نوبل للآداب 2021.. عبد الرزاق قُرنح ذو الأصول العربية يحكي عن الاستعمار والعنصرية والحنين إلى الوطن
شاب يجلس تحت شجرة الغار، يدون مسحورا ما يتلقاه من ربة الإلهام، هذا هو المشهد المنقوش على ميدالية جائزة نوبل للآداب، وحول هذا الرسم كُتبت باللاتينية عبارة “Inventas vitam iuvat excoluisse per artes”، والتي يمكن ترجمتها إلى “هؤلاء الذين عززوا حياة البشر على الأرض عبر استكشاف الفنون”.
اقتُبست تلك الجملة من الكتاب السادس من ملحمة الإنيادة التي كتبها الشاعر فرجيل باللاتينية في نهاية القرن الأول قبل الميلاد، وعلى الميدالية البديعة التي صممها النحات السويدي إريك ليندبيرج، حفر اسم “Abdulrazak Gurnah” أو “عبد الرزاق قرنح”، الكاتب التنزاني من أصول يمنية والمقيم في بريطانيا، والذي أصبح للتو الفائز الأخير بالجائزة المرموقة.(
طبقا لمنشور الكاتب الصحفي المصري محمد شعير على صفحته على فيس بوك المصحوب بلقطة شاشة (screenshot) للصفحة الرسمية لعبد الرزاق قرنح على تويتر، فإن قرنح أعلن عن فوزه بجائزة نوبل قبل الإعلان الرسمي للجائزة بعدة ساعات، وهو الإعلان الذي لم ينتبه إليه أحد تقريبا، حيث لم يكن عدد متابعيه يتجاوز 500 شخص، وهو العدد الذي تزايد بمرور الساعات بالطبع، حيث تخطى 5700 متابع لحظة كتابة هذه الأسطر، ومن المتوقع أن يقفز بالطبع في الساعات التالية.
أصول عربية
من قلب بلدة الديس الشرقية التابعة لمحافظة حضرموت اليمنية، هاجرت عائلة عبد الرزاق إلى جزيرة زنجبار القريبة من الساحل الشرقي ﻹفريقيا في أربعينيات القرن الماضي، حيث وضعت مولودها الذي عرفه العالم للتو عام 1948. تلقى عبد الرزاق تعليمه الابتدائي والمتوسط في الجزيرة، لكن الأمور تغيّرت بعد الأحداث الدموية التي عصفت بزنجبار في ظل نظام الرئيس عبيد كرومي بعد الثورة والاستقلال، والقمع الذي تعرض له المواطنون ذوو الأصول العربية.
في ظل هذه الأجواء، اضطر عبد الرزاق قرنح للهرب إلى بريطانيا عام 1968 قبل أن يتم العشرين من عمره، حيث عمل منظفا في أحد المشافي لفترة، واستطاع أن يستكمل تعليمه ويحصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من كلية رذرفورد بجامعة “كنت” في كانتربري عام 1982، ليُعيَّن في عام 1985 أستاذا للأدب ودراسات ما بعد الكولونيالية في الجامعة نفسها.
طبقا لبيان الجائزة جاء اختيار عبد الرزاق قرنح للتتويج بجائزة نوبل للآداب 2021 “تقديرا لسرده المتعاطف والخالي من أي مساومة ﻵثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات”، كما أشاد البيان “بتمسكه المتفاني بالحقيقة وإحجامه المذهل عن التبسيط… حيث تتجنب رواياته الوصف النمطي، وتفتح أنظارنا على شرق أفريقيا المتنوع ثقافيا وغير المألوف للكثيرين في أنحاء أخرى من العالم”.(2)
وعلى الرغم من أن معظمنا ربما لم يسمع به من قبل، يحظى عبد الرزاق قرنح بحضور لافت على الصعيدين الأميركي والأوروبي، وتُدَرَّس العديد من رواياته في عدد من المناهج الجامعية لأدب ما بعد الكولونيالية، لكنّ لم يُترَجم أي من أعماله بعدُ إلى العربية. وسبق أن نال عبد الرزاق قرنح جائزة راديو فرنسا العالمي، ورُشِّحت رواياته في القائمة القصيرة للبوكر وجائزة الكتاب التي تقدمها مجلة لوس أنجلوس تايمز. وقد ألّف الأديب التنزاني 10 روايات حتى اليوم، وهي: ذاكرة المغادرة (1987)، طريق الحج (1988)، دوتي (1990)، الجنة (1994)، الإعجاب بالصمت (1996)، عبر البحر (2001)، الهجر (2005)، الهدية الأخيرة (2011)، القلب الحصى (2017)، الحياة بعد الموت (2020).
ويبدو أن تجارب قرنح الذاتية المرتبطة بصباه في زنجبار، وهجرته المبكرة نسبيا إلى بريطانيا، تحضر بقوة في أعماله الروائية جميعا، تلقي بظلالها على شخصياته الروائية والتي يبدو الكثير منها ممثِّلا بشكل أو بآخر لمراحل مختلفة من حياته وتجربته الشخصية، معتمدا في الكثير من رواياته على السرد الخلفي بتقنية “فلاش باك”.
تتناول أغلب أعمال عبد الرزاق قرنح الإرث الاستعماري وما بعد الاستعماري لمنطقة الساحل الإفريقي، معرية بقسوة لا تهادن الممارسات الاستعمارية والسياسية في كل من بلاده وبلاد المهجر، ومسلِّطة ضوءا حادا على تجارب الشتات والتمييز العنصري التي تواجه المهاجرين الأفارقة عموما، وفي بريطانيا على وجه التحديد.(3)
تجربة ذاتية
على الرغم من نزوحه إلى بريطانيا في العشرين من عمره، إلا أن عبد الرزاق يبدو كأنه لم يفارق موطن الصبا، وكأن رحيله وارتحال أبطاله هو استعادة للوطن البعيد مرة تلو الأخرى في كل عمل.
يبدو الرحيل والرغبة في الانعتاق حلما يسيطر على أغلب شخصيات عبد الرزاق قرنح، سواء تلك التي تبدأ رحلتها الروائية من الوطن، أو تلك التي تبدأ من المهجر. هناك رحلة ما يتبعها الشخوص، خلاصٌ يسعَون إليه، وهو خلاص شائك محمل دائما بالإرث الدموي المصاحب للاجئ الإفريقي في زمن ما بعد الكولونيالية.
تظهر هذه الرحلة والسعي نحو الارتحال منذ روايته الأولى “ذاكرة الرحيل” المنشورة عام 1987، حيث نتابع رحلة الراوي (حسن) الذي يعيش في مدينة ساحلية صغيرة في بلد شرق إفريقي، تشجعه والدته على زيارة خاله الذي أصبح رجل أعمال ثريّا في نيروبي، يهرب حسن من مدينته الصغيرة البسيطة وفساد والده المسؤول الحكومي المحلي، إلى مدينة كبرى حديثة تبهره أضواؤها. لكن العالم الجديد الذي لم يكن يعرف قواعده يطحنه بقسوة، كاشفا عن زيف قشرته اللامعة، يتكشَّف لحسن ماضي خاله، والفساد المستشري في المدينة الكبرى، لينتهي به الحال على سفينة مرتحلا مرة أخرى في البحر.
نشهد أيضا ثيمة الرحيل في رواية “عبر البحر“، هنا يصل صالح عمر إلى بريطانيا لاجئا من زنجبار طالبا للحماية، الصدفة وحدها تضعه في مواجهة قاسية مع ماضيه المتمثل في المترجم “لطيف محمود”، لينكشف لنا الماضي الموحش والقبيح الذي يسعى كلاهما للهرب منه. وعبر استخدام ضمير (الأنا)، لكن بصوتين وعلى لسانين متباينين، لسان صالح الهارب من جرمه، وأيضا على لسان ضحيته مستعينا بتقنية الفلاش باك، تصبح الذاكرة والندم هما المسيطرين على المشهد.
يستعرض قرنح كيف غيرت خرائط التجارة الاستعمارية القرن الإفريقي وأثرت على البلدان الصغيرة بطول الساحل، مركزا الضوء على الأثمان الفادحة التي دفعها الناشطون والصحفيون في موطنه الأم، وهو يسلط الضوء أيضا على ممارسات الاتجار بالبشر، والإساءات الجنسية للأطفال، وهو الموضوع الذي يركز عليه في روايته (الفردوس).
نُشرت رواية “الفردوس” عام 1995، وتتتبع رحلة الطفل يوسف الذي يبيعه والده في الثانية عشرة من عمره لسداد ديونه، يقطع يوسف رحلة ملحمية مخلفا وراءه جنة الطفولة البسيطة، إلى واقع استعماري لا يعرف عنه شيئا، على خلفية الحرب العالمية الثانية. في خلفية الأحداث، يقدم عبد الرزاق قرنح تشريحا عميقا ودقيقا للتاريخ من خلال وجهة نظر الطفل يوسف، وحكايات الشخصيات الثانوية التي يلتقيها خلال رحلته، مع تأثيرات واضحة للرواية القرآنية عن النبي يوسف، كما نلمح أيضا تأثره في هذه المرحلة المبكرة برواية جوزيف كونراد “قلب الظلام”. لكن على عكس النهاية السعيدة لقصة النبي يوسف، يُجبَر بطل الرواية على التخلي عن محبوبته “أمينة” والانضمام للجيش الألماني الاستعماري، وكأن تلك هي المنطقية الوحيدة لطفولة عصفت بها الأطماع الاستعمارية التي غيرت خريطة القرن الإفريقي، وخريطة عالم الطفولة الهشة للبطل أيضا.
وفي رحيل عكسي من المهجر إلى الوطن، نشاهد بطل روايته “الإعجاب بالصمت” المنشورة عام 1996، والتي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر، نلتقي ببطل في منتصف العمر، يعمل مدرسا في إحدى ضواحي لندن، بعد أن هجر موطنه في تنزانيا وتزوج من إنجليزية.
الصمت هنا هو الإستراتيجية التي يلجأ إليها الراوي لتجنب الصدام بين الماضي والحاضر، وحماية هويته، حيث يختار الصمت مخفيا ماضيه عن عائلته الإنجليزية، ومبتكرا ماضيا مخترَعا متوائما أكثر مع عالمهم المشترك. يصبح الصمت مزدوجا حين نكتشف أنه يخفي حياته في المنفى عن عائلته في زنجبار، وحقيقة زواجه في إنجلترا وإنجابه لابنة في السابعة عشرة من العمر.
محاصَرا بمهنة يكرهها، وزوجة إنجليزية لا تفهمه، وابنة مراهقة منعزلة عنه، يشعر البطل بالضياع وتتحول حياته إلى شظايا، وتتحطم حياته تماما عندما يصارحه طبيب أمراض القلب بحقيقة مرضه. في ارتحال عكسي، يقرر البطل العودة إلى الحياة التي هجرها في موطنه، من المهجر إلى الوطن، في رحلة يعري فيها قرنح قبح الفساد السياسي المسيطر على تنزانيا من خلال أعين المهاجر العائد بعد غيبة 20 عاما. تنهار حياته العائلية، لكنه يلتقي ما يشبه وعدا بالخلاص مع امرأة هندية يلتقيها في رحلة عودته مجددا إلى إنجلترا، وكأن المنفي لا يجد خلاصا إلا بصحبة منفي مثله.
طقوس خاصة
في حوار مع جريدة المدى العراقية، يتحدث عبد الرزاق قرنح عن طقوسه الخاصة بالكتابة خاصة في ظل انشغاله بالعمل الأكاديمي قائلا: “أكتب خلال العطل الجامعية وعندما أحصل على منحة تفرغ من الجامعة، هكذا كتبت رواياتي بين التدريس والمقالات. أكتب في بيتي، وبشكل ما لا تبدو عملية الكتابة الروائية في مكتبي الجامعي مناسبة أبدا. مكتبي هو مكان اصطناعي يساعدني على كتابة البحوث والمقالات والمحاضرات”.(4)
المصدر : الجزيرة نت