الراحلة …قصة قصيرة / بقلم الكاتبة عيشة خالد/ الجزائر
الرّاحلة
ترددت أنفاس مضطربة في الحجرة الواسعة مشحونة بالقلق و الترقب و تكهربت جامدة في موضعها تبحث عن فرجة تقبل منها ومضة أمل تنعش أجسادهم المذعورة و الأبصار تحدق إلى الراقدة في الفراش المنعزل ، و قد تبدى الشحوب مرتسما على تقاطيع وجهها الملائكي هاضما بريقا اعتاد عليه كل من في البيت ، كان أفراد العائلة جميعا يقفون قبالة البنت المسندة و هي تتأوه ألما تنقطع له أنفاسها مثقلة من تحت كمٍ من الاغطية تنازعها الحمى و الألم الذي لا يستشعره غير جسدها الصغير، و لا يتبدى لهم منه إلا الهذيان و الوجل المكسو عليها يتمتم لسانها ذاكرا بصوت خافت أسماء أماكن و بشر قد لا تعلم عنهم شيئا، و قد رقدت إثر وعكة فتكت بجسدها فارتفعت الحرارة ، وتقطعت الأنفاس ، واشتدّ الألم فلم يعرف لها سبب وقد طاف والدها بها متجرعا الحسرة المكتومة بداخله متبعا بكل نصيحة يرهف لها سمعه عسى أن تكون أملاً في تخفيف ألمها فمضى عند كل طبيب و مختص، حتى زار بها أضرحة الصالحين و مزارات المباركين ، دون أن يتحسن لها حال، وقضت الأم وقتها بجوارها و شاركتها ليال طويلة مشفقة من حال ابنتها الذي يزداد تفاقما نحو الأسوء ،و التي انقلبت من حركة دؤوب إلى سكونٍ طويلٍ ، ترثى لها كل عين تبصرها فتجزع لها الخواطر خوفا على حال لا تستحقه ،و قد وهبتها الحياة وجه كفلقة البدر بوردية البشرة ،و العينان الواسعتان بخضرتهما البديعة، يتوسطه أنف أشم دقيق ، وشفاه ممتلئة، وينسدل فوق ظهرها و على جبينها سوالف مذهبة متطايرة و جسد بتفاصيل ناعمة ، و مشاعر رقيقة و خيال مندفع، فتختلف بطلعتها البهية عن أولاد الحي بسمارهم الداكن و ملامحهم التي لا تكاد تختلف عن بعضها بأي حال ، و تمضي إلى الشوارع بروح صبيانية مرحة ترافقها أيدي البنات و الصبيان يتوثبون للظفر برفقتها ، متعجبين من وجهها الجميل المثير للغرابة و العجب ، تهرع إلى العم مسعود الكواش و هو يبدع بحركة يديه الخفيفة محولا العجين المكور إلى أصناف شهية من الكعك فيبدع منها كهيئة الورد و الفراش والطير، و يحلي فوقها بعجيب الألوان، وتصطف على جانبي دكانه العميق، في دخلته صينيات تعج بالحلوى الطازجة ،و قد سحبها لفوره بخشبة طويلة من فرنه المكتظ و أخرى تستند فوق بعض منتظرة دورها تتصاعد منها الروائح الزكية فيمد يده يهبها قطعتين من أشهى نوع ،تحشو فمها بواحدة و تخبئ الأخرى في كف يدها الصغيرة، و تندفع نحو حشود الغلمان المتزاحمة أجسادهم و هم يتعاركون على الأدوار حاملين قروشا بأيديهم نحو اسماعيل بائع الغزل و هو منكب بجسده المليء على صفيحة معدنية يسلك حولها بسلك خشبي رقيق بحركة دائرية حتى يخرج ألوانًا زاهية من غزل البنات، تبرق لها أعين الأطفال فيلمحها وسطهم بنظرة خاطفة يلمحها دونهم جميعا و قد استرعى نظره طلتها ذهلا بتساؤل بينه و بين نفسه عن من تكون هاته البنت ؟ بصورتها المتقنة الصنع رغم حداثة سنها الذي لا يتجاوز الحادي عشر، فتخفي خلف بريق عينيها طهر الأرض و بداعة الخالق الباعث جماله على وجوه خلقه ،و كأنّها قدت من نور القمرِ لا من تراب الأرضِ ، فيتقدم إليها حاملا حلوى الغزل فتمسكها و هي تزهو فرحاً و تواصل سيرها ، تتعجب لها كل عين تقع عليها ، و تنضم لجموع الصبيان و هم يمارسون لعبتهم المفضلة في الجري و الصراع متفرجة عليهم ، فيشحذ الواحد منهم همته كي يفلح في جذب انتباهها نحوه ليثير لها الاعجاب فتشق له ابتسامة يهتز قلبه لها ، حتى سكنت و خدعها مرض مباغت لم يعرف سراً له و تحفز للنيل منها طمعاً في جمالها، فباتت مغمضة العينين بادي عليها الاصفرار و الخور لا تملك من أمرها شيئاً سوى أن تقلب عينيها في سقف الحجرة أو نحو الوجوه المشفقة عليها ، تسعى محاولة أن تسند ظهرها على حافة الجدار في فراشها لتخطف بسمعها و نظراتها اليائسة من ضلفة الشباك التي تجاورها تستمع إلى صياح الأطفال و هم يلهون خارجًا و يركضون بلذة انطلاق كالعصافير التي تطلق عنان جناحيها للتحليق في فضى السماء الزرقاء ، دون أن يعيقهم شيء فيتلقى قلبها الصغير دفعة من أمل انسرب إليها من الذكريات الحافل بها ذهنها و المشبعة بها روحها الشفافة ، حتى يغافلها الضعف، فتنسحب تحت الفراش مذعنة لقوة المرض و تلتصق بها الأم و هي تبلل جبينها بكماد من الماء البارد و تهدئ من قلقها و توجس نبض حمتها ، لتستحضر في باطنها قولًا لشيخ من قراء الغيب حين قال لها :
وجوه الملائكة لا تمكث طويلا ..
تحجرت عينا البنت على سقف الحجرة ، و جمدت في محجريهما كأنّما هي شاردة راكز بصرها لشيء تتأمله وحدها، و هي ترفع بكلتا ذراعيها إلى الهواء فصاحت بصوتٍ صافي امتزجت به ضحكة رنانة :
إنّي أرى شجرة تفاح طازج ..
فرمقتها الأم بنظرة وديعة من عينين ملتهبتين من أثر سهر طويل، حتى خيل إليها من الصوتِ الرقيق أنما هي تسير إلى اليقظة و الشفاء و استدركت و هي تضع كفها على جبين المريضة
ابنتي ، أنا هنا لا تخافي ..
و صمتت الألسن طويلا و غاصت القلوب بثقل داخل الصدور من جو فاحت به رائحة الفناء فتشممتهُ الأنوفُ و استوعبته الأنفسُ ، و قد اكتفت بلغة التهامس بين أنفسهم ، دون أن ينبس واحد منهم بأي كلمة و في لحظةٍ طارئة ، اختنق الصوت الرقيق و حملقت العينان الجميلتان فلم يتحرك لهما رمش، و تقدم الموت بقوة خفية يعجز البصر الحاد عن رؤيتها نحو الجسدِ الصغير الذي استسلم بلا مقاومة ليرتفع الصوات إلى الشارع راثيا الرّاحلة .