الدكتور حسن علي شرارة
إلى أينَ يتجّهُ التّعليمُ في لبنانَ؟
المأزقُ التعلّيميُّ ليس مُستجدًّا في لبنانَ، فهو قديمٌ قِدمَ أزماتِه السّياسيّةِ والاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ، وكلُّ ما فعلتهُ جائحةُ “كورونا” أنّها كشفتْ عنهُ، وعرَّتهُ وأبرزتْ سوءاتِه. فقد فضحَ فايروس “كورونا” السّياساتِ التّربويّةَ القائمةَ تحتَ مجهرِ المُساءلةِ والمُكاشفةِ. وسلّطَ الضّوءَ على المُحاصصةِ الّتي جعلتْ وزارةَ التّربيةِ تعتمدُ على المحسوبيّةِ فيما ينبغي أن ترتكزَ على الكفاءةِ والجدارةِ ، فجيءَ إلى مواقعِ المسؤوليّةِ التّربويّةِ بمن ليسَ لهم باعٌ طويلٌ في التّربيةِ، فانزاحَ القرارُ التّربويُّ من أصحابِ الكفاءةِ إلى أصحابِ السّطوةِ والنّفوذِ؛ الّذينَ استباحوا العلمَ والتّعليمَ، وعمّموا الجهلَ والاستهتارَ، فالمَعنيّونَ لم يصوغوا رؤيةً لقطاعِ التّربيةِ والتّعليمِ، وتركوا المناهجَ الدّراسيّةَ غافيةً في أحضانِ القرنِ المُنصرمِ، تسيّرُها نظريّاتٌ تربويّةٌ بائدةٌ ما عادَ لها حظٌّ منَ الواقعِ التّربويِّ في العصرِ الحاليِّ؛ لأنّهم لم يفكّروا بغيرِ المكاسبِ الوظيفيّةِ النَّفعيّةِ والماديّة.
السّؤالُ الّذي يُطرحُ في هذا السّياقِ هو: لماذا يسيرُ التّعليمُ في بُلدانِ العالمِ بشكلٍ مقبولٍ، ويتعثّرُ في لبنانِنا الّذي يتغنّى مسؤولوهُ بريادتِهِ في تعليمِ البشريّةِ؟
والجوابُ لأنّهم لم يعتمدوا التّخطيطَ الاستراتيجيَّ المبنيَّ على رؤيةٍ (vision) والمرتكزَ على رسالةٍ (mission) تنبثقُ عنهما استراتيجيّاتٌ تربويّةٌ، نشتقُّ منها أهدافًا عامّةً، ومنها نشتقُّ أهدافًا خاصّةً يُعملُ على تحقيقِها وفقَ جدولٍ زمنيٍّ مبرمجٍ معتمدينَ معاييرَ تقويميّةً؛ تقيسُ مدى تحقّقِ النّتاجاتِ المنشودةِ، ونرصدُ التّغذيةَ الرّاجعةَ التّطويريّةَ.
كيفَ يتأتّى ذلكَ وفي لبنانَ فساداتٌ، ومنها الفسادُ التّربويُّ وهو متجذّرٌ في دقائقِ الحياةِ اليوميّةِ، ينضافُ إليها قصورٌ وعجزٌ مستشرٍ؛ لأنَّ هناكَ تخبّطًا في الرّؤى التّربويّةِ، متّبعينَ سياسةَ: (لم يكنْ بالإمكانِ أفضلُ ممَّا كان)..
والحقيقةُ المُرّةُ هوَ أنّ التّعليمَ لم يكنْ بخيرٍ قبل “كورونا”، ففي العمليّاتِ التّعليميّةِ هناكَ: (مُدخلاتٌ وعمليّاتٌ ومُخرجاتٌ)، فكيفَ ننتظرُ أن تكونَ المُخرجاتُ (النّتاجاتُ) مقبولةً إذا كانتِ المُدخلاتُ والعمليّاتُ غيرَ مقبولةٍ؟! وبعيدًا عن التّنظيرِ يعيشُ التّعليمُ واقعًا متخبّطًا؛ لذلكَ جاءت مُخرجاتُ التّعليمِ ونتاجاتُهُ استعراضيّةً استهلاكيّةَ، ولم تكنْ إنتاجيّةً ابتكاريّةً. فالمناهجُ اللّبنانيّةُ لم تتطوّرْ بما يتوافقُ معَ التّكنولوجيا ومستجدّاتِ القرنِ الواحدِ والعشرينَ، وبما يتوافقْ معَ مهاراتِ العصرِ الحاليِّ كالتّفكيرِ النّاقدِ والإبداعيِّ والتّشاركيِّ، وإدارةِ فرقِ العملِ والقيادةِ والتّخطيطِ وإعدادِ البحوثِ. وهذا يقتضي استبدالَ النّظريّاتِ التّربويّةِ (السّلوكيةِ والمعرفيّةِ) ب (النّظريّةِ الاتّصاليّةِ التّرابطيّةِ) الّتي تستجيبُ لمُعطياتِ الثّورةِ التّكنولوجيّةِ الرّقميّةِ الحديثةِ.
فتقنيّةُ الإنترنتِ موجودةٌ في لبنانَ مُنذُ ثلاثينَ عامًا أي منذُ استحداثِ المناهجِ الجديدةِ، ولم يُصَرْ إلى إدراجِها وتوظيفِها في المناهجِ التّعليميّةِ بشكلٍ فاعلٍ ومؤثّرٍ، وجلُّ ما فعلوهُ باستحياءٍ هوَ تجهيزُ بعضِ المدارسِ بالمواردِ الماديّةِ اللّازمةِ (حواسيب ومختبرات)، وأهملوا تدريبَ الكادرِ البشريِّ على كيفيّةِ استخدامِها وتوظيفِها في العمليّةِ التّعليميّةِ. وكذلكَ أهملوا تحضيرَ البُنى التّحتيّةِ اللّازمةِ لذلكَ.
وحلّتْ “كورونا” وواجهَ العالمُ مخاطرَهُ، بينما المواجهةُ في لبنانَ كانتْ مُضاعفةً، فالشّعبُ يواجهُ من “كورونا” الوباءَ، ومن حكومتِه الغلاءَ، ومن أعدائِه البلاءَ (انفجار المرفأ)، وغيرَها من الاعتداءاتِ. ولم يجدِ المعنيّونَ مناصًا من اللّجوءِ للتّكنولوجيا بعدَ التّوقّفِ القسريِّ عن التّعليمِ المباشرِ؛ فاعتمدوا المعالجةَ الاستثنائيّةَ من خلالِ التّعليمِ عن بُعدٍ، ولكنّهم لم يُدركوا أنَّ التّعليمَ عن بُعدٍ لا يكونُ اعتباطيًّا وعشوائيًّا، فلم يسارعوا إلى إدخالِ التّكنولوجيا إلى مدارسِنا بشكلٍ مُنظّمٍ وفاعلٍ.
فالواقعُ التّربويُّ انعكاسٌ للمنظومةِ السّياسيّةِ والاقتصاديّةِ والاجتماعيةِ، فهي حلقةٌ متعاقدةُ الأطرافِ؛ لذلكَ ينبغي المضيُّ بإصلاحٍ مُتوازٍ حتّى يستقيمَ الحالُ
فالمعلوماتيّةُ علمٌ وليستَ أدواتٍ إلكترونيّةً، ولا تتأتّى تلكَ الثّقافةُ معَ امتلاكِ هاتفٍ أو حاسوبٍ وحسبْ، بل يجبُ أن تُمتلكَ القدرةُ على توظيفِها وحُسنِ استخدامِها، وأن يكونَ الأهلُ على تماسٍ معَ ثقافةِ التّكنولوجيا، وأن يُعوّدَ النّشء على مهاراتِ البحثِ عن المعرفةِ وطرائقِ الوصولِ إليها.
فالتّعليمُ عن بعدٍ بحاجةٍ إلى ثقافةٍ رقميّةٍ لممارسةِ هذا التّعليمِ. لكنّهم ألقوا بهذا العبءِ على عواتقِ المُعلّمينَ (أعانهم الله) من خلالِ مجموعةِ تطبيقاتٍ تسمحُ بالتّواصلِ بالصّوتِ والصّورةِ، فراحَ المُعلمونَ يعملونَ وَفقَ إمكاناتِهم المُتوافرةِ؛ يقرأونَ على التّلامذةِ دروسَهم عبرَ الهاتفِ والطّلبةُ يستمعونَ، وأنا أرى أنّهم أثقلوا على المعلّمينَ بتكليفِهم بالتّعليمِ من بيوتِهم، وألقوا على كواهلِهم أعباءَ لا يقدرون على النّهوضِ بها، وحمّلوهم فوقَ ما يُطيقونَ. مُتوهّمينَ أنّ هذا تعليمٌ عن بُعدٍ. فيما هذا الّذي يُنفّذونه: تعليمٌ من بُعدٍ.
فالتّعليمُ عن بُعدٍ يحتاجُ إلى:
- مناهجَ إلكترونيّةٍ خاصّةٍ بالتّعليمِ عن بُعدٍ.
إنشاءِ منصّاتٍ تعليميّةٍ.
تصميمِ برمجيّاتٍ للتّعليمِ عن بُعدٍ.
تحضيرِ نشاطاتٍ تعليميّةٍ وتقويميّةٍ إلكترونيّةٍ مساندةٍ وداعمةٍ.
تدريبِ المعلّمينَ على التّحضيرِ الإلكترونيّ، وعلى التّعليمِ الإلكترونيِّ.
ختامًا هناكَ تغيّراتٌ حصلتْ في زمنِ “الكورونا” ينبغي أخذُها بعينِ الاعتبارِ.
فهل يفكّرُ المعنيّونَ بصياغةِ رؤًى جديدةٍ لواقعِ التّعليمِ بعدَ “كورونا”؟
وهل أخذْنا الدّروسَ والعِبرَ ممّا عانيناهُ بسببِ عدمِ أخذنا بالاحتياطاتِ اللّازمةِ قبلَ وقوعِ “كورونا”؟
وهل تلقّنَ المسؤولونَ درسًا في حُسنِ التّخطيطِ الاستراتيجيِّ الرّؤيويِّ؟
وهل سيفكّرونَ في إعادةِ النّظرِ في الكفاياتِ والمهاراتِ وَفقَ مفهومِ التّنميةِ والتّطوّرِ؟
وهل يفعّلونَ التّواصلَ معّ المنصّاتِ التّربويّةِ العالميّةِ، بتشجيعِ المعلّمينَ والطلبةِ وتدريبِهم على المشاركةِ فيها؟
وهل نُخرج مناهجَنا من ثقافةِ الزّيفِ الواهمِ إلى الثّقافةِ الحياتيّةِ الحقيقيّةِ؟
فنعملَ على تكوينِ جيلٍ يتعلّمُ كيفَ يتعلّمُ ذاتيًّا، ويعتمدُ على قدراتِه أكثرَ، ويوظّفُها بشكلٍ أفعلَ. كلُّ عامٍ وحاملو الرّسالةِ (مربّو الأجيالِ) على ما يُرام، ومشعالُ التّربيّةِ والتّعليمِ مضواءٌ على الدّوام.
الخبير التّربويُّ: ذ. حسن عليّ شرارة