أدب وفن

صفقة الوهم …بقلم الروائي محمد إقبال حرب

صفقة الوهم


صديقي الذي غاب وارتحل يومًا كان على عجل.  راسلني من المستقبل حيث وصل مع سمسار الوهم ليتّقي شرّ العوز ومذلّة عصر الحقارة. 


قال لي قبل السفر: أصبحت الحياة بلا أمل، بلا كرامة. هكذا حياة لا تستحق أنفاسي، ولا تستحق عناء الصراع لاسترداد بعض ما ضاع من عمري هباءً دُفن في لحد وطن تم قتله مرارًا وتكرارًا مع سبق الإصرار والترصد بأيدي الأوصياء والعرّابين الذين أقسموا على الوفاء كاذبين غادرين. لقد وُلدت في كمد، ولاحقني البؤس والشقاء إلى الأبد مع أموات ظننتهم أحياء. لذا قررت الرحيل الى المستقبل.


قلت مستغربًا: وهل أصابك الجنون  أم تظنني ساذجًا حتى أصدق هذا الهراء!
قال: لقد زارني سمسار الشيطان واشترى عشر سنوات من عمري ينقلني مثلها إلى المستقبل. وحيث أن المستقبل مغر كما تقول  “اعلانات” المتفائلين والمنجمين رضيت من دون تفكير وعقدت صفقة الوهم من دون تردّد. نعم، رضيت بالصفقة، إذ لا يمكن أن يكون مستقبلنا بأية حال أسوأ مما نحن فيه.   
تنهد وقال: ألسنا في الحضيض؟ ألا نتسوّل أسباب الحياة لنا ولأطفالنا بينما يدوس الآخرون على كرامتنا بسعادة الظفر؟
قاطعته قائلًا: وهل ضَمِن لك السمسار حبور القلب وبسمة سعادة نقية في المستقبل المزعوم؟ بل كيف تثق بالشيطان وسمساره؟


قال: انه المستقبل الذي ننتظره، لا  بد أن يكون أفضل. وثقتي بالشيطان  أصدق من ثقتي بزعماء الوطن.
فجأة اختفى بلمح البصر وتركني  امقته لاستحواذه على فرصة الفرار  من أمة تكره الحياة وتسعى للموت  والفناء في سبيل آخرة حسنى  تعوضها عن جبنها وسوء قراراتها.


صديقي الوفي لم ينسَ مأساتي  فأرسل لي مع شيطانه رسالة وفاء من مستقبل يتمناه ليجدد خلايا انسانيته التي أصابها الضمور. فرحت بالرسالة التي خِلتها تأشيرة سفر، بل عقد شيطاني ينقذني من بلاء طالما كبَـته كبرياء. “ما أوفاك يا صديقي”، قلت لنفسي وأنا أفتح الرسالة
صديقي:
استمتع حيث أنت بقليل الماء وشح الكهرباء، واستمتع ببقايا الطعام  وعبوس الأيام. بل تمتع بروائح الفساد التي تنهش أجسادكم. لقد وجدت مستقبل الأمة ظلام دامس، وبؤس عابس. حروبها أكثر شراسة في دويلات عصبية طائفية متناحرة. حروب لا تتوقف رحاها عن اعتصار كرامة البشر تحت محادل الطائفية زيوتًا يشعلها الزعيم في حضرة الشيطان قرابين شكر. لا لم تُفرز الأيام مستقبلًا زاهرًا ولا بلدانا عامرة بالسلام. لقد وجدت المستقبل خراب، ضباب وسراب حيث عزلته باقي الأمم حتى لا تصيبها “متلازمة لبنان”.  لقد انتصر الشر في وطننا وأصبحنا  كحديقة الحيوان. ترمي لنا الأمم  فضلاتها لإسكات دعوات الحروب بعد الأذان ورنين الأجراس التي تدعو لسفك دماء الجار وابن الوطن. نعم ما زالوا يتقاتلون، يتحاصصون، يتقاسمون حتى أشلاء القتلى. يقتلون ويشكرون باسم الكراهية التي يرضعون، باسم الزعيم الذي يعبدون، ذاك الذي يعلف المقاتلين كراهية الآخر ويقدم لهم عجينة الدم المسفوح حتى اكتنز لحمهم كرهًا وضغينةً ومقتًا.  
يا صديقي، تتسارع بكم الأيام الى ما تحت منازل  الحقد والكراهية حيث ظلام البصر  والبصيرة يرتشفان من خابية النسيان عفن الاخلاق. كلهم يصرخون باسم  الله قاتلين، كلهم يحملون رايات  الدين أسلحة قتل.  وفناء، لا فرق بين دين أو طائفة  وأخرى، فما تربوا  عليه أثمر أنيابًا وخيانتهم أصبحت حجابًا يقيهم شرور الانسانية.
لقد وصلت إلى مستقبل الأمة قهقرى، فوجدت ان  امتنا انجزت ما يثبت كذب علماء العلوج. فنحن   نتقدم إلى الوراء، ونعيش أجمل  أيامنا في الدفاع عن الغابرين، نقتل بعضنا بعضًا ثأرًا لهم بسلاح الحقد والكراهية. أصبحت البلاد في المستقبل ماضيًا من الجهل، واحة خراب يتملكها كل ذي مخلب وناب ولا تسمع إلا عواء الذئاب.
ما يسعدني هو أنني تجاوزت مراحل الاضمحلال إلى حيث أصبح  الموت رجاء والسعادة في الفناء.
يجدر بي أن أعطيك جرعة أمل، لكن كيف لي أن أكذب عليك واغشك كما فعل بنا أهل السلطة. ولا أستطيع أن أعطيك جرعة أمل لأن إخواننا في البشرية احتكروا أمل الإنسانية كما سبل الحياة الأخرى من دواء وغذاء وهواء


لا لن أسمح لنفسي بترديد الدعاء وطلب الغوث من السماء لأنني أخجل من وجودي الذي ترعرع على الكذب والنفاق والخنوع المجبول بالمذلّة… كلنا جبناء، جبناء، جبناء.
يا صديقي السماء لا تستجيب للعبيد الأذلاء؟
وداعًا من مستقبل حقير إلى حاضر  مرير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى