أدب وفنمنتديات

التربية و التعليم  من التقييم الى التقويم

الكاتبة و الباحثة نجاة بنونة

التربية و التعليم  من التقييم الى التقويم

يقول الكاتب الفلسطيني أدهم الشرقاوي: “صدقة في كف فقير امام ابنك تعادل ألف محاضرة عن الصدقة. وورقة تلقيها في سلة المهملات أمام ابنتك ابلغ من ابلغ خطبة في النظافة: فالتربية بالقدوة لا بالموعظة”

 ويقول العالم الفرنسي جورج دانتي : “بعد لقمة العيش أول حاجة للشعوب هي التربية “

أجل، إن الله تعالى وهو أصدق القائلين قرن الإيمان بالعمل الصالح: “يا أيها الذين آمنوا وعملوا الصالحات…” وأدان القول بدون عمل :” كبر مقتا أن تقولوا ما لا تفعلون”.

إن أخطر مشكلة نعانى منها في الوطن العربي بشكل عام هي عدم ربط القول بالفعل مع تغييب القدوة الصالحة.

فأسلافنا الحكماء، لشدة وعيهم بأثر القدوة الصالحة، كانوا أشد حرص على تجسيد القيم النبيلة بمواقف عملية في شؤون حياتهم الخاصة والعامة. ولولا هذا الجانب العملي الملموس، ما خلد التاريخ الإنساني أسماءهم وأعمالهم البطولية والملهمة. وإذا كنا نمر بأزمة أخلاقية، فلأن بعض المسؤولين لا يقدرون الأمانة الملقاة على عاتقهم؛ زد على هذا تغييب القدوة النافعة في التدريس بصفة عامة لتربية النشىء التربية الصحيحة (وأنا بالطبع لا أعمم)، ثم رداءة المستوى الإعلامي الذي تخلى عن وظيفته التربوية والتثقيفية ببرامج فارغة المضمون ومسلسلات مخلة بالأعراف والآداب المألوفة، ناهيك عن إفساد الذوق العام بالتركيز على فن هابط لا يخاطب الوجدان ولا يهذب الذوق ولا يسمو بالروح الى عالم الجمال كالفن الراقي الذى يستنهض القيم النبيلة ويحلق بالنقس في أعالي السماء بعيدة عن الدنايا والأحاسيس الهابطة. فالإعلام مسؤول عن استكمال تربية الفرد في تناغم مع الاسرة والمدرسة. إنه مدرسة من لا مدرسة له!

لقد قام في السابق، بتثقيف عامة الشعب من خلال برامج توعوية، تحسيسية، تربوية ومعرفية هادفة بتبسيط المفاهيم ومقاربات تعليمية استمالت عددا لا يستهان به من الناس (مسلسلات تاريخية، دينية، تربوية، اجتماعية، تثقيفية مثل محاكمات أدبية، وحلقات شعرية رائعة)  فضلا عن تهذيب الذوق العام عبر برامج فنية راقية. فلقي هذا المشروع الناجح والناجع في صورة الثقافة الشعبية استحسانا واسعا وأعطى ثمارا ملموسة بصفة عامة وعند الشريحة التي حرمت من متعة المدرسة بصفة خاصة.

إن تقدم وازدهار الأمم مرتبطان ارتباطا وطيدا بمنظومة التربية والتعليم. واذا تصدرت بعض الدول قائمة الدول المتطورة عالميا، فلأنها أولت عناية قصوى لاختيار أفضل وأنجع منهج تربوي وتعليمي واعتناءاً خاصا بالقائمين عليه، قادها لتحقيق الرخاء المادي (بفضل النمو الاقتصادي) والرقي الفكري والتقدم العلمي. وهكذا جندت كل طاقاتها الفكرية وخبرائها في مجال التربية لبلورة برنامج مدروس دراسة علمية دقيقة عبر ترسيخ قيم إنسانية كونية بدءا بفن التعايش   L’ART de VIVREومقاومة الانانية، تقوية الحس الوطني وتنمية الشعور بالحقوق والواجبات على قدم المساواة، احترام الوقت، الحفاظ على الأمانة، الحرص على الشرف والمروءة، الاعتدال في اللذائذ وطهارة النفس؛ كما وضعت منهجا للذوق وتربيته وعيا منها بانه الاحق بالعناية والاجدر بالرعاية. (رحم الله من وجهني الى الإحساس بالجمال في جميع اشكاله فهويته، فأعجبت بالأزهار وجمالها وبديع الوانها وعشقت المناظر الطبيعية التي دفعتني الى التأمل في بدائع الخالق (فعودت عيني ان تنظر الى الأعلى) ووجدت في هذا متعة لنفسي وغذاء  لروحي؛ كما روضني على الكلمة الطيبة والجميلة وعلمني خدمة الاخر مما انعكس إيجابا علي وعلى محيطي، وحبب لي الكتاب والموسيقى الراقية، وأقنعني  بممارسة الرياضة. وهكذا نما ذوقى بادراك الجمال الحسي وارتقى، فادرك الجمال المعنوي فأصبحت ميالة الى عبادة الجمال المطلق بدءا بالخالق عز وجل وحب رسولنا الكريم وتقدير المصلحين الابرار والعلماء الاجلاء وكل من علمنى من قريب او بعيد.)

وبهذا النمط التربوي الذي يركز على ترسيخ القيم الإنسانية  و تهذيب الذوق ، نجحت هذه الدول في تكوين مواطنين نافعين صالحين لأنفسهم ومجتمعاتهم وأممهم، كما خصصت ميزانية محترمة لتحقيق هذا الغرض.

وبعد التربية، فكرت في منظومة تعليمية ناجحة وناجعة مؤسسة على صناعة التفكير (بدل الحشو والحفظ الميكانيكي المرهق والممل) و منهج التحليل عند المتلقي (لا سيما في عصر الغزو المعلوماتي)  نتجت عنها تلك الثورة التكنولوجية المذهلة التي ضاعفت قدرة الإنتاج وحسنت مؤشر العيش ورفعت توقعات متوسط العمر بصفة عامة.

وبالعودة الى التربية، فإن موقفهم منها صائب لما للتربية من انعكاسات إيجابية ونتائج عملية جعلتهم قدوة للمقتدين واهلتهم لتحقيق المعجزات، بدليل موقف احد زعماء الإصلاح الحديث، المفكر الهندي أحمد خان (بعد عودته من الديار البريطانية حيث تابع دراسته العليا)  الرامي الى ابراز أهمية التربية في تقدم الأمم والتي ابهرت السيد خان. لقد رفض أي منصب حكومي رفيع المستوى ليطلب من السلطات الهندية تزويده بسيارة متينة لعبور الهند على سعة مساحتها ووعارة تضاريسها لتحسيس الهنود بقيمة التربية. وقال لهم انه سيكتب جملة واحدة أينما حل وارتحل (بالطبع مع الشرح) :” انظروا الى الانجليز كلما زادت  تربيتهم زادت ثروتهم  “.جملة صغيرة في حجمها لكن عظيمة في أثرها !!!

إنه على صواب لأن التربية هي الهوية الأساسية للإنسان، فهي عنوان كرامته ومروءته. ولم يخطئ أبدا من أطلق على الوزارة المعنية بالأمر” وزارة التربية والتعليم “.

إن التربية هي تثبيت إنسانية الانسان بتزويده بفنون التعامل مع الآخر لأن الله ميزه على سائر المخلوقات بالخلق الكريم حتى يألف ويألف (بضم الياء). والتعليم، ومهما ارتفع مستواه لا قيمة له على الإطلاق بدون تربية. ولهذا السبب، قامت بعض الدول الاسيوية بثورة تربوية محمودة بتخصيص السنوات الأولى من التعليم الأساسي (لان التعليم في الصغر اشد رسوخا وهو أصل لما بعده) لبناء الانسان عبر التركيز على أسس التربية الوجدانية الاجتماعية بتلقين فن الكياسة   LA CIVILITE  ومهارات  فن التعامل مع الاخر L’ART DE COMMUNIQUER  وتخليق الضمير LA CONSCIENCE  شعورا منها ان الاسرة وحدها غير كافية لترسيخ هذه المبادئ مع الرفع من قدر المكون لتلبية جميع حاجياته المادية والمعنوية حتى يؤدي مهامه على أحسن وجه لتشكيل  القدوة الصالحة كورش تطبيقي مباشر وفعال.

إن مجتمعنا أصبح يعاني من ظواهر تتنافى وأخلاقنا الأصيلة والمألوفة، وهي نتيجة إهمال التربية الصحيحة داخل الأسرة والمدرسة، ناهيك عن الغزو التكنولوجي الذي زاد في الطين بلة، فضاعت الأعراف وانحلت الاخلاق وطمست الهوية وغاب الوازع الديني فضلا عن غياب رؤية واضحة لبناء مستقبل آمن للأجيال الحاضرة والقادمة. وكل هذه العوامل افرزت امراضا اجتماعية تستوجب تشخيصا مفصلا تدعمه دراسة علمية مبنية على إحصاءات دقيقة ومعطيات موثوق بها لوضع برنامج واضح شفاف وقابل للتنفيذ بتخطيط محكم ومدروس وعلى مراحل متباينة لمواجهة التهديدات الآنية والتحديات المستقبلية.

وعلى كل حزب سياسي يتقدم للانتخابات، أن يفكر في برنامج اجتماعي عملي بالموازاة مع برنامجه السياسي قابل للتنفيذ مع احتمال نسبة عالية من النجاح حتى تحقيق الغرض لأن التنفيذ هو المطلوب؛ لكن للأسف الشديد عودتنا الأحزاب السياسية على البرامج الخلابة والشعارات البراقة والمواقف المتحمسة للتغيير دون رؤية محكمة تدعمها آليات العمل قبل ولوجها الى سدة الحكم، وفور فوزها، تتغير الأقوال وتغيب الأفعال، وهكذا دفعتنا الى فقدان الثقة بها والعزوف عن العملية الانتخابية. والنتيجة أسوأ، لأن الوضع يفسح الطريق للوصوليين والانتهازيين والاميين الذين لا هم لهم إلا تحقيق مصالحهم الشخصية.

أما آن الأوان أن نتوحد لخدمة بلادنا بتوحيد غرضنا وتقوية عزيمتنا ومن أي موقع كنا فيه !!؟؟ فعلى المستوى الحزبي مثلا أرى أن الحزب المعارض يجب أن يساند الحزب الحاكم لخدمة الصالح العام بتثمين مواطن القوة وحصد الفرص وإصلاح مواطن الضعف ورصد التهديدات باقتراحات بديلة لتدارك الوضع حتى يجنب البلاد والعباد الخسارة؛ هذا إذا كان يسعى الى تحقيق المصلحة العامة بالطبع. ولا أكثر حساسية ولا أكثر أهمية من مجال التربية والتعليم لانهما يشكلان رافعة التقدم والازدهار بالدرجة الأولى.

فمنذ الاستقلال، وهذا الحقل خاضع الى أهواء وتوجهات الحزب الحاكم في غياب رؤية موحدة ومحايدة عن التوجه السياسي لكل حزب. ان جل الأحزاب السياسية التي تعاقبت على الحكم تفرض برنامجا معينا وفق رؤيتها، بدليل أننا وبعد أكثر من نصف قرن، لا زلنا نتخبط في اختيار لغة التدريس، ناهيك عن البرامج المستمدة من النظام الفرنسي، (مع أن الدراسات تفيد ان اللغة الفرنسية لا يتحدث بها الا 4% من سكان العالم).أما اليابان الحديثة العهد بالتطور (ودول أخرى)، فتعتمد لغتها في التدريس؛ ولو غيرنا قبلة الاستلهام بنية الإصلاح نحو الدول الأسيوية، والتي قطعت اشواطا مهمة في تطوير منظومتها التربوية والتعليمية والتي اثبتت تفوقها على المستوى العالمي، لكنا أفضل حالا مما نحن عليه اليوم. واول درس، هو التدريس باللغة الأم مما ينعكس إيجابا على المتلقي على المستوى النفسي والمعرفي. ولقد صدق العالم الجليل مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون رحمه الله عندما قال :” ان غلبة اللغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها بين اللغات صورة لبلدها بين الامم.”

طيب، لنتأمل الوضع من الناحية العملية، فاليابان والدول المجاورة لا تعتمد إلا لغتها في التدريس مع تدريس اللغات الأخرى بالطبع. أما نحن كمبدعين في الارتجال، وغياب الرؤية المستقبلية، فإننا نتلاعب بمستقبل أجيال وأجيال غير عابئين بتبعات هذه السياسات المرتجلة والا مسؤولة. وحتى ولو سلمنا أنها أخطاء غير مقصودة، فالرجوع الى ذوي الاختصاص والخبرة امر مفروض ومحمود ” كما قال الله عز وجل :” ولا ينبئك مثل خبير “. إن عملية الإصلاح بالنسبة لمنظومة التعليم تتطلب التخطيط لفوج بأكمله (من الطور الأساسي الى الجامعي) ولا يجوز باي شكل من الاشكال ان نحدث أي تغيير في وسط المسار، لانه مضر  وينتج عنه الاضطراب وفقدان الثقة عند جميع مكونات المنظومة سواء منها المتلقي (كبش الضحية)  او المكون الذي يتطلب تكوينا معينا لمسايرة البرنامج الجديد. ولهذه الأسباب، فإن الشرط الأساسي لسلامة هذه المنظومة الغاية في الحساسية، ان تبقى بعيدة عن التجاذبات السياسية ؛ والشرط الثاني ان يكون القائمون عليها خبراء وممارسين في مجال التربية والتعليم ومن جميع المستويات والشرط الثالت ان تخصص لها الدولة ميزانية محترمة كافية للنهوض بها كدعامة أساسية في تقدم البلد والشرط الرابع ان تكون للدولة الرقابة الكاملة والشاملة والمسؤولة على جميع مؤسساتها ؛ وهنا أقصد ما كان منها ذا طبيعة خاصة. فلا يجوز قطعا، التجارة بالعقول والأرواح؛ لان المجال الخاص يتحكم فيه الربح المادي، والربح المادي مطلب مشروع، لكن في مجال المال والأعمال، لا في مجال التربية والتعليم او الطب. وحتى وإن سلمنا به، كمساهمة منه في نهضة البلاد، فعليه ان يأخذ في الحسبان، الغاية النفسية والروحية منه. كيف ؟ اعطي مثلا بسيطا شغلني ولعقود من الزمن. في المؤسسات الخاصة، لا وجود للتكوين الأدبي، وكلها لا تعنى الا بالجانب العلمي فهي أحادية التكوين ؛ نتج عن هذا التوجه، تيارا أصبح مألوفا عند المتلقي كما أولياء اموره حتى تجاوز المقاييس في التقدير. واصبح التكوين الأدبي غير مرغوبا فيه لدرجة إرغام معظم التلاميذ على اختيار التكوين العلمي حتى في غياب مؤهلات وقدرات علمية عند التلميذ. إنه وضع غير صحي، لأن التوازن يقتضي ان يكون التكوين العلمي ملازما للتكوين الأدبي لماذا ؟ لان التعليم الأدبي يهدف الى توسيع الذهن وتربية العواطف وتغذيتها وكذلك الى تهذيب الذوق ومن تم تعزيز الأخلاق العالية والقيم السامية والاهتمام بالحياة الاجتماعية من محبة وتعاطف وتسامح وتضامن ومراعاة شعور الآخر؛ اما التعليم العلمي، فانه يغذي العقل بإقامة البرهان المنطقي على الشيء ونقيضه بالتركيز على تطوير المهارات الرياضية فقط. وبما أن الإنسان مركب من قلب وعقل وروح فمن الضروري، الاعتناء بهاتين الثقافتين والتكوينين. وشعورا من الأمم الراقية بأهمية هذه المعادلة، فقد حرصت ومنذ قدم الزمن، على إنشاء كليات آداب وكلية علوم لتكوين أجيال في كل المجالات حسب قدرات ورغبات الفرد وكذلك استجابة لمتطلباتها. وإذا رجعنا الى السلف الصالح من العلماء سواء منهم الشرقيون أم الغربيون، فإننا نجدهم مزجوا الثقافتين فكانوا موسوعات أدبية وعلمية ولا فرق عندهم بينهما في القيمة المعنوية. اما الوضع ببلادنا، فهو يدعو للتفكير والتغيير، لانه خلق شرخا كبيرا بين التوجه العلمي والادبي وأفرز ظاهرة غير صحية شبيهة بالتمييز العنصري وهي” التمييز التكويني “. وقلب موازين الشرف والقيمة الاجتماعية. ولتدارك الوضع، وجب على المسؤولين،

  • أولا: إعادة التفكير في صياغة البرنامج الادبي لجعله اكثر مواءمة مع التغيرات الحالية (لان التجديد له طعمه الخاص)،
  • ثانيا: الزام القطاع الخاص بفتح اقسام التكوين الادبي،
  • ثالتا: إعادة النظر في استرجاع همته وتقديره بتوفير منح للطلبة المتفوقين لمتابعة دراستهم العليا وفرص التبادل الثقافي على غرار التحفيزات في المواد العلمية.

والمسؤولية تقع على الدولة بصفة عامة والأحزاب السياسية بصفة خاصة للنهوض بهذا القطاع الحساس والأساسي لتفادي الاختلال أولا ودفع عجلة التطور ثانيا. وهذا الاقتراح وارد بصقة فورية، لا يتطلب الا إرادة سياسية تعي خطورة هذا الوضع، فتقدم على إصلاحه. وجزء آخر من هذا الوضع الذي ينذر بضعف القيم، راجع بالأساس الي تغييب الوازع الديني الرامي الى تقوية الجانب الخلقي بتغذية القلب والروح كما أثبتها المفكر الراحل مالك ابن نبي رحمه الله. أجل، إن شقاء الإنسان في شخصه وأمته وعلمه من ضعف روحه. فالروح هي الوزن في الشعر والتناغم في الغناء والانسجام بين الآلات الموسيقية، ولو قويت الروح لعمت المحبة والأخوة وسادت الأخلاق الرفيعة وعظم السلم وقلت الحرب . لقد حث على الفكرة الدينية كمدخل أساسي لبناء حضارة إنسانية متزنة مضمونة الاستمرارية. ولا أنجع ولا أجدى من تناغم الثقافتين لتدارك الأمر. وبالنسبة للفكرة الدينية، فيجب إعادة النظر في تدريس التربية الإسلامية بمقاربة واقعية وتشويقية تلامس الحياة اليومية للمتلقي بالتركيز على الجانب الخلقي العملي، أي تدريس فن التعامل مع الاخر انطلاقا من قول رسولنا الكريمالدين المعاملة “؛ هذه المعادلة الرياضية التي تشمل جميع جوانب الحياة ويصح فيها تأليف مجلد. كما اقترح الغاء الحفظ الميكانيكي للقران وتعويضه بالآيات القصيرة والواضحة والأحاديث النبوية المبسطة التي ترسخ تلك القيم الراقية في التعامل مع الأخر وتخليق الضمير. ومن البديهي ان للثقافة الأدبية أثر واضح في تثبيت الفكرة الدينية؛ يجب فقط حسن اختيار الكتب القيمة للمفكرين التنويريين كأستاذ الأجيال احمد امين (لا على سبيل الحصر) واقترح موسوعته الرائعة  “فيض الخاطر “. زد على هذا، ان اهتمام العالم بالجانب الادبي والاديب بالجانب العلمي يفرز نهضة قوية ثابتة تطارد مركب النقص وتجب هذا “التمييز التكويني” لتقود المتخصصين بشقيهما الى حسن التقدير المتبادل والتعاون فيما بينهما لخدمة الصالح العام . ولإنجاح هذا المشروع، وجب إعادة توزيع الشرف والتقدير بالتفكير في تخصيص جوائز تقديرية مع رد الاعتبار الى هذا التخصص، حتى يتساوى الاديب مع العالم ويسود شعور عام بان الامة في حاجة ماسة اليهما الاثنين لتسيير شؤونها تسييرا عاقلا متزنا ومحكما بتلبية حاجياتها ومطالبها المتعددة، وهكذا تضمن لها الرخاء المادي والرقي الحضاري والتقدم الفكري.

وفي نفس السياق الإصلاحي بالمجال التربوي، والذي يعاني من انتكاسة خلقية ملموسة ومقلقة، وجب التفكير في إعادة النظر في برمجة المراحل الأولى من التدريس. ولدي اقتراح استوحيته من النظام الياباني لأنه اعطى ثماره بصفة قاطعة؛ بدليل ان اليابان، التي كانت في ذيل الدول المتخلفة في نهاية القرن 19، أصبحت تنافس اقوى دول العالم مع ضعف الموارد الطبيعية ؛ لكن استثمارها الجيد و المستبصر في الموارد البشرية قادها الى الريادة. وبالنسبة لنا، آن الأوان ان نقتبس من مصادر جديدة وملهمة لاسترجاع علو همة وهيبة منظومتنا التربوية تتناسب و حضارتنا الإسلامية العريقة  . وهذا الاقتراح يصب في تخصيص سنتين من التعليم الابتدائي في تدريس المواطنة   وآداب السلوك وفن المعاملة الراقية  LE CIVISME  L’ ETIQUETTE ET L’ART DU COMPORTEMENT EN SOCIETE معززة بأوراش وأنشطة تطبيقية.

ولدي إحساس شبيه بالإيمان أن هذا المشروع سيعطى اكله لأنني استوحيته من رسولنا الكريم مرورا بالعالم الجليل الخوارزمي ووصولا الى أمير الشعراء أحمد شوقي الذين اثبتوا بالإجماع ان صلاح الامة بصلاح أفرادها وصلاح افرادها بصلاح اخلاقها ولا قيمة لعلم او معرفة او حتى وجود بدون أخلاق؛ فالوجودية رهينة بالأخلاق، وسقوط حضارات سابقة راجع بالأساس الى انحطاط اخلاقها. وبالعودة الى هذا البرنامج، وجب تعزيزه، بدروس في الموسيقى (لما للموسيقى من اثر في تهذيب الاذواق وتزكية النفوس) والرسم (لتطوير ملكة الابداع والخيال) والبستنة (لتحسين المزاج وتحبيب الجمال) والمسرح (لتطوير ملكة التواصل والثقة بالنفس) كما اقترح التفكير في امتداد تدريس الموسيقى  الى فترة التخرج حسب الإمكانيات. وهكذا يصبح التطبع مع الوقت طبعا. كما أقترح إلغاء الامتحان الذى يولد الخوف عند الطفل في هذا السن المبكر(كما نبه اليه  العالم الجليل ابن خلدون العالم الذى اثبت ان الخوف مضر بالمتعلم وخصوصا في هذه السن المبكرة) ؛ وهكذا نجنب المتلقي ذلك الضغط بسبب مواد الحفظ الميكانيكي والذي يرهق الطفل ويضعف قواه الفكرية إلى حد نفوره من المدرسة . بل على العكس، بهذا النموذج التربوي التعليمي الجذاب الرامي الى تعلم فن الحياة، سيجد الطفل كل المتعة والتشويق في هذا الفضاء الباعث على التنوير وتوسيع الآفاق، كما يشرح له صدره لحب العلم والمعرفة فيما بعد إلى درجة الشغف وهو غاية الغايات. وتحقيق هذا الغرض، (كما اشرت له سابقا) يستوجب إرادة قوية للتنفيذ؛ والمثل الشائع والساري المفعول يقول: بالإرادة كل شيء ممكن SI ON VEUT ON PEUT . وأملنا كبير في الضمائر الحية، التي تتجاوب وتتفاعل مع كل من يتفانى في حب هذا الوطن الحبيب، لأنهم يسعون بكل قواهم ليكون في طليعة الأمم الراقية. والسبيل الوحيد لضمان الرقي والتقدم والتعليم هو التربية الوجدانية الاجتماعية  والتعليم المتوازن. ولا أنسب ولا أحق من المدرسة للقيام بهذه المهمة، لأنه إذا تعلق بها الطفل فأحبها واقتنع بها، فكل ما يتلفاه منها بعد هذه الفترة، يكون موضع قبول واستيعاب واستحسان؛ وهكذا تضمن المدرسة بمختلف مستوياتها، تحقيق الرسالة التي خلقت من أجلها. فيسعد المجتمع بصلاح أفراده، وترقى الأمة برقي المجتمع وعلى جميع الأصعدة اذكر منها، الرقي الخلقي والفكري والثقافي والعلمي.

ولدي إحساس شبيه بالإيمان، أن هذه الخطوة ستعود على الفرد والمجتمع والأمة بالنفع الكبير. وان تطورت بعض الأمم فلأنها أدركت أن تقدمها رهين بحسن تربية أفرادها والاستثمار في تربيتهم ومنذ أولى مراحل حياتهم. ولهذا كان الاستثمار والتفكير الجيد والرؤية الثاقبة أولى اولوياتهم.

ولا تحسبوني ابالغ أو أجازف فهذه الأفكار هي وليدة حس وطني قوي ونزعة إنسانية فطرية عززها انطباع إيجابي استوحيته من مناهج تربوية وتعليمية آمنت بها بعض الدول، فرأت النور وحققت بها المعجزات الملموسة، فغبطتها على تلك النتائج السارة وتمنيت تطبيق نهجها ببلدي بقناعة راسخة ولمسة محلية تحافظ على خصوصية ثقافتنا .

وإن اعتقد البعض أنى أحلم، فإن حلمي قابل للتحقيق لأن هناك  ضوء في الأفق اعني بوادر تشير الى المضي في هذا الطريق، بفضل الطاقات الإيجابية والنو جت للناس ايا الحسنة المنخرطة في التغيير للأفضل كي ترقى بلادنا الى المكانة التي تليق بها حسب التخطيط و الوعد الإلهي : “كنتم خير امة أخرجت للناس….” وما هذا على الله ببعيد .

إنه الهدف الأسمى والإنجاز الأبقى للحفاظ  على  فطرتنا المطبوعة على الخيرية و النبوغ و الرقي بالعمل الجاد و المعقلن وحتما نسترجع الريادة والعزة والهمة بإذن الله :” ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين…”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى