لمحةٌ في “نازك الملائكة ” و بعض شعرها

د. وجيه فانوس
لمحةٌ في “نازك الملائكة” وبعض شِعرِها
الدكتور وجيه فانوس
(رئيس المركز الثقافي الإسلامي)
ظهرت نازك الملائكة في الحياة الأدبية العربية في مرحلة كان يعصف فيها الحديث عن تجديد ما في الشعر العربي، وبالتحديد عن تجديد في تركيبة هذا الشعر للخروج به من أسر ما كان يعرف بعمود الشعر العربي أو الصورة الكلاسيكية لهذا الشعر.
كان لنازك الملائكة أن دخلت، زمنذاك، في نقاش طويل ودفاعات كثيرة طالت دور الشاعرة في إدخال شكل الشعر العربي ضمن نطاق التفعيلة الواحدة وليس البحر الكامل. فلم يعد الشَّاعر ملزما، وفاقا لمقولة نازك وآخرين، بالبحر الشعري كما حدده الخليل بن أحمد الفراهيدي، بل بات الشاعر، هذه المرَّة، ملتزما بالوحدة التي يقوم عليها البيت الخليلي، أي التفعيلة، يُكثر منها أو يُقِل في السطر الواحد من شعره.
كان النقاش والدفاع اللذان دخلت فيهما نازك يقومان على موضوعين أوَّلهما أسبقيَّة نازك في طرح هذا الفهم للوحدة الشعريَّة، وتحديدا أسبقية نازك الزمنية لمواطنها العراقي وزميلها الشاعر بدر شاكر السيَّاب. أمَّا ثاني الموضوعين، فكان الأكثر جدية ورصانة، إذ ركَّز على قدرة الشعر في أن يتحرَّر من بحور الخليل شريطة المحافظة على وحدة التفعيلة فيه.

أُخِذَ كثير من دارسي الشعر العربي ومؤرخيه بما جرى من أحاديث ونقاش وما حُبِّرَ من دراسات في تلك المرحلة حول هذين الموضوعين، والموضوع الأخير منهما بشكل خاص. واشتهرت نازك، منذ ذلك الحين، بريادة لها لهذا التشكُّل الشعري أكانت هذه الريادة من باب التنظير أو من جهة التّطبيق. وما زال طلاب الأدب، والشعر العربي تحديدا، يذكرون لنازك الملائكة هذه السمعة ويناقشون فيها بين مدافع ومنتقد، ولكل فيما يذهب إليه رؤياه وفلسفته وطريقة تعامله مع الموضوع.
ما يمكن أن يكون قد غاب في بعض الأحيان، ههنا، أن نازك الملائكة اعتُبِرَت شاعرة رائدة في مرحلة العقود الأولى من النصف الثاني من القرن العشرين؛ ولكن الذي دفع ثمنا كبيرا من ذاته في سبيل هذا الاعتبار كان شعر نازك لاعتباره حدثا تاريخيا أو فعلا تجديديا، ولكن ليس باعتباره وجودا بذاته. قلة من دخلوا إلى عالم الشعرية فيه، وقلة هم الذين سعوا إلى تعميق في دراسة الشعريَّة في شعر نازك الملائكة؛ بل قلة قليلة هي من سعت أو تسعى الآن إلى دراسة شاعريَّة الملائكة عبر فاعليَّة هذه الشَّاعرية في التأثير على الشَّاعرية العربية التي تلتها. ومن الواضح أن الشعر العربي، بدءا من خمسينات القرن العشرين، اتخذ مناحي لم تكن له من قبل؛ فدخل شعراؤه، على سبيل المثال، في دنيا ما بات يعرف بالإيقاع الداخلي للقصيدة، واجتهد قسم منهم في تطوير الصورة الشعرية وإنضاجها؛ فضلا عن أمور وموضوعات كثيرة أخرى لا مجال الآن إلى ذكرها.
شكَّلت الصورة الشعريَّة، بمفاهيمها وقيمها وتقنياتها، موضوعا أساسا من موضوعات الشِّعر العربي منذ منتصف القرن العشرين، بل شكَّلت هدفا يسعى الشعراء إلى تحقيقه والتَّجديد فيه وإعطاء ذواتهم الشعريَّة هويَّة متميزة من سواها عبره؛ بل ثمَّة من قد يرى أن السمة الأساس في الشعر العربي منذ منتصف القرن العشرين كانت في ما عرف باسم الصورة الشعريَّة.
من هنا يمكن النَّظر في شعر نازك الملائكة، وهي من روَّاد الشعر العربي المعاصر، سعياً إلى استكشاف عناصر الصورة الشعرية في نتاجها، ومحاولة في تفصيل ما في هذه الموضوع لاكتشاف تقنياتها فيه وميزاتها عبره، وصولا إلى ما يمكن أن يشكل معرفة بفاعلية هذه الصورة في مسار الشعر العربي منذ منتصف القرن العشرين وحتى اليوم. إنه موضوع طريف في نطاق دراسة شعر نازك الملائكة، ولذا فما سيسكون عرضه في هذه العجالة لن يعدو الخطوات الأولى المتعثرة. والأمل أن يلفت هذا التوجه في دراسة شعر نازك الملائكة انتباه الدارسين، وخاصة الطلاب الجامعيين، وأن يكون من بين المحفزات التي قد تساهم في توسعة مثل هذه الأبحاث ومناقشتها وتصويبها.
يمكن القول إن الصورة في شعر نازك الملائكة تظهر عبر ثلاثة تشكلات نوعيَّة أساسيَّة هي:
الصورة الواقعيَّة (Mimetic)
الصورة المركَّبة (Complex)
الصورة العضويَّة(Organic)
أمَّا الصورة “الواقعية”، فهي الصورة التي تنقل الواقع عبر جمع أجزائه بطريقة إلصاقيَّة؛ وكأن هذه الصورة جُماع ما تقدمه الأحجار الصَّغيرة في تكوين رسم لوحة الفسيفساء. إنها أجزاء أو أحجار تسعى إلى نقل الواقع، لكن هذه الأجزاء المكونة للواقع تبقى كما هي محافظة على جزئيتها. وتظهر نماذج من هذه الصورة في شعر نازك الملائكة عبر عدة تجليات منها ما هو جمع إلصاقي لا يكاد يغادر النَّثريَّة، في مثل قولها في قصيدة “شجرة القمر”:
على قمَّة من جبال كَساها الصَّنَوبرْ
وغلَّفها أُفُقٌ مُخملي وجوُّ مُعَنْبَر
وترسو الفراشاتُ عند ذُراها لتقضي المساءْ
وعند ينابيعها تستحم نجوم السماء
هنالكَ يعيش غلامٌ بعيدُ الخيال
ومنها ما هو جمع إلصاقي، لكنه جمع لا يرتبط بحدود النَّثرية التقريرية، بل يقدم الواقع الملصق بشيء من الإدهاش، كما في قصيدة “شجرة القمر”، أيضا:
وجاء الصَّباحُ بليلَ الخُطى قمريَّ البرودْ
يتوِّجُ جبهتهُ الغَسَق عِقدُ ورودْ
يجوبُ الفضاءَ وفي كَفِّهِ دَوْرَقٌ من جَمالْ
يرشُّ النَّدى والبُرودةَ والضوء فوق الجبال
ومنها ما هو جمع حركي، يقوم على فاعلية الحركة الواحدة ضمن أجزاء الصورة الواحدة، من قِبَلِ ما جاء في قصيدة “النهر العاشق”:
أين نعدو وهو قد لفَّ يديه
حول أكتاف المدينة؟
إنه يعمل في بطء وحزم وسكينة
ساكبا من شفتيه
قبلا طينية غطَّت مراعينا الحزينة
والملاحظ أن هذا النوع من الصور، يظل أقرب إلى النثرية وكأنه شبع معادلة رياضية لمناسبة الأشياء فيما بينها، فلا يشهد لزخم الشعرية التي تحول المقروء إلى حياة نابضة فينفعل بها المتلقي، بل تبقى الصورة مجرد صورة يُلقي المتلقي إليها نظرة ويسعى إلى سواها دونما أن تصير في كيانه حياة نابضة.
أمَّا النوع الثاني من الصور عند نازك الملائكة، فهو ما يمكن تسميته بالصورة المركَّبة، وهي صورة تقوم على جمع عدَّة صور مركَّبة لتأليف لوحة صورة كبرى فيها شموليَّة تصويرية ما. ولعلَّ من أمثلة هذا ما يرد في قصيدة “الزائر الذي لم يجىء”:
وما كنت أعلم أنَّك إن غبت خلف السنين
تخلف ظلك في كل لفظ وفي كل معنى
وفي كل زاوية من رؤاي وفي كل محنى
وما كنت أعلم أنك أقوى من الحاضرين
وأن مئات من الزائرين
يضيعون في لحظة من حنين
يمد ويجزر شوقا إلى زائر لم يجىء
وكذلك، ما يرد في قصيدة “المدينة التي غرقت”:
وجاء الخراب وسار بهيكله الأسود
ذراعاه تطوي وتمسح حتى وعود الغد
وأسنانه الصفر تقضم بابا وتمضغ شرفة
وأقدامه تطأ الورد والعشب من دون رأفة
والملاحظ، في هذا النوع من الصور، أنه يساهم في تشكيل جو من الشعرية، لكنها ليست الشعرية التي قد تساعد المتلقي على الدخول إلى جوَّانيتها والتفاعل معها، بل هي شعرية تكتفي بمجرَّد لفت النظر إلى وجودها.
أمَّا النوع الثالث من الصور في شعر نازك الملائكة، وهو ما يمكن تسميته بـ”الصورة العضوية التي تقوم على تفاعل جزئيَّات كاملة فيما بينها، لكنها جزئيات متكاملة مع سواها من الجزئيات الأخرى للصورة، ومن هذا ما يرد في قصيدة “جنازة الفرح”:
سأغلق نافذتي فالقتيل
وأكره أن يمتطي الضياء
يحب الظلام العميق العميق
على جسمه الشاعري الرقيق
وهذا النمط من الصور يمكن أن يشكل إرهاصا بقيام الصورة الشعرية الحية الفاعلة التي عرفها الشعر العربي في مراحله التالية والتي كان تجلٍّ لها في شعر بدر شاكر السيَّاب، وصار هذا التَّجلي أشد عمقا وأعمق بناء في شعر خليل حاوي وأدونيس.
واقع الحال، إن الصورة التي تقدمها أشعار نازك الملائكة تظهر أقرب إلى النثر منها إلى الشعريَّة؛ ولعلَّ في هذا ما يؤكِّد أن هذه الصورة تأتي نتيجة احتفال نازك الملائكة بوجودها شاعرة رائدة تسعى إلى تجديد ما في الشعر العربي، تجديد رأته عيون المرحلة تجديدا في الشكل يركِّز على وحدة التفعيلة وسوى ذلك من مظاهر النص، لكن مرحلة الدخول إلى أعماق الفعل الشعري لم تكن قد نضجت بعد. الصورة الشعرية عند نازك الملائكة ابنة مرحلتها، إنها صورة بنت المرحلة الانتقالية، ولعل نازك قدمت محاولة في نظم الشعر هي أكبر بكثير من محاولتها في تحقيق شعرية الشعر.