الحلقة –الرابعة عشرة – من رواية”تحت ظِلال أشجَار التّين والزّيتُون”
الحلقة –الرابعة عشرة – من رواية”تحت ظِلال أشجَار التّين والزّيتُون”
( سيرة بطل مُجاهد شهيد معركة “أنوال” الماجدة)
د.محمد محمد خطابي
“..كانت هذه هي المرّة الأولى التي يزور فيها (مُوح) السّوق الأسبوعيّ الكبير ببلدة إمزورن. قبل أن ينطلق لشراء ما طلبته منه أمّه، ظلّ واقفاً في رُكنٍ قصيٍّ من السّوق تحت ظلِّ شجرةٍ عاليةٍ مُورقة ،وهو ينظر مبهوراً بإمعان إلى هذا العالم الغريب ،كان الناس فيه يتحرّكون في كل اتّجاه ،وكانت أصواتُهم تتعالى في كلّ مكان، وتختلط فيما بينهم، كانوا ينادون على سِلعهم ، ويثنون على بَضائعهم، من خضراوات،وبُقول، وفواكه، ومواشي ، ودواجن، وحَمَام، ومواد غذائية أخرى، فضلاً عن أدوات منزلية تقليدية بسيطة، وحاجيات خاصّة بالبوادي، والقرىَ، والحقول ،وكذا بعض منتوجات الصناعة التقليدية المصنوعة من جلود الحيوانات ،ومن أواني فخارية،ومزالج حديدية، وأثواب النسيج ، وسِلال مختلفة الأحجام مصنوعة من القصب، أو من سَعف النخل ،وهناك من يبيع لحوم الغنم، والمعز المذبوحة الموضوعة مصفوفةً على طاولاتٍ من خشب ، وعلى عرباتٍ أخرى كانت مُصطفّةً رؤوس المواشي التي تمّ ذبحها،وشواؤها، وسلخها، وتقطيعها في السّوق نفسه أمام أنظارالمتسوّقين ، فضلاً عن عرض جلودها ،وكوارعها ،وأحشائها للبيع كذلك .
سرعان ما حوّل (مُوح) نظرَه الى الجانب الآخر من السّوق فإذا هناك مجموعة من المتسوّقين يتحدّثون بدون انقطاع بصوتٍ جهوريٍّ عالٍ لجلب الانتباه، وإثارة فضول المارّة إليهم، وقد كوّن الناسُ حولهم حلقات مستديرة،كانوا يحدّثونهم عن الأدوية التقليدية من أعشاب،وزيوت،وعسل، ومَرَاهم طبيعية لمعالجة بعض الأمراض، والأوبئة التي تصيب البَشَر والحيوانات الأليفة التي تعيش معهم على حدٍّ سواء ،كانت هناك خيام مرفوعة خاصّة بالحِدادة يتوسّطها سِندان كبير من حديد صلب مُركَّز موضوعٍ فوق نصف جذع شجرة عظمىَ يطرق الحدّادُ عليه الحديدَ السّاخن الشديد الإحمرار. ،وكانت هناك خيّام خاصّة للنّجارة تتوسّطها طاولة مُستطيلة من خشبِ شجر الأَرز المتين،ومحلاّت مُتنقّلة متواضعة لإصلاح النّعال،واستبدال صفائح ،وحدوات،البغال، والخيول ، والحمير، وكانت هناك أماكن خاصّة لبيع الفِخاخ لصيد الحيوانات البرية من طيور وأرانب وما أشبه، وخيام لبيع المشاتل النباتية ،والبذور الزراعيّة، وأغراس الشُّجْيرَات الصّغيرة المُلقّحة على اختلافها ، وكان هناك من يقوم بحلاقة رؤوس بعض المتسوّقين ،حيث كان بعضُهم يترك في مؤخّرة رأسه ،وفى منتصفه خِصلات مُستطيلة من الشَّعر ( ثَـــجَــطّـــويْـــثْ) ، وهناك من يقوم بعمليات الحِجامة العلاجية في وسط الرأس ، أو خلع الأضراس ،وهناك من كان يعالج مرضاه بعُود حامٍ يُخرجه من رمادٍ ناريٍّ ساخن فيمرّره على مواضع الألم أو الالتهاب في الجسم ثمّ يتبعه بتفّة خفيفة وهو يتمتم داعياً لصاحبه بالشّفاء ، وهناك من يبيع الفواكه الجافّة من تين، وزبيب ،ومن البرقوق الأسود المُجفّف ، وهناك من يبيع البنادق النارية المُستعملة ، وكارتوشات بارود البنادق والرّصاص ، وهناك من يبيع الحلوى اللّزجة المُلصقة على عمودٍ طويل من خشب، أو تلك التي كانت موضوعة على عربات متواضعة من نوع الحلويات التقليدية النُّوجة الرّطبة ذات الألوان المختلفة التي كانت مشهورة بمذاقها الحُلو ، وهناك من يبيع الاشفنج،والأرغفة (المسمّن ) والفطائر السّاخنة، وكانت هناك محلاّت متنقّلة لبيع التوابل، والبهارات، والحِنطة، والزّيت، والزّيتون من كلّ نوع، .وهكذا وجد (مُوح ) في هذا السّوق الكبير كلّ ما لا يخطر على بال إنسان، إذ كان به ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت.
ظلّ الفتىَ ينظر مشدوهاً،ومندهشاً ممّا كان يراه لأوّل مرّة في حياته ، ولكنّ الذي استرعىَ انتباهه ، وأثار فضوله هو أنّ غالية المتسوّقين كانوا يرتدون زيّاً تقليديّاً متشابهاً بسيطاً يتألف من عمامةٍ بيضاء ، وقميصٍ كبيرٍ أبيض (شامير) له فتحة صغيرة فى الجانب الأيسر ناحية الكتف، وجلباب صوفيّ قصير القامة له فتحتان واسعتان في منتصفه لإدخال اليديْن ، وله غطاءٌ واقٍ للرّأس متوسّط الحَجْم (قبّ الجلباب ) ومخلاة من جلدٍ معلقة على أكتاف المُتسوّقين، والأغرب من ذلك كلّه أنّ معظمَهم إن لم أقل جميعهم يحملون بنادقهم على أكتافهم ..” . (يتبع ) وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة عشرة المقبلة بحول الله.