أدب وفن

الشاعرة أديبة عبدو بين قطرات الندى والحلم المستحيل

الشاعرة أديبة عبدو بين قطرات الندى والحلم المستحيل

نزار حنّا الديراني

                                                                     

أديبة عبدو شاعرة سورية تركت بلادها لتستقر في بلاد المهجر ( استراليا) وهي تتقمط أحلامها وذكرياتها وتعيش مخاض الصراع بين حنين الماضي وحلم المستقبل

مما دفع بشعرها أن ينحاز الى مايشبه الهاجس اليومي ، حيث يحضر الآخر ( الذي اغتصب منها صفاء وطنها)  في قصائدها بوصفه رمزا وتحضر أنا الشاعرة بوصفها إنعكاسا لتصرفات ندها الآخر عبر سيل من الصور الشعرية الجميلة التي تشبه لوحات رسم وهي تستجمع من خلالها شظايا الألم والحنين الى مسقط رأسها كما تقول في قصيدتها (كفانا) :

اغتصبو أريج الياسمين

وضجيج الأطقال بشوارعنا وحدائقنا

اغتصبوا ضحكاتنا وحكاياتنا

اغتصبوا سهراتنا والقمر

اغتصبوا أحلامنا

 لذا تراها ترسل عبر صورها المتباينة آهات الشجون، وهي تتجرع الأحزان عبر كلمات جريحة تشدو بموسيقى الحسرة ، فبقدر ما كانت قصائد مجموعتها الشعرية ( قطرات الندى) ( الصادرة في مدينة ملبورن – استراليا عام 2019 ) مسكونة بالهاجس الأنثوي ، تشتغل الشاعرة على دلالة الذات بوصفها الفضاء الحضوري فتتفجر طاقتها في مجموعتها هذه مكونة بذلك مجموعتين من القصائد الأولى تدخل ضمن السيرة الذاتية وكما في قصيدتها (البيادر):

أنتظر على أرصفة مقهانا

أرشف فنجان قهوتي

الثالث والرابع

وأحلم بابتسامتك المبعثرة

 واخرى هي من نتاج صراعها مع الاخر .. وكما تقول في قصيدتها (حصاد عمري)  :

أنا إمرأة

أتحدى سيدي وجلادي

أنا إمرأة أعتِقُ نفسي من قيود جدتي

وأترك روحي عاشقة

من خلال القراءة نتلمس الذَّات وهي تُشكّل عصبَ الغنائية وحافزَ انبنائها داخليًّا، لذلك فإنّ الذي يتكلم في شعرها إنّما هو أناها الّذي يرتبط بـصور واقعية على نحو خاصّ ، بحيث صارت الذاتيّة تتجسّد في أيقاع الصوت، والذات المتقمطة خوفها ، وفي أحلامها الكسيرة وتشوُّقها الى ماضيها الى حيث يبتسم الفجر ويدفع بقطرات الندى تشمخ على أوراق العشب كالجواهر إلا أن القدر جعلها تبتعد عنه وتتقمط الغربة وهي تحلم بالمستحيل أن يعود شبابها يوما وتعيشه من جديد كما تقول في مطلع مجموعتها :

لا أريدك حلما مستحيلاً …

أريدك قطرات ندى

تراقصني عند الشفق وأول الفجر

بهذا الاعتبار، فإنّ المظهرات الخاصّة بالذّات والذّاتية التي تنتجها الأنا الغنائية وهي تتكلّم بقدر ما يُفصح صوتها الداخلي عن تجربتها الداخلية أي عالمها الداخلي بكلّ ما يفضّ عنه من روح جيّاشة في التعبير وهي تنقل مجمل القيم الخاصّة كي يفتح أناها الغنائي على الأشياء والعالم من غير أن تُقيم جدارا بين الداخل والخارج أي الذّات والآخر في مزيجٍ خلّاقٍ يخلق وحدة الموضوع مما يجعلها تحلم من جديد وكما تقول في قصيدتها حلم آخر :

ويبقى حلمي المزركش

أقتات به يومي

وانتظر حلماً آخر

يغوص بأعماقي

ويسكنني

إلا أن الشاعرة أيقنت بأن حلمها سيكون في المستحيل لذا تراها تستسلم في قصيدتها (بزرقة سماء ربيعية ) لتقول :

أنا للحزن أغنية وللفرح نهايته

أنا زنبقة ذبلت على جسد الموت

وتناساها الشوق والأمل

وتاهت بها الدروب

وهي تحن لنسمة الفجر

وفلول القمر

الا ان الشاعرة رغم استحالة حلمها لا زالت تتسائل في قصيدتها ( سنلتقي) :

إلتقينا

وحين أرادت عيونك أن تكتبني شعرا

توزعنا ومضينا كأننا غرباء

الشاعرة تركت مدينتها القامشلي وهي في أوج شبابها إلا أنها لملمت بين طيات مخيلتها ذكريات جميلة ومآسي قضت على أحلامها كغيرها من شابات جيلها ، شابة لم تمل من جمع قطرات الندى الشامخة على أوراق العشب كاللآلئ لترسم لنا صور شعرية جميلة تجسد ماضيها إلا أن القدر بعثر ما جمعته في سلتها وهي تتقمط الرحيل الى بلاد المهجر وهي تحلم بالمستحيل أن يعود شبابها يوما في تلك المدينة الجميلة وكما تقول في قصيدتها ( أنا إمرأة انتقاها الخالق) :

لَملِم رحالك ، وأذهب الى عوالم الفرح

لأن الحزن محفور في جسدي

أنا متعبة

أنا مثقلة

الشاعرة لا تزال تعيش مخاض طفولتها وهي تعيش صراعها من أجل عودة احلامها المسكونة في قطرات الندى لذا تراها تحاور أناها المتألمة وتُعزيها وحيث يترشح منها في الكثير من الأحيان كلمات جريحة تشدو بموسيقى شجية وترسم لنا لوحة فنية بانورامية معبرة عن الأنا الجمعية والتي هي بحد ذاتها أنا لكل منا …  وكما تقول في قصيدتها (همسات) :

قصورا بنينا ، وحكايات حكينا

عند بزوغ الفجر

تحت النجوم ، على ضوء القمر

وعصافير الصباح تتأوه من أشواقنا

ونحن نمارس كلٌ الطقوس ، وزيوس يرتعش

فأذوب بين ذراعيك

الشاعرة تحاول أن تنسى الماضي وهي تصارع لتحقيق حلمها طالما الربيع آت ، وهـي ترسـم صـور ألمـها التـي تسـتمدها مـن حالـة شـعورية عانتهـا فـي موقـف مـا، فمن خلال شعرها تبين لي مدى حساسـيتها بـالواقع حيث جسـدت فـي شـعرها كـل مـا يعيشـه الانسان مـن أحـداث .. وقــد رسـمت ذلــك الواقـع الــذي التصقت به بالكلمات وحولته إلى قصيدة كقولها في قصيدتها (تدفئ ليلي وأحبك) :

أناجي السماء صباحا مساءً

وأتمتم متى … متى تنتهي غربتنا ؟

لألامس طيفك

وتختلط أنفاسك بشهقتي

لتذوب بنبضي

إن شـعرها مكتظ بالغنائيـة الرومانسـية من خلال ألفــاظ رقيقة مفعمة بالإحســاس بــالألم والغربــة والحنــين الى ماضيها ويــأسها من هذا الفراق كــل ذلــك كان السبب في ولادة غنائية رومانسية في قصائدها وهي تجسد لنا صـور المفارقـة وهي تلتجأ الى البساطة في رسمها لتبدو الصورة الشعرية عارية مكشوفة لخلوها من استخدام الأقنعة والتوظيف الاسطوري وغير ذلك وكما تقول في قصيدتها (لئلا تموت الأغنية):

يا وطني الى متى تهاجر خوفا

من البحار التي تغرق وجوهنا اليابسة

ترنم ..! وترنم ..

للدماء ترنم …

وتهجر

الشاعرة أديبة مسكونة بقطرات الندى التي تتراءى لها في حلمها على أنه صورة مشرقة ليومها الآتي لذا تراها تظل دائما تحلم بتلك القصيدة التي كتبتها الشاعرة في طفولتها أو عنفوان شبابها ثم أضاعتها بين ركام أيامها في المهجر وحيث تتلاطم أمواج حياتها الصاخبة لتخفي عنها تلك اللؤلؤة الجميلة والتي هي حجر الرهان والذي تبحث عنه في شعرها ولا بد من العثور عليه. لذا تراها تكتب قصيدة بحجم حلمها المسلوب كما تقول في قصيدتها المدونة في صفحة الغلاف :

إنتظرني حيث كان اللقاء

لأعانق الحنين بعينيك

وننسج من الصمت

حروف قصيدة العمر

على جدار المستحيل

في قصيدتها هذه تسمع فيها حسراتها تتراقص وراء قطرات الندى التي تكالبت عليها الشمس المحرقة أو غزارة الامطار لتمحوها من الوجود وتبقى مشروعا في الحلم المستحيل . قصيدة تنبثق كبركان من خلال لهب صورها الجميلة لترسم لنا الاحلام الضائعة. بريشة طفلة شريدة مطرودة من ارض مولدها بسبب ما تعانيه المنطقة ، وتظل تحلم بفردوسها المفقود والذي يلوح لها من بعيد.

ختاما

بهذه الصور الجميلة ترسم لنا الشاعرة من خلالها رحلة الحياة بطفولتها الجميلة  التي سرعان ما تتلاشى حين تكبر وتكبر معها المعانات … لقد جعلني شعرها أتلذذ بجمال صورها لمقدرتها على نسج من مفرداتتها البسيطة والشفافة صوراً شعرية وتعابير مكونة بذلك لوحة فنية جميلة متكاملة لتغدو العلاقات الأسلوبية بين الدال والمدلول ، علاقات بنائية تضادية تارة، وأخرى تجاورية  …

*باحث ناقد و مترجم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى