بحثاً عن حيثيات يتقصّى فيها بذوره الأولى .. ليشعر بأنّه هو .. كما يسمّي عبد المجيد التّركي ديوانه (هكذا أنا) ، تماماً كمن يصفع نفسه بكل ما أوتيَ من قوة ، ليتأكّد بأنّه ليس شكًّا ديكارتيًا يسبق ظهور الكوجيتو . و إذ ذاك يلجأ إلى الخبايا ، بحثاً عن طفولته .. و هي ليست طفولةً عمريةً بقدر ما هي فطريّة . يجد فيها أرضه الأولى ، حيث امّحاء الحدّ الفاصل بين سماء الحلم و أرض الواقع .

يقول عبد المجيد التّركي :

أريد أن أعود كما كنت ،
قروياً يحتفل بانتهائه من “ربع يس”
و نصف عصا المدرّس الكفيف ..
يسمع صوت العلكة
و يعرف هوية الأسنان التي تمضغها .

كأولئك الذين كانوا ينقشون رؤاهم على جنبات الكهوف بالصّخور الحادّة ، و انعكاس اللهب المتأجّج للدّفء . يخاطبون الأرواح ، يستهدون بالرّيح ، و يقرأون كلام الرّمال .

هنا تحديداً ، في قلب نقطة الظّلام الأعتم الأحلك .. يظهر نجم السّيريالية ، و تنقدح لغتها القصوى ..
أدرك فريدريك نيتشة ذلك قبل قرنٍ و نصف ، في ظروف سياسيّة و اجتماعيّة تتشابه و الظروف الرّاهنة ، لذا استنبط كلّ فلسفتة من روح الموسيقى ، تحديداً التراجيديّة منها . و أعاد تأسيس الفلسفة على أساساتها اللغويّة الأولى ، التي كانت على عهد هيراقليطس صاحب الشّذرات ، و بارمنيدس صاحب خالدته في الطّبيعة ..

**

2- اللغة الليليّة .

يوزّع فريدريك نيتشة في كتابه مولد التراجيديا أدوار العالم إلى قسمين ، فالأول أبولونيّ (نسبة لأبولو ، إله الشمس الاغريقي) ، و الثاني ديونيسي (نسبة لديونيسيوس ، إله الفوضى) .

تظهر تجلّياتهما (بحسب نيتشة) في الأشياء ، فهناك النّظام ، والقانون اللذان يتبعان نموذج أبولو الشمسي ،في حين يأتي النقيض الفوضوي ذي الميول التدميرية الظلمانية ديونيسيّاً . و إذا ما قمنا بجرّ هذين الطّورين إلى إطار اللغة الإبداعيّة ، على غرار نيتشة مع الموسيقى ، يمكن الخروج إذ ذاك بإمكانيّة تصنيفات إضافيّة إلى أدوات التصنيف الإبداعية المعروفة . إذ يتبّن أن ثمّة لغتان ينزح إليهما الكاتب بحسب ميوله الفكريّ ، و تقلبات النفس ..

و أبرز ما يمكن تقصّيه من النظامين هو تجلّي الحالتين وفقاً لنظام الصّوت ، الصورة .. و المفردات المستخدمة . و بذلك يمكن تسمية القصيدة الأبولونيّة نصاً نهاريّاً ، على أن تكون الديونيسيّة ليليّةً ..

يتميّز النصّ النهاري بالتالي :

1- يتبع نظاما صوتيّاً ، عروضياً معروفاً أو ايقاعيّاً مبتكراً .
2- تتمحور الفكرة العامة فيه حول الإيجابية ، و رؤية الخضرة في القلب القاحل ، و حثّ الناس على الحياة ، و تقديم الوعظ و النّصح ، و المفاخرة و الاعتزاز و التمجيد ، و ما إلى ذلك من كافّة الصّور الموجّهة .
3- يتضمّن في معظمه مجموعة مفردات ايجابيّة تفيد الغرض العام من القصيدة .

في حين يتميّز النصّ الليلي بالعكس :

1- يرفض النّظام الصّوتي و يعتمد الفوضى بحرّيةٍ تامة .
2- تتحور الفكرة العامة فيه حول العدميّة ، و الانكسار ، و الألم ، و للاجدوى ، و عدم انتظار المردود .. و الاستسلام التام . كحالة للتّطهر من النوبات النفسيّة القاسية المتأتيّة من الواقع الخارجيّ المرّ .
3- يتضمّن في معظمه مجموعة مفردات سلبيّة .

إذا نظرنا إلى الفنّ باعتباره مطهراً ، فيمكن اعتبار النصّ الليلي نصاً مَطهريّاً ، يسكب فيه الانسان كل سوداويّته ، يطّلع عليها الآخرون ، فتلامس أوجاعهم .. فيتطهّرون منها ، تماماً كما أسمت منال العويبيل ديوانها (العلاج بالكتابة .. الحياة باعتبارها مصحّاً جماعيّاً) .

في حين يمكن اعتبار النصّ النهاريّ نصاً ما بعد مَطهريّ ، إذ يأتي بعد الاستكانة و إعادة النفس إلى أصالتها في مراحل الوجود الهيدجريّة . بعدما اجتازت بوّابة الخسران ، و نصوصها الليلية .

كما لا يمكن انكار النسبة و التناسب في هذه القاعدة ، فقد يأتي النصّ مختلطاً ، نهاريّ الصوت (تابعاً لنظام صوتيّ) ، ليليَّ الصورة و المفردات . و العكس صحيح كذلك .. بيدَ أن للصورة رتبةً أعلى من الصوت في عالم الكتابة الإبداعيّة . فبذلك يكون النصّ ذو النّظام الصوتي النهاريّ و الصورة و المفردات الليليّة ، ليليّاً بنسبةٍ تُقارب 70% .. على اعتبار كل معيار من المعايير الثلاثة ممثّلاً الثلث من النسبة العامّة .

يقول عبد المجيد التّركي :

يخطر في بالي مسدّسٌ محشوٌّ بالنذالة ،
يتهيّأ ليبوح بسرِّه لشخص لا يعرفه ..
يخطر في بالي صديقٌ أحاول التعرف على وجهه المتعدد ..
ورقة نقدية عاجزة عن فعل شيء ..
سلّة مهملات مليئة بالأشياء الثمينة ..
صفحة صديق فيسبوكي شبيهة بمكبِّ نفايات ..
يخطر في بالي غربة اللوحة
و غرابة اللون ،
و حلمٌ قديمٌ يتكرر في لوحات سلفادور دالي .

يخطر في بالي عربة إسعاف بكماء ،
و غربان تحدّق في المرايا
تبحث عن نقطة بيضاء في سيرتها الليلية ..

تبلغ نسبة معايير النصّ الليليّ في هذا المقطع 100% .
فعبد المجيد يرفض النُظم جمعاء . صوتيّة كانت أو سياسيّةً ! ، إذ يُصرّح في مقطعٍ آخر :

بداخل رأسي رجلٌ يحدّث نفسه بالفرنسية ، بصوتٍ أجشّ ..
أهزّ رأسي متظاهراً بالفهم ..
كم أكره كلمة “أجشّ” هذه ..
بنفس مقدار كرهي لكلمة “القهقرى” و “قشيب” ،
و “نيّف” ، و “لا مندوحة” ..
“لا مندوحة” هذه تذكرني بالغثيان ،
أمسح فمي بمنجيل كما لو أنني بصقت بيني و بين نفسي ..

فابن صنعاء يسمع رجلاً بداخل رأسه يتحدّث الفرنسيّة بصوت أجشّ ، يستخدم “أجشّ” و يعلن عصيانه عليها ، و على بقيّة المفردات النّظاميّة المنتمية إلى أبولونيّات اللغة القديمة . مؤكّداً على ولائه المطلق للنصّ اللّيلي ..

و بعمليّة تقصّ دقيقة لمفردات نصّه نتبيّن مقدار انتماء لغته إلى النّظام اللّيلي بالحصر التالي :

(مسدّس محشوّ بالنذالة موجّه على شخص لا يعرفه ، صديق بوجه متعدّد ، ورقة نقدية بلا قيمة ، أشياء ثمينة في سلّة مهملات ، صفحة شبيهة بمكبّ نفايات ، غربة ، غرابة ، عربة اسعاف بكماء ، غربان ، البحث عن النقطة البيضاء في سيرة مظلمة) .

مجموعة مفردات شكّلت كافّة سطور الفقرة ، مما يجعل نسبة انتماء مفردات النصّ للصّنف اللّيلي تتجاوز نسبة 99.9% . إضافة إلى الفكرة المطروحة في النّص و الدالّة على تتالي الانكسارات و خيبات الظّن .

كتاب العلاج بالكتابة للشاعرة منال العويبيل

كما تقول منال العويبيل :

في البثّ التجريبي للفرح لا توجد وعودٌ بالدوام ،
و النجاة ليست هاجس الجسر عن نفسه حين يقف عليه الوحيدون بنيّة القفز ..
فالمارّون فوقه ..
كالماضين إلى أسفله
كلهم عابرون

و تقول :

أنظر إليكِ كلّ ليلةٍ في المرآة ،
لعينيك المستنسختين في عيني ،
لتكوين وجهكِ في عظام حنكي ،
طولنا المتقارب ،
و سلسلتنا الوراثيّة في الشّيب المبكر و الوعكات ..
إلى أن ألمح أثركِ في ندبة روحي
فأرسم على المرآة ذات الشجّ في القلب .

و تقول :

يتمسّك الوحيدون حديثاً بأغنيات الفقد
كما لو كانت قصتهم الأصيلة
بينما يمضي الشاعر و الملحن و المغني و الموزع الموسيقي و المنتج و جمهور إطلاق الألبوم إلى كوبليه آخر من الحياة
في حين يسمعها الوحيد و الوحيدة فرادى على ضفتين من المدينة ،
بخيار الإعادة الآلية
للأغنية و الفقد .

و هي نصوص لا تعتمد نظاماً صوتياً ، كما تدور كافّة أفكارها حول الفقد ، و بتعديد مفرداتها يمكننا حصر ما فيها من ليليّة :

(فبثّ تجريبيّ للفرح ، لا توجد وعود بالدوام ، الواقفون فوقه بنيّة القفز ، العابرون ، الشيب المبكر، الوعكات ، ندبة الروح ، شجّ في القلب ، الوحيدون ، الفقد) كلّها مفردات ليليّة ، مما يجعل النصوص ليليّةً بنسبة 99.9% .

كان الشّعر ، و لا يزال قائماً على البكاء .. و الأطلال ..
يشترك الشّعر و فعل التّسمية بفعاليّة وجوديّة واحدة ، تقوم على استحضار البعيد ببُعده . فالأشياء غائبة ما لم تُستدعى بالتّسمية ، و التّسمية بوّابة قناة واصلة بين الغائب و حضوره ، و كذلك هو الشّعر !

يجيء اللّيل بغياب الشّمس و إشاحة وجه الكرة الأرضيّة بأحدِ نصفَيه عنها ، تظلمّ السماء ، و تحتجب الأشياء بانعدام الرؤية ، ثم تطلع .. فتستيقظ الكائنات .

و في الأزمنة الغابرة كانت شعوب الرافدين تحتفل بغياب الملك ، يومٌ أطلق عليه المسلمون فيما بعد (عيد الحمقى) ، إذ يغيب المَلك يوما ، و يغيب النظام ، فيمارس الناس فوضاهم الموعودة ، لحين عودة الملك في اليوم التالي بالنظام ..

تحكي الأسطورة عن إنانا ، ربّة الجمال و الخصوبة التي حُبست في العالم الآخر و أشتُرطَ عليها اختيار بديل لها من الأرضيين ليحلّ محلّها في مملكة الموت ، فيما لو أرادت العودة إلى الحياة ، و قد اختارت دموزي ، أو تمّوز ..

يتقاسم كلّ من تموز و إنانا (عشتار) السنّة إقامةً في العالم السّفلي . لكلٍّ منهما ستّة أشهر خاصة ، فإنانا التي تمثّل الخصوبة تعود إلى الحياة ، فتبدأ فصول العام الشتويّة ، إذ يتفتّح رحم الأرض ، و يغرس المزارعون بذورهم فيها ، و يفيض دجلة و الفرات .. و حين تنتهي دورة البذر ، يعود تموز من العالم السّفلي و تحلّ عشتار محلّه ، و تبدأ بذلك الفصول الصيفية من السّنة ، فصول الحصاد ..

الصيفيّ يبدأ بغياب الشتوي ، و العكس صحيح .. و بهذه الثنويّة بين الغياب و الحضور استنبط القدماء فهمهم للحياة ، و نسجوا رؤاهم في رمزيات لغويّة عليا .. تُعرف اليوم بالأسطورة ..

كما الحصاد المتأتّي بعد التخصيب ، تدور رحى الحياة اللغويّة ، إذ تكفي إطلالة بسيطة على أمّهات الأدب العالمي لرصد حضور الفكرة هذه في عقليات البشر منذ فجر التّاريخ .. فجلجاميش الذي قصد أقاصي الأرض بحثا عن إجابة تكفي لتجاوز الموت ، و حاسب كريم الدّين في ألف ليلة و ليلة الذي جاب الأرض بحثاً عن حُبّه للنبي محمد ، و السندباد .. كنماذج أدبيّة من جهة . و الجذبة الخاطفة في حلقات الذّكر تليها المكاشفة الصّوفية ، و تأرجح النّفس في المراحل الوجوديّة الثلاثة عند هيدجر الألمانيّ من جهة أخرى كنماذج فكريّة دينيّة و فلسفيّة ، تشكّل الرّحلة بين الغياب كضرورة لحضور شمس تجربة لغويّة جديدة عمودها الفقري ، و هو الإطار الجامع لكل الكيانات الثقافية للبشر باختلاف أحقابهم و بيئاتهم ، فنجدها عند البرّيين في حساب فصول الزراعة ، و عند البحريين في حساب موسم الغوص و الإبحار ، كما نجدها عند أهل القفار ، و على ذلك شواهد كثيرة من عادات العرب الأوائل في رحلة الشتاء و الصيف ..

يقول المسلمون بغيبة الإمام الثاني عشر ، المهدي .. مؤمنين بظهوره في الدورة الزمانية الأخيرة لإحقاق الحقّ في الأرض بعد ظُلم طويل . و الحقّ ، أنّ مهدويّة الإمامة هذه تتمظهر في تجليات الطبيعة كلّها ، تماماً كما تتجلّى في اللغة .. في تأرجح الشّعر بين اللغتين الليليّة و النّهارية ..

على ذلك يمكن فهم طبيعة النّسيج المكوّن للّغة الليلية ، فهو دائر بقطبه و رحاه حول مفاهيم الغربة و الاغتراب و البحث عن النقطة البيضاء في الفلك المظلم ، كما يوفّر مخزونا صورياً لا يستهان به للتطهّر من المشهد الخارجي البائس ، ذلك الذي يتشقلب فيه الناس في فضاء اللامعنى ، مقابل استئثار جهة واحدة فقط بالمعنى كلّه ! جهة تطلق على نفسها اسم الحكومة العالمية ، و تحت شعار العولمة تقرر لنا ما سنرتديه ، و ما نأكله و نشربه ، و المجال الذي نعمل فيه ، كما تحدد لنا ساعات الفراغ و أساليب ممارسة الجنس .. بصريّاً !

يقول جورج تراكل في أحد مقاطعه :

وجهٌ بَهمٌ
مأخوذ بالشفق ، أمام الشفق المقدّس يقف ذاهلاً

و يقول :

طاغٍ في الحجرِ هو المُضمَرْ

يُعلّق هيدجر في شرحه للمقطعين :
“فالوجه البهم” حين يقف ذاهلاً إنّما يؤخذ بما يراه .و “يرى” تعني : الدخول في المُضمَر .
الحجر هو كثافة الألم . و الصخرة تستجمع ، لبّها الحجري ، الدَعَة التي بها يمنح الألم سكينةَ الجوهري . و يصمت الألم بإزاء الشّفق ، و يستعيد الوجه البهم رقّتَه . ذلك أنّ الرّقة ، حرفياً ، هي ما يجمع إليه بحنان . إذن البهم (الإنسان) لم يصل بعد إلى حالة ثابتة . حالة إنسان الذهن و العقل . و هو ، حسب نيتشة ، لم يصبح بعد (في وضع الثابت) . و قد يكون كلّ الجهد الذي بذلته الميتافيزيقا الغربية لأن تنقله إلى مثل هذه الحالة قد ذهب عبثاً . فالحيوان (الوجه البهم ..) الموقوف في وجوده الخاص (كما هو) هو إنسان الآن . و قصيدة تراكل تشير إلى هذا الإنسان الذي يصل إلى ذاته عبر مثول شفق الليل الذي ينظر إليه و يمسّه بنور المقدَّس .

يقول عبد المجيد التّركي :

ها هو طيفك يجلس أمامي ، واضعاً يده على جبهته،
كأنّه يقرأ أواخر سورة الحشر!!
أشعر بيأس غيمةٍ لم تعد قادرةً على انجاب قطرة ماء ..
بغربة طيرٍ
أضاع خريطته فوجد نفسه تائهاً في مدن الزجاج ..

و تقول منال العويبيل :

في كلّ خريف
ينادي نحيب الشجرة الطيور المهاجرة
لأن لا أحد يخبرها أن الخضرة نائمة فيها
لا أجنحتهم .

تمّت ..

تحكي الأسطورة عن إنانا ، ربّة الجمال و الخصوبة التي حُبست في العالم الآخر و أشتُرطَ عليها اختيار بديل لها من الأرضيين ليحلّ محلّها في مملكة الموت ، فيما لو أرادت العودة إلى الحياة ، و قد اختارت دموزي ، أو تمّوز ..

يتقاسم كلّ من تموز و إنانا (عشتار) السنّة إقامةً في العالم السّفلي . لكلٍّ منهما ستّة أشهر خاصة ، فإنانا التي تمثّل الخصوبة تعود إلى الحياة ، فتبدأ فصول العام الشتويّة ، إذ يتفتّح رحم الأرض ، و يغرس المزارعون بذورهم فيها ، و يفيض دجلة و الفرات .. و حين تنتهي دورة البذر ، يعود تموز من العالم السّفلي و تحلّ عشتار محلّه ، و تبدأ بذلك الفصول الصيفية من السّنة ، فصول الحصاد ..

الصيفيّ يبدأ بغياب الشتوي ، و العكس صحيح .. و بهذه الثنويّة بين الغياب و الحضور استنبط القدماء فهمهم للحياة ، و نسجوا رؤاهم في رمزيات لغويّة عليا .. تُعرف اليوم بالأسطورة ..

كما الحصاد المتأتّي بعد التخصيب ، تدور رحى الحياة اللغويّة ، إذ تكفي إطلالة بسيطة على أمّهات الأدب العالمي لرصد حضور الفكرة هذه في عقليات البشر منذ فجر التّاريخ .. فجلجاميش الذي قصد أقاصي الأرض بحثا عن إجابة تكفي لتجاوز الموت ، و حاسب كريم الدّين في ألف ليلة و ليلة الذي جاب الأرض بحثاً عن حُبّه للنبي محمد ، و السندباد .. كنماذج أدبيّة من جهة . و الجذبة الخاطفة في حلقات الذّكر تليها المكاشفة الصّوفية ، و تأرجح النّفس في المراحل الوجوديّة الثلاثة عند هيدجر الألمانيّ من جهة أخرى كنماذج فكريّة دينيّة و فلسفيّة ، تشكّل الرّحلة بين الغياب كضرورة لحضور شمس تجربة لغويّة جديدة عمودها الفقري ، و هو الإطار الجامع لكل الكيانات الثقافية للبشر باختلاف أحقابهم و بيئاتهم ، فنجدها عند البرّيين في حساب فصول الزراعة ، و عند البحريين في حساب موسم الغوص و الإبحار ، كما نجدها عند أهل القفار ، و على ذلك شواهد كثيرة من عادات العرب الأوائل في رحلة الشتاء و الصيف ..

يقول المسلمون بغيبة الإمام الثاني عشر ، المهدي .. مؤمنين بظهوره في الدورة الزمانية الأخيرة لإحقاق الحقّ في الأرض بعد ظُلم طويل . و الحقّ ، أنّ مهدويّة الإمامة هذه تتمظهر في تجليات الطبيعة كلّها ، تماماً كما تتجلّى في اللغة .. في تأرجح الشّعر بين اللغتين الليليّة و النّهارية ..

على ذلك يمكن فهم طبيعة النّسيج المكوّن للّغة الليلية ، فهو دائر بقطبه و رحاه حول مفاهيم الغربة و الاغتراب و البحث عن النقطة البيضاء في الفلك المظلم ، كما يوفّر مخزونا صورياً لا يستهان به للتطهّر من المشهد الخارجي البائس ، ذلك الذي يتشقلب فيه الناس في فضاء اللامعنى ، مقابل استئثار جهة واحدة فقط بالمعنى كلّه ! جهة تطلق على نفسها اسم الحكومة العالمية ، و تحت شعار العولمة تقرر لنا ما سنرتديه ، و ما نأكله و نشربه ، و المجال الذي نعمل فيه ، كما تحدد لنا ساعات الفراغ و أساليب ممارسة الجنس .. بصريّاً !

يقول جورج تراكل في أحد مقاطعه :

وجهٌ بَهمٌ
مأخوذ بالشفق ، أمام الشفق المقدّس يقف ذاهلاً

و يقول :

طاغٍ في الحجرِ هو المُضمَرْ

يُعلّق هيدجر في شرحه للمقطعين :
“فالوجه البهم” حين يقف ذاهلاً إنّما يؤخذ بما يراه .و “يرى” تعني : الدخول في المُضمَر .
الحجر هو كثافة الألم . و الصخرة تستجمع ، لبّها الحجري ، الدَعَة التي بها يمنح الألم سكينةَ الجوهري . و يصمت الألم بإزاء الشّفق ، و يستعيد الوجه البهم رقّتَه . ذلك أنّ الرّقة ، حرفياً ، هي ما يجمع إليه بحنان . إذن البهم (الإنسان) لم يصل بعد إلى حالة ثابتة . حالة إنسان الذهن و العقل . و هو ، حسب نيتشة ، لم يصبح بعد (في وضع الثابت) . و قد يكون كلّ الجهد الذي بذلته الميتافيزيقا الغربية لأن تنقله إلى مثل هذه الحالة قد ذهب عبثاً . فالحيوان (الوجه البهم ..) الموقوف في وجوده الخاص (كما هو) هو إنسان الآن . و قصيدة تراكل تشير إلى هذا الإنسان الذي يصل إلى ذاته عبر مثول شفق الليل الذي ينظر إليه و يمسّه بنور المقدَّس .

يقول عبد المجيد التّركي :

ها هو طيفك يجلس أمامي ، واضعاً يده على جبهته،
كأنّه يقرأ أواخر سورة الحشر!!
أشعر بيأس غيمةٍ لم تعد قادرةً على انجاب قطرة ماء ..
بغربة طيرٍ
أضاع خريطته فوجد نفسه تائهاً في مدن الزجاج ..

و تقول منال العويبيل :

في كلّ خريف
ينادي نحيب الشجرة الطيور المهاجرة
لأن لا أحد يخبرها أن الخضرة نائمة فيها
لا أجنحتهم .

*كاتب و شاعر كويتي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى